الجالية العربيّة والإسلاميّة تلدغ مجدّدا من جحر الانتخابات الأمريكيّة
في كلّ محطّة انتخابيّة أمريكيّة ينخرط المرشّحون المتنافسون في حملة مغازلة للقوى السياسيّة ومراكز الضغط والأقليّات والجاليات التي يمكن أن تمثّل مخزونا انتخابيّا، والعزف على أوتار مصالحها وميولاتها السياسيّة وارتباطاتها الثقافيّة والعقائديّة في محاولة لكسب ودّها وحصد أصوات منتسبيها..ومن الطبيعيّ أن تختلف هذه الحملة حدّة وقوّة باختلاف حجم تلك المكوّنات وتمثيليّتها الانتخابيّة ومدى تأثيرها الاقتصاديّ والسياسيّ لاسيّما في إطار المنظومة الرّأسماليّة الجشعة ونظامها الجمهوريّ الذي يتعامل مع الانتخابات كآليّة لتسويق (سلعة) والتّرويج لها ويجعل من رئيس الدّولة مجرّد أجير لدى كبار اللوبيّات والشّركات العملاقة العابرة للقارّات، وهي بصفتها تلك سلاح فعّال قد يقلب موازين القوى رأسا على عقب ناهيك وأنّ هذا (الميركاتو السياسيّ) كثيرا ما ترتفع فيه أسهم الأقلّيات الميكروسكوبيّة وتصبح لها الكلمة الفصل في تحديد مسار الانتخابات عن طريق لعب دور (مرجّح كفّة الميزان) بما يفتح أمامها أبواب المناورة السياسيّة على مصراعيها..من هذا المنطلق وبالرّجوع إلى واقع الجالية العربيّة والإسلاميّة في أمريكا نلمس دون عناء أنّ هناك معوقات جمّة تحول دون تمكّنها من بناء قاعدة سياسيّة ومخزون انتخابيّ يساعدها في نحت موطئ قدم صلب الوسط السياسيّ الأمريكيّ، فهي تنوء تحت كلكل التّمييز والعنصريّة والإسلاموفوبيا والإرهاب بما يعرقل مساعيها في الاندماج فضلا عن التّأثير في المسار السياسيّ..في هذا الخضمّ المكيافلّي المتخبّط في وحل فنّ الممكنات وفي هذه البيئة السياسيّة المليئة بالتحدّيات والموبوءة بالكيانات العريقة المتجذّرة والمعادية حدّ الشّطط للإسلام والمسلمين، وفي ظلّ هكذا دولة رأسماليّة استعماريّة محاربة للإسلام كجزء من أمنها القومي مستبيحة لثروات المسلمين كحقّ مكتسب مشروع، هل يمكن للجالية العربيّة والإسلاميّة أن تمثّل ثقلا سياسيّا ورصيدا انتخابيّا يؤهّلها لأن تلعب دورا ما في السّياسة الأمريكيّة الخارجيّة أو حتّى الدّاخليّة يمكن أن يؤثّر إيجابا على مواقفها من العرب والمسلمين..؟؟
أوضاع مزرية
لقد عانت الجالية الإسلاميّة من أبشع أشكال التّمييز والحرمان من أبسط حقوق الأقليّات التي ينصّ عليها الدّستور الأمريكيّ صراحة ويكفلها المجتمع الأمريكيّ المكوّن أساسا من الأقليّات الإثنيّة والعرقيّة واللغويّة، وكان طبيعيّا أن يخفقوا في الاندماج الكلّي للتّباعد الحضاريّ المشطّ بينهم وبين العمود الفقريّ المكوّن للنّسيج المجتمعي في أمريكا، لاسيّما مع تفشّي الرّهاب المرضي من المسلمين..فهذه الظّاهرة يقع إذكاؤها بشكل منهجيّ من طرف اللوبي الصّهيوني والإعلام المحلّي لإبقاء المسلمين على هامش المجتمع الأمريكي في حالة من التوجّس والخوف المتبادل بينهم وبين سائر المكوّنات الأخرى، كما أنّ الأحداث السياسيّة تحتطب لها وتكرّسها وتنمّيها، فما أن تخبو نارها حتّى تتّقد مجدّدا (11 سبتمبر ـ فلسطين ـ أفغانستان ـ باكستان ـ العراق ـ سوريا ـ ليبيا ـ طالبان ـ القاعدة ـ داعش..)..أمّا على المستوى الكمّي فالمسلمون لا يمثّلون ثقلا معتبرا (04 ملايين من جملة 340 مليونا ما يمثّل 1.2 بالمائة من مجموع السكّان) وهم إلى ذلك من أكثر المجموعات الدينيّة تنوّعا عرقيّا ـ بما يعرقل تواصلهم وتوحّدهم ـ وأقلّهم ثقلا اقتصاديّا فأغلبهم من الطّلبة والجامعيّين والفنيّين والعملة المختصّين وغير المختصّين، وقد ظلّوا بمنآى عن العمل السياسيّ ولم يسجّلوا حضورهم في الدّوائر العسكريّة إلاّ نادرا وبرتب متدنّية..مطلع السّبعينات شهد حدثا فارقا في تاريخ الجالية الإسلاميّة بأمريكا وتمثّل في نشوء المؤسّسات السياسيّة الإسلاميّة الكبرى (مجلس العلاقات الإسلاميّة الأمريكيّة «كير» ـ التحالف الإسلاميّ الأمريكيّ ـ المجلس الإسلاميّ الأمريكيّ ـ مجلس الشّؤون العامّة الإسلاميّ) وهو حدث قد يُفهم منه بداية وعي سياسيّ ورغبة في التنظّم، لكن وبمزيد التّدقيق في واقع هذه (الأخويّات والجمعيّات السياسيّة) نلاحظ أنّها نشأت بإيعاز من السّلطات الأمريكيّة لإحكام قبضتها على الجالية الإسلاميّة والتجسّس عليها وتوظيفها وقطع الطّريق أمام أيّ محاولة جديّة للتنظّم السياسي على أساس العقيدة الإسلاميّة..
بداية متعثّرة
إنّ عدم قبول المجتمع الأمريكيّ للجاليات الإسلاميّة وعدم قدرة هذه الأخيرة على الاندماج في ذلك المجتمع والذّوبان فيه خلق حالة من انفصام الشّخصية السياسيّة لدى تلك الجالية التي وجدت نفسها مقطّعة بين عالمين مختلفين متباينين: قلبها وجذورها في العالم الإسلاميّ وعقلها ومحفظة نقودها في بلاد العمّ سام، كما وجدت نفسها ـ شاءت أم أبت ـ على ثغر من ثغور الإسلام مسؤولة عن مصالح أمّتها في عقر دار عدوّها..إلاّ أنّ الانتقال السّريع والنّاجع من حالة (انعدام الوزن السياسيّ) التي فُرضت عليها إلى حالة (التّأثير في أهمّ نظام سياسيّ في العالم) التي تنشدها يبدو مستحيلا في ظلّ بيئة ثقافيّة معادية ومناخ اجتماعيّ عنصريّ حدّ النّخاع ووسط سياسيّ مكتسح بالكامل من طرف لوبيّات الضّغط الصهيونيّة..أوّل إطلالة للجالية الإسلاميّة على الوسط السّياسي الأمريكيّ كانت سنة 1969م حيث تركت بصماتها على الانتخابات المحليّة في الولايات التي تتواجد فيها بكثافة، ثمّ وانطلاقا من سنة 2000م انخرطت بثقلها في أهمّ المحطّات السياسيّة الأمريكيّة ـ ألا وهي الانتخابات الرّئاسية ـ طيلة فترتيّ كلّ من بوش الابن وأوباما..وقد استعدّ مسلمو أمريكا لخوض هذه التّجربة السياسيّة بمبادرتين استراتيجيّتين أولاهما: إنشاء مجلس تنسيقيّ لمؤسّسات الجالية الإسلاميّة فيما بينها والاتّفاق على وضع أجندة عمل مشتركة للمسلمين في الولايات المتّحدة، أمّا الثّانية فالاتّفاق على تصويت الجالية الإسلاميّة ككتلة انتخابيّة موحّدة وما استتبع ذلك من عمليّات سبر لآراء أبناء الجالية وحملات تسجيل النّاخبين في المساجد والمراكز الإسلاميّة في إجراء تجسّسيّ مفضوح..
انعدام وعي
هذه الخطوة ـ وإن كانت تعكس ظاهريّا قدرا من الوعي السياسيّ ورغبة في التنظّم وتوحيد الجهود ـ إلاّ أنّ الانخراط في العمل الميدانيّ طيلة العقدين الأخيرين كان مخيّبا للآمال، فالقراءة السياسيّة المستنيرة لتلك التّجربة تُجلي ما يلي..أوّلا: أنّها تجربة قائمة على ردود الأفعال الغريزيّة ومنطق المثير والاستجابة البعيد كلّ البعد عن التروّي والرّؤية السياسيّة الثّاقبة..ثانيا: أنّها تجربة مطلبيّة قائمة على المصلحة الفئويّة الحزبيّة الضيّقة، فقد انصبّ اهتمامها على الشّؤون الدّاخليّة للجالية الإسلاميّة الأمريكيّة والدّفاع عن حقوق أبنائها في عدم التّمييز ضدّهم أو الإساءة إلى مقدّساتهم دون أن ترتقي إلى مستوى لوبي إسلاميّ يؤثّر في مواقف الولايات المتّحدة تجاه قضايا العرب والمسلمين الدّوليّة..ثالثا: أنّها تجربة ضبابيّة مشوّشة قصيرة النّظر مفتوحة على شتّى الاحتمالات ليس لها خطّ واضح داخل الوسط السياسيّ الأمريكيّ..فالجالية الإسلاميّة ظلّت مذبذبة في خياراتها تؤيّد الحزب الدّيمقراطيّ في سياسته الدّاخليّة المنفتحة نحو الأقليّات وتؤيّد الحزب الجمهوريّ في سياسته المحافظة تجاه الأسرة والأخلاق، حتّى أنّها أحجمت عن مساندة المرشّح العربيّ عن حزب الخضر (رالف نادر) لاستحالة فوزه في الانتخابات..رابعا: أنّها انعكاس شرطيّ مسبق ضديد للموقف اليهوديّ ابتداء ومحكومة بمنطق (أخفّ الضّررين وأهون الشرّين) دون أدنى وعي أو تروّ..من هذا المنطلق ساندت الجالية بوش الابن في رئاسيّة 2000م ضدّ خصمه آل غور الموالي صراحة لإسرائيل مع أنّ كليهما صهيونيّ حدّ النّخاع، ناهيك وأنّ بوش اقترف في ولايته أشنع الجرائم في حقّ المسلمين (غزو أفغانستان وتحطيم العراق)..
انتخابات 2020 نموذجا
في انتخابات 2020 خضعت الجالية الإسلاميّة بأمريكا بالغريزة لهذا العامل الشّرطي والمنطق المكيافلّي: فقد أكّد حينها 75 بالمائة من النّاخبين المسلمين دعمهم للمرشّح الديمقراطيّ (دجو بايدن) على المرشّح الجمهوريّ (دونالد ترامب) نكاية في هذا الأخير الصّهيونيّ الفضّ المتعجرف الذي مرّغ شرف العرب والمسلمين وخذل قضاياهم المصيريّة وتاجر بأقدس مقدّساتهم في فلسطين وأذكى بمواقفه الرّعناء الإسلاموفوبيا في المجتمع الأمريكيّ..إلاّ أنّ الذي غاب عن تلك الجالية (المفعول بها) أنّها بخيارها ذاك لا يمكن أن تخرج عن أحد احتمالين: فإمّا أنّها قامت بما أريد لها أن تقوم به ووظّفت لتحقيق رغبة اللّوبيّات السياسيّة في أمريكا، أو أنّها قد أدلت بدلوها جزافا ولن يغيّر خيارها في النّتيجة المخطّط لها شروى نقير، وذلك للاعتبارات التّالية..أوّلا: أنّ السّاحة السياسيّة الأمريكيّة محكومة بثوابت وطابوات فوق كلّ الاعتبارات ومصالح عليا يتسابق الجميع على تحقيقها مهما كانت انتماءاتهم الحزبيّة (الدّعم الأعمى لإسرائيل وضمان تفوّقها على العرب أجمعين ـ الحرب على الإرهاب والسّعي الحثيث للقضاء على الإسلام وتركيع المسلمين ـ المحافظة على المصالح الأمريكيّة في العالم الإسلاميّ وتدعيمها ـ دعم السّياسة الأمريكيّ في الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى)..ثانيا: أنّ أيّ رئيس محتمل للولايات المتّحدة لا يُتصوّر أن يخرج عن هذه الثّوابت مهما كان توجّهه السياسيّ، صحيح أنّ السّياسة الأمريكيّة تتغيّر من رئيس وحزب إلى آخر ولكنّ ذلك على مستوى الوسائل والأساليب المعتمدة من حيث مرونتها وصلابتها..ثالثا: أنّ أمريكا دولة مؤسّسات للرّئيس فيها ربع صلاحيّات الحكم، أمّا الثّلاثة أرباع الباقية فموزّعة على (الكونغرس والبنتاغون والسّي آي آي) التي تردع الرّئيس عن أيّ تصرّف يتعارض مع الأمن القوميّ الأمريكيّ..رابعا: أنّ صندوق الاقتراع لا يعكس بالضّرورة نتائج الانتخابات الأمريكيّة، فللمحكمة العليا كلمتها التي قد تقلب الأوضاع رأسا على عقب، وما انتصار جورج بوش الابن على آل غور في انتخابات 2000 عنّا ببعيد..
مجدّدا من نفس الجحر
من نفس جحر هذا السيناريو الانتخابيّ السوداوي لدغت الجالية الإسلاميّة في الانتخابات الأمريكيّة الأخيرة (2024)، ولكن هذه المرّة بمنطق (عدوّ عدوّي صديقي): فرغم ماضي ترامب الأسود مع المسلمين في ولايته الأولى حيث انحاز بفضاضة ضدّ قضاياهم وأعطى لكيان يهود ما لم يعطه رئيس أمريكيّ قبله (صفقة القرن ـ التّطبيع..) ـ ناهيك وأنّهم عاقبوه في انتخابات 2020 ودعّموا منافسه بايدن ـ إلاّ أنّ الجالية الإسلاميّة خضعت بالغريزة للعامل الشّرطيّ (مثير/استجابة) وعادت لتدعّم ترامب نفسه ضدّ بايدن نفسه احتجاجا على انحياز إدارة بايدن لكيان يهود وجرائمه في غزّة ولبنان: فخلال حملته الانتخابيّة بالغ ترامب في مغازلة الجالية الإسلاميّة ووعدها بتحسين أوضاعها الاقتصاديّة وبوقف الحرب في غزّة ولبنان وبالحلّ العادل والاستقرار في سوريا..لكن ما أن استقرّ له الأمر حتّى كشّر عن أنيابه وقلب لها ظهر المجنّ بتعييناته الوزاريّة الأخيرة، حيث أسند أربع حقائب سياديّة وحسّاسة للرّباعي الصّهيونيّ الدّاعم بقوّة لكيان يهود (الخارجيّة لماركو روبيو ـ الدّفاع لبيت هيغسيث ـ سفارة كيان يهود لمايك هاكابي ـ سفارة الأمم المتّحدة لليز ستيفانيك)، وهي حكومة حرب على الله ورسوله تشي بنواياه المستقبليّة السيّئة ضدّ قضايا المسلمين..وبالمحصّلة فإنّ التّجربة السياسيّة للجالية الإسلاميّة الأمريكيّة ارتجاليّة سطحيّة وساذجة أهدرت طاقات المسلمين سدى وحوّلت أصواتهم إلى سلعة ومادّة خام في سوق الانتخابات لمن يحسن توظيفها وركوبها..وما لم تع على كيفيّة سير الماكنة السياسيّة والانتخابيّة الأمريكيّة وتسع إلى كسر طوقها، وما لم تغيّر ما بنفسها من وضع الأخويّات والجمعيّات السياسيّة إلى وضع اللّوبي السياسيّ الضّاغط والمتنفّذ، فإنّها ستظلّ مجرّد مخزون أصوات مفعول به ورصيد انتخابيّ موظّف من طرف أعدائه كمرجّح لكفّة الميزان لإقصاء مرشّح أو دعم آخر ضمن سياق سياسيّ لا ناقة للمسلمين فيه ولا جمل..
CATEGORIES اقليمي ودولي