الثورة المضادة..ونفاد الرصيد
سبع سنوات مضت على انبعاث الشرارة الأولى للثورة.. شرارة لم يكتب لها أن تتحول إلى لهيب يطهر البلاد من دنس نظام عاث فسادا وإفسادا وأذاقنا من العذاب صنوفا وألوانا. لقد باغتت الثورة سدنة النظام الديمقراطي وأجبرت بعضهم على التواري والبعض الآخر على ركوب موجة النفاق والانخراط زورا في الثورة، إلى حين انتهاء الأيادي المرتعشة من إجراءات إعادتهم إلى الواجهة.
لقد نفذوا من ثقب التوافق تحت رعاية الدجالين الجدد, الذين أتت بهم رياح الثورة وظن الناس بهم خيرا، والحال أنهم الوجه الآخر للنظام الرأسمالي مع الاختلاف في الشكل لا غير. سبع سنوات ظلت الأوضاع المزرية تراوح مكانها بل ساءت أكثر مما كانت عليه. الشيء الذي فسح المجال لأعداء الثورة لتحميلها خيبة أمل الناس في التغيير نحو الأفضل مستغلين انحياز الإعلام المفضوح لهم. فمنذ الوهلة الأولى لهروب المخلوع “بن علي” بدأ الإعلام يمهد الطريق لثورة مضادة تبقي النظام بجميع أشكاله ومضامينه, بل الأصح بكل مآسيه وفظاعاته التي جعلوا منها مطية لتشويه الثورة في مرحلة أولى ثم كتم أنفاسها في مرحلة تالية. فهم رموا الثورة بما اقترفه ومازال يقترفه نظامهم الفاشل والعاجز بطبعه.. فالوضع الاقتصادي المتدهور, وتفشي الفقر واستفحال البطالة هي بالأساس وبالتحديد من أبرز انتاجات هذا النظام. لكنهم وكما سبق الذكر نجحوا بعض الشيء في التلبيس على الناس وأوهموهم أن ما تعانيه البلاد اليوم هو بسبب الثورة, خاصة وأن هناك بعض المظاهر السلبية طفت على السطح في السنوات السبع الأخيرة ولم تكن موجودة في عهد المخلوع. وحتى هذه من إفرازات النظام ولا دخل للثورة في ظهورها, هذا من جانب الطعن في الثورة وهزّ ثقة الناس بها. أما الجانب الأخطر والأهم فهو السعي المحموم لتثبيت النظام وتكريس أبشع ما يميزه وهو الارتهان للغرب والعمل على المحافظة على مصالحه وتثبيت نفوذه. فكل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة لم تدخر أدنى جهد لترسيخ هيمنة المستعمر فكرية كانت أو سياسية أو اقتصادية, وحجر الزواية في هذا التمشّي كان الدستور الذي صاغته أيادي آثمة دفعتها وساوس شياطين الغرب لتخطه بما يكفل ديمومة النظام الديمقراطي الوضعي ويأبد سريان ظلمه وبطشه. وهذه الفرية الكبرى جعلوها من أعظم مزايا الثورة لا لشيء غير إضفاء مشروعية مزيفة على جرمهم البشع في حق البلاد والعباد, فما كان يفرضه “بورقيبة” و” بن علي” بالحديد والنار جعله مشعوذي الثورة المضادة يتم تحت ما يسمونه بقداسة وعلوية الدستور الذي كل فصل فيه هو منكر يجب إزالته, وذلك يتطلب ثورة لا يقدر خفافيش الظلام على ركوبها وحرفها عن مسارها. وتلك الثورة المنشودة شرع حمقا الثورة المضادة في وضع لبنتها الأولى من حيث لا يشعرون فلقد فاتهم أن خروج الناس على “بن علي” مرده الظلم والتهميش والغياب التام لرعاية الشؤون ولم يكن لديهم إدراك واعي بالمسبب الفعلي لمعاناتهم حيث كانوا ينسبون كل الجرائم المرتكبة في حقهم وحق بلدهم إلى شخص “بن علي” وبطانة السوء المحيطة به وكانوا يتوقعون أن ما هم فيه من ضنك وذل ومهانة سيزول بمجرد اختفاء “بن علي ” وزبانيته, كان هذا هو الاعتقاد السائد لدى أغلب الناس, لكن مع تتالي الخيبات والنكسات بدأت الأبصار والبصائر تتجه نحو وجهة أخرى غير الأشخاص. إنها ماهية هذه الدولة والسبب الذي جعل منها اسما بلا مسمى, وصفة انمحى منها الموصوف. فلا شيء تغير منذ ما يدّعون أنه استقلال.
ما يربو عن نصف مناطق البلاد تعاني الفقر في كل شيء فقر في المرافق الحيوية. غياب أي أثر للحياة بكل معانيها. بطالة, جهل, تخلف, صحة منعدمة أو تكاد, كل هذا موجود ويزداد تفاقما يوما بعد يوم, خاصة بعد ثورة كان كل مطامح من قاموا بها مغادرة قاع الهوان, فإذا بهم يقعون في الدرك الأسفل منه. حصل ذلك والوجوه في الحكم تتغير بشكل مطرد, إلّا حال البلاد والعباد بقى كما هو عليه, وهذا يعني بداهة أن المعضلة تكمن في طبيعة هذه الدولة ونظامها الديمقراطي لا في الأشخاص فحسب. وان فسادهم مأتاه فساد النظام وبالتالي لا خير يرجى من ذهاب فلان وقدوم علّان, دون استئصال الورم الخبيث من جذوره. الورم الذي يعمل كما سبق وأن ذكرنا, يعمل مشعوذو الديمقراطية والعلمانية وكل حاملي العاهات الفكرية من الحداثيين على تصوريه لنا على أنه صحة وعافية ولا حياة لنا من دونه.
فكما أوغلوا في السير تجاه تكريس ديمقراطيتهم, وكلما استماتوا في الذود على مدنية دولتهم –مع تجنب تام لذكر علمانية الدولة- كلما ارتفع منسوب الوعي لدى الناس وتنامى إدراكهم بأن النظام هو السقم والداء الذي ينخر جسم البلاد. والأروع من هذا كله هو وقوف الناس على حقيقة لم يعد بمقدور الرويبضات على إخفاء شمسها بغربال الدجل والخداع. إنها حقيقة كون من حكمونا ومن يحكموننا اليوم ما هم إلا بيادق تحركهم أيادي مستعمر غاصب لثرواتنا ومصادر لكل مقوماتنا الفكرية والسياسية والاقتصادية. نعم هذا أهم ما عجز عرّابو الثورة المضادة على إخفاءه.
إذن فالثورة المضادة أصبحت قاب قوسين أو أدنى من بلوغ نهاية النفق المسدود الذي حشرت نفسها فيه, وبدأ رصيدها من التزييف والكذب آخذ في النفاد. فكل حبال الديمقراطية والحرية التي ألقوها بعد أن أرهبوا عقول وأعين الناس فخيل لهم أنها هي الأنسب والأنجع لتحديد نمط عيشهم, أتت فئة صادقة مخلصة ألقت وعيها فتلقف ما صنعه الغرب بالتآمر مع من جيء بهم ليحكمونا وأبطل كيدهم. وعي أساسه الوحي كتابا وسنة أوله العمل على قلع هذا النظام الوضعي ونسف مفاهيمه وأفكاره وآخره إقامة دولة أمر بها رب العزة. أما تلك الفئة فهي شباب حزب التحرير الذي أقض مضاجع الغرب وأعوانه بما فيهم أقزام الثورة المضادة.
حسن نوير