لعلّ من أهمّ المزايا السياسيّة لأحداث القدس وفلسطين الأخيرة أنّ الأمّة الإسلاميّة بدأت تستعيد ثقتها في جيوشها وتتوجّه إليها بالخطاب بعد عقود من الجفاء وانعدام الثّقة والعداء، وربّ ضارّة نافعة: فمنذ أواسط القرن المنصرم دأب خطاب التّثبيط والتّيئيس ـ الرّسمي منه كما الحزبيّ والشّعبي ـ على إظهار كيان يهود والدّول العظمى الدّاعمة له بمظهر القوّة الغاشمة التي لا تقهر والقضاء المبرم الذي لا فكاك منه، وعلى تقزيم جيوش الأمّة والتّهوين من شأنها والطّعن في قدراتها القتاليّة، بل والتّشكيك في ذمّتها بوصفها إمّا طاغوتا كافرا تحرم الاستعانة به أو أداة لقمع الشّعوب وحماية الحكّام العملاء لا يرجى منها خير ولا يحصل التحرّر إلاّ بإزالتها.. وكان واضحا أنّ هذا الحراك الاستعماريّ مناورة خبيثة لفصل الأمّة عن شوكتها وعزلها عن جيوشها وبناء حاجز (نفساسياسيّ) يفصلها عن مصدر القوّة والمنعة فيها لتأبيد تبعيّتها وإحباط أيّ نفس تحرّريّ لديها.
والملاحظ أنّ هذا الادّعاء المسموم مخالف أوّلا للسّنن الاجتماعيّة والنّواميس السياسيّة: فالتحرّر والانعتاق من ربقة الاستعمار لا يتحقّق على أرض الواقع إلاّ إذا كان مدعوما بشوكة عسكريّة تسنده وتحميه وتزيل الحواجز الماديّة التي تحول دونه، فالوعي والرّغبة وحدهما ـ بمعزل عن أهل القوّة والمنعة ـ لا يكفيان لإحداث التّغيير المنشود، والكيانات الماديّة العسكريّة لا تزيلها عمليّا إلاّ كيانات ضديدة من جنسها..وهو أيضا مخالف لواقع تلك الجيوش :فهي جزء لا يتجزّأ من الأمّة الإسلاميّة مؤثّثة من خيرة أبطالها الذين يقاسمونها العقيدة ويشاطرونها همومها وانتظاراتها ويغارون مثلها على المقدّسات ويتوقون إلى التحرّر وإعلاء كلمة الله..لذلك فقد سعى الكافر المستعمر إلى تحييدها عن حراك أمّتها وتوظيفها لإخضاع شعوبها وكبح جماحها والحيلولة دونها واستئناف الحياة الإسلاميّة ،فتولاّها بنفسه مباشرة ـ إنشاء وتأثيثا وتدريبا وتسليحا ـ وصاغ عقيدتها العسكريّة بما يخالف تبنّياتها ويضمن حفاظها على مصالحه وولاءها له ولوكلائه ومنظومته الفكريّة والسياسيّة، ثمّ كبّلها بتراتبيّة عسكريّة صارمة زرع في مفاصلها ومواطن القرار فيها أخلص أعوانه وأشدّهم ارتباطا به بحيث يحرّكهم من وراء السّتار للسّيطرة على البلاد والعباد..
عين جالوت نموذجا
إنّ كسر هذا الطّوق الاستعماريّ المضروب حول جيوش المسلمين واستعادتهم إلى صفّ أمّتهم وحضنها الدّافئ داخل في دائرة الممكن السياسيّ لكنّ تحوّله إلى الممكن الفعليّ رهين بموقف بطوليّ شجاع لأحد قادتها يكسر الحاجز النّفسي الذي يكبّل حركتها، ودونكم شواهد التّاريخ الإسلاميّ فهي تزخر بهذه الملاحم :ففي 25 رمضان 658هـ نشبت موقعة عين جالوت بين المماليك المسلمين بقيادة البطلين سيف الدّين قطز والظّاهر بيبرس من جهة والقوات المغولية التتريّة بقيادة السفّاح (كتبغا نويان) ذراع هولاكو اليمنى..وهي ملحمة جديرة بأن تسمّى (بدر الثانية أو بدر الآخرة): فلئن كانت غزوة بدر بمثابة الفرقان بين الحق والباطل ارتقت بالمسلمين من حضيض الأقليّة المستضعفة إلى مصافّ الكيانات والدّول ذات السيادة، فإنّ موقعة عين جالوت كانت بمثابة الفرقان بين الحياة والموت، فهي جرعة أكسيجين ودماء حارّة ضُخّت في الجسد الإسلامي المتهالك فانتشلته من الفناء والاندثار وبعثته إلى الوجود مجدّدًا..فقد اكتسح المغول المشرق الإسلامي كالزلزال المدمّر فنشروا الموت والرّعب وأسالوا الدّماء أنهارًا وارتكبوا من المذابح في حق الأطفال والنساء والشيوخ ما تنأى عنه الوحوش في آجامها وانتهى بهم الأمر إلى قتل الخليفة العبّاسي والقضاء على الخلافة العبّاسية في بغداد. ولم يكتفوا بذلك بل أخذوا يتحرّشون بسلطنة المماليك الوليدة في مصر،بوصفها آخر قلاع الإسلام و بسقوطها ينكشف ظهر الإسلام والمسلمين ويندثرون من الوجود..إلاّ أنّ موقعة عين جالوت قلبت موازين القوى السياسية والعسكرية في المنطقة رأسًا على عقب: فقد كُسر على أرضها حاجز الخوف من المغول وتبدّدت أسطورة جيشهم الذي لا يُقهر وقُضي على خطرهم وحُرّرت الأناضول وبلاد الشام من الصليبيّين وتهاوت إماراتهم تباعًا ،كما أُعيد إحياء الخلافة العبّاسية في القاهرة وتمّ توحيد مصر وفلسطين والشام تحت راية الدّولة المملوكيّة التي تحوّلت إلى قوّة إقليميّة ضاربة حمت بيضة الإسلام واستمرّت زهاء 270 سنة إلى أن استلمت عنها مشعل الفتح والجهاد دولة الخلافة العثمانية مطلع القرن 15م/ 9هـ..وما كان لهذه الملحمة أن تتحقّق لولا الموقف البطوليّ الشّجاع الذي اتّخذه البطل سيف الدّين قطز..
اختلال مُشطّ
إنّ معركة عين جالوت تجسيد عملي لقوله تعالى (إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم) وقوله (وما النّصر إلاّ من عند الله): فقد كانت موازين القوى فيها مختلّة بشكل مشطّ لصالح المغول الذين سجّلوا تفوّقًا ساحقًا على المسلمين في سبع مزايا عسكريّة حيويّة: (الخبرة والتجربة ـ المعنويات المرتفعة ـ الكفاءة القتاليّة ـ العدد والعتاد ـ سرعة الحركة ـ التموقع الميداني ـ الناحية اللوجستية)..فقد كان للجيش المغولي ـ قادة ومقاتلين ـ خبرة وتجارب طويلة في الحروب يفتقدها الجيش المملوكي الفتيّ، وكانت معنويّات المغول عالية جدًّا فهم يتقدّمون من نصر إلى آخر ولم تُهزم لهم راية، فيما كانت معنويات المماليك منهارة وقد خرج أكثرهم كرهًا، فالمغول يُنصرون بالرّعب وتسبقهم (مآثرهم) وأخبار فظائعهم فتُزلزل أعداءهم.. وبحكم خوضه لمعارك عديدة كان للجيش المغولي كفاءة قتالية عالية مُدعّمة بالتفوّق في العدد والعدّة، فيما كان الجيش المملوكي عديم الكفاءة قليل العدد سيّئ التّسليح والتّدريب.. كما تميّز الجيش المغولي أيضًا بسرعة الحركة لأنّه متكوّن أساسًا من الفرسان ممّا يساعده على الحرب الخاطفة التي برع فيها وطوت له الممالك طيًّا، فيما كان الجيش المملوكي بطيء الحركة عماده المشاة وأغلبه من عامّة النّاس الذين تجنّدوا حميّةً..أمّا على الميدان فقد كان موضع الجيش المغولي في عين جالوت أفضل عسكريًّا من موضع الجيش المملوكي حيث تمركزوا في التّلال والمرتفعات وحصروا المسلمين في الوهاد والمنخفضات والأودية معرّضين للكمائن والهجومات..وكانت الناحية اللّوجستية أيضًا في صالح الجيش المغولي: فهو يستند إلى قواعده القريبة في بلاد الشام حيث تتدفّق عليه الإمدادات من المؤونة والعتاد والرّجال، بينما كان الجيش المملوكي مقطوعًا في أرض معادية بين فكّي الكمّاشة الصّليبيّة المغوليّة بعيدًا عن دياره معرّضًا للحصار القاتل..هذا التفوّق الساحق على جميع الأصعدة له نظريًّا نتيجة واحدة متوقّعة وهي النّصر الكاسح على الجيش الإسلامي..
إن تنصُروا الله…
إلاّ أنّ المزيّة الحيويّة التي يمتلكها جيش المماليك ويفتقدها المغول هي العقيدة القتالية: فقد كان المغول يقاتلون بشكل غريزي حيواني من أجل السّلب والنّهب والاغتصاب والسّبي، بينما كان الجيش الإسلامي يقاتل من أجل إعلاء كلمة الله والحفاظ على بيضة الإسلام والذّود عن دماء المسلمين وأعراضهم، وهذا العامل كان أساسيا وحاسمًا في ترجيح كفّة الجيش المملوكي. فقد كان لإيمان البطل سيف الدّين قطز بالله وتوكّله عليه واعتماده على المتطوّعين من المجاهدين الصّادقين أثرٌ عظيم في إحراز النّصر: فقد حرص قطز على تركيز الناحية العقائديّة في جيشه وجعل من الإسلام عقيدة قتاليّة ميدانيًّا: فقبل أن يأخذ قرار الحرب وينخرط فيها نزّلها في إطار الجهاد في سبيل الله فجمع القضاة والفقهاء وعلى رأسهم العلاّمة العزّ ابن عبد السّلام يستنصحهم ويستفتيهم عن رأي الشّرع فأشاروا عليه بوجوب القتال..وعندما أبى عليه الأمراء وامتنعوا عن الخروج أغلظ عليهم القول وحمّلهم المسؤوليّة أمام الله (يا أمراء المسلمين أتأكلون أموال بيت المال وأنتم للغزو كارهون..؟؟ فمن اختار منكم الجهاد فليصحبني ومن تقاعس فليلزم بيته فإنّ الله مطّلع عليه وأعراض المسلمين في رقبته)..وقبل المسير جمع قطز جيشه وقادته وذكّرهم بالله وحثّهم على الجهاد وشرح لهم خطورة الموقف وما ينتظر مصر وأهلها من مصير مروّع وحثّهم وهو يبكي على بذل أرواحهم في سبيل إنقاذ الإسلام والمسلمين من خطر المغول فضجّ القادة بالبكاء وتعالت أصوات التهليل والتكبير،وخرج الجيش من مصر تائبًا منيبًا طاهرًا تصحبه ثلّة من شيوخ العلم والفقهاء والصّالحين..أمّا على الميدان فقد كان قطز بين جنوده يرغّبهم في الشّهادة ويبثّ فيهم حرارة العقيدة ويستنهض هِمَمَهُم صارخًا بأعلى صوته (وا إسلاماه..وا إسلاماه..يا الله أنصر عبدك قطز على المغول) إلى أن تحقّق وعد الله وانتصر المماليك على المغول رغم الاختلال المشطّ بينهما في موازين القوى الماديّة، لأنّهم تسلّحوا بالتّقوى (وإذا فُقدت التّقوى فالغلبة للأقوى) ولأنّ النّصر من عند الله يؤتيه من يشاء بصرف النّظر عن العتاد والعدّة والخبرة والتّجربة والتّموقع والمعنويّات..وإن كانت مطلوبة لتحقيق النّصر..
ولله العزّة…
إنّ معركة عين جالوت تجسيد عملي حيّ لقوله تعالى (ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين) ولقوله صلّى الله عليه وسلّم (من اعتزّ بغر الله ذلّ): فقد تمثّل قائد جيش المسلمين السلطان قطز في نفسه وقراراته وإجراءاته عزّة الإسلام وأنفة المسلمين وعلويّة الشّرع وهيبة الدّولة وذلك في مواقف مُشرّفة جديرة بالدّولة الإسلاميّة وبسلطان المسلمين، فكان نموذجًا للرجل المناسب في المكان المناسب لم يداهن ولم يهادن ولم يرض بأنصاف الحلول ولم يُعط الدّنيّة في دينه بل اتّخذ الهجوم ديدنًا ولم يكتف بالدّفاع واتّخذ العمل منهجًا ولم يكتف بالكلام وانتقل للعدوّ في أرضه ولم ينتظر حتّى يأتيه وبادره بالقتال قبل أن يهاجمه وطلب الشهادة فوُهب له النّصر ووُهبت له الحياة..أرسل إليه هولاكو خطابًا شديد اللّهجة لإرهابه وتيئيسه وإحباط عزائمه وإرغامه على تسليم مصر للمغول، وممّا جاء فيه (نحن لا نرحم من بكى ولا نرقّ لمن شكا وقد فتحنا البلاد وقتلنا معظم العباد فعليكم بالهرب وعلينا الطّلب فأي أرض تؤويكم وأي طريق تنجّيكم وأي بلاد تحميكم..؟؟ فمالكم من سيوفنا خلاص ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق وسهامنا خوارق وسيوفنا صواعق وقلوبنا كالجبال وعددنا كالرّمال، فالحصون عندنا لا تمنع والعساكر لقتالنا لا تنفع ودعاؤكم علينا لا يُسمع فابشروا بالمذلّة والهوان) فماذا كان موقفه إزاء هذا الوعيد المزلزل المدعّم على أرض الواقع بالمذابح والفظائع: لقد تصرّف كرجل دولة مالك لسيادته وسلطانه مسكون بعزّة الإسلام: فعمد على خلع الملك المنصور عليّ بن المعزّ وكان صبيًّا لم يبلغ الحلم (يلعب بالحمام مع الخدم) وغير مؤهّل لقيادة البلاد في تلك الفترة الحرجة، واعتلى السّلطنة مكانه بمباركة العلماء والأمراء والأجناد والعامّة ليضطلع بواجب جهاد التّتار..ثمّ اتّخذ قرار الحرب وصمّم على القتال مهما كلّفه الأمر، وحتّى يضع الجميع أمام الأمر الواقع ويحبط نوايا المتخاذلين عمد إلى رُسُل هولاكو الأربعين فأعدمهم ومثّل بهم فشطر كلّ واحد منهم نصفين وجرّ أمعاءهم في الطّرقات وعلّق رؤوسهم على أبواب القاهرة في رسالة دمويّة تقطر عزّةً وكبرياءً وتحدّيًا وتهديدًا ووعيدًا..ثم أصرّ على مهاجمة المغول في عقر دارهم خارج مصر وتوغّل في مناطق نفوذهم حتى بلغ غزّة فبادأ حاميتها بالقتال واستعادها منهم ثم اتّجه شمالاً نحو معسكر التّتار الرّئيسي.. ورغم أنّ موقع الجيش الإسلامي غير ملائم في عين جالوت إلاّ أنّ السلطان قطز بادر بالاشتباك مع الأعداء واضعًا جيشه في وضعيّة إمّا النّصر أو الشّهادة ممّا جعلهم يستميتون في القتال, وشنّ على المغول حرب إبادة وإفناء فهزمهم وقتل قائدهم المرعب (كتبغا نويان) وطارد فلولهم حتى قضى عليها، وكان أن احتمى بعضهم بمزرعة قصب فأمر بإضرام النّار فيها وأحرقهم أحياء وكانت نتيجة المعركة القضاء على كامل الجيش المغولي حتى أنّه أرسل أحد جنوده إلى دمشق ليزفّ خبر الهزيمة إلى الحامية المغولية..فأين هذه العزّة وهذا النّصر والتّمكين من مذلّة واستكانة وعمالة القرضايات ووكلاء الشركات الاستعمارية الذين يحكموننا هذه الأيّام..؟؟ وهل كان لهذه الملحمة أن تتحقّق لولا بسالة الجيش المملوكي..؟؟ وهل كان لهذا الجيش أن يتحرّك لولا مبادرة البطل سيف الدّين قطز..؟؟