الحكم بين المركزيّة والتّجزئة: هل أنّ الخليفة ديكتاتور مستبدّ..؟؟

الحكم بين المركزيّة والتّجزئة: هل أنّ الخليفة ديكتاتور مستبدّ..؟؟

إنّ معضلة النّظام الجمهوريّ تكمن أساسا في أنّه قائم على جريمتين متضافرتين: أولاهما إسناد السّيادة للشّعب فيما سُمّي بالدّيمقراطيّة يحلّل ويحرّم ويحسّن ويقبّح من بنات أفكاره وفق مصالحه وأهوائه ،أمّا الثّانية ففصله بين السّلط وتجزئته للحكم وتوسيعه لدائرة اتّخاذ القرار سدّا لذرائع الدّيكتاتوريّة والتغوّل ،فإذا بنا مع الدّولة المدنيّة الغربيّة بإزاء توليفة طاحنة لإنسانيّة الإنسان: أحكام ومعالجات خاطئة مخالفة لواقع الإنسان وفطرته مطبّقة بكيفيّة خاطئة وطريقة مخالفة لسنن الحياة ممّا يخلّ بجوهر الحكم (رعاية الشّؤون) ومحوره (الفرد والجماعة) ويؤدّي بالتّالي إلى شقاء الإنسانيّة.. وعلى النّقيض من ذلك فإنّ نظام الحكم في الإسلام هو نظام الخلافة الذي يُبايع فيه خليفة على كتاب الله وسنّة نبيّه للحكم بما أنزل الله ،وهو نظام ينصّ على مركزيّة الحكم فيسند جميع صلاحيّات رعاية الشّؤون للخليفة ويجعلها متمركزة في شخصه لا تخرج منه إلاّ بطريق التّفويض مع الإشراف والمتابعة..هذه الحقيقة الشّرعيّة التي ترتقى في الثّقافة الإسلاميّة إلى مصافّ المسلّمات والمصادرات البديهيّة قد أصابتها هي الأخرى قارعة الثّقافة الغربيّة وتناوشتها معاول فصل الدّين عن الحياة بما هزّها في عقول وقلوب الإسلاميّين أنفسهم الذين أضحوا يتبرّؤون منها جهلا أو تضليلا أو مسايرة للتيّار..فنحن نلمس هذه الأيّام دون عناء أنّ الوسط السياسيّ في تونس ـ كتلا ومنظّمات وجمعيّات ـ يكاد يجمع نقدا ونقضا على مؤاخذتين رئيسيّتين متعلّقتين بنظام الحكم في الإسلام :أولاهما أنّ الخلافة نظام كليانيّ شموليّ سلطويّ تيوقراطيّ وثانيتهما أنّ الخليفة ديكتاتور مستبدّ وحاكم بأمره متغوّل.. وتبعا لذلك وفي ظلّ الأجواء الملبّدة بالدّيمقراطيّة والملوّثة بالقيم الليبراليّة جاء البديل على لسان العلمانيّين كما الإسلاميّين متمثّلا في المطالبة بالدّولة المدنيّة والنّظام البرلمانيّ والتعدّديّة والحريّات العامّة والتّفريق بين السّلط..

وبما أنّ الخلافة أضحت اليوم مطلبا شعبيّا يُطبخ على نار هادئة ويوشك أن يتحوّل إلى واقع معيش ،من المفيد لمشروع الأمّة أن نتناول هاتين الفريتين بالتّوضيح والدّحض تحييدا للمعوقات ورفعا لكلّ التباس :فكيف تتجسّد مركزيّة الحكم في الإسلام وهل ينطبق واقعها فعلا على مناط الدّيكتاتوريّة والاستبداد..؟؟ ثمّ ما الذي يمنع الخليفة رغم اتّساع صلاحيّاته من أن يتحوّل إلى ديكتاتور مستبدّ..؟؟

بين المركزيّة والتّجزئة

بالرّجوع إلى طبيعة الحكم وواقع السّلطة وشواهد التّاريخ نتبيّن بوضوح ونجزم باليقين أنّ الحكم لا يكون إلاّ فرديّا مركزيّا، وحتّى في الدّول التي تدّعي الدّيمقراطيّة والنّظام البرلمانيّ فإنّ أهمّ القرارات المصيريّة التي غيّرت مسار التّاريخ اتّخذت بشكل فرديّ سواء داخل أسوار البرلمان أو خارجها.. فتجزئة الحكم بين الرّئاسات أو الوزارات وحصره في مجلس وزراء يملك الحكم بشكل جماعيّ يُضعف الدّولة ويهمّش دورها ويعطّل قراراتها وينعكس سلبا على موقفها في السّياسة الدّوليّة..أمّا داخليّا فنظام الوزارات المنفصلة عن بعضها المستقلّة بميزانيّاتها ينجرّ عنه تعقيدات في حلّ مصالح النّاس لتداخل عدّة وزارات في المصلحة الواحدة ممّا يكرّس البيرقراطيّة والإجراءات الكثيرة المطوّلة..

أمّا في الإسلام فالحكم يتركّز في شخص الخليفة، فهو الدّولة وهو المسؤول الأوّل عن رعاية الشّؤون ومنه تنبثق كافّة السّلطات يتصرّف مباشرة في بيت مال المسلمين ويشرف رأسا على جهاز إداريّ موحّد لمصالح النّاس مستعينا في ذلك بطاقم من المعاونين والولاة والعمّال بما يجنّب الدّولة والنّاس مزالق ومطبّات تجزئة الحكم والفصل بين السّلطات..فالفصل بين السّلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة فكرة طوباويّة مخالفة لطبيعة الأشياء وفطرة البشر إذ يستحيل ـ عمليّا ميدانيّا ـ الفصل بين السّلطتين فهما يشتركان في الصّلاحيّات أثناء تشخيص العلّة وتوصيف المصلحة والمعالجة :فالأصل والطّبيعي المنطقيّ أنّ الذي يشخّص المصلحة والرّعاية هو الذي يسنّ لها قانونا ـ فهي عمليّة فكريّة واحدة ـ إلاّ أنّ منظّريّ النّظام الجمهوريّ فصلوا مدفوعين بفوبيا التغوّل والاستبداد بين جزأيها المتلازمين (التصوّر والتّصميم) وأسندوهما لطرفين مختلفين قد لا يتّفقان فكريّا أو سياسيّا في الرّؤى والتّشخيص بما يصيب عمل الحكومة بالشّلل..ولتجاوز هذا الإشكال الإجرائيّ الجوهريّ قام منظّرو النّظام الجمهوريّ بالالتفاف على مركزيّة الحكم والتّحايل على مبدأ الفصل بين السّلطات بأن أوكلوا أمر تشكيل الحكومة إلى الأغلبيّة البرلمانيّة ،وبذلك تصبح السّلطتان التّنفيذيّة والتّشريعيّة مشكّلتين من حزب الأغلبيّة أو من عدّة أحزاب مشكّلة للأغلبيّة، وهكذا يحصل التواطؤ بين السّلطتين وتنتفي أكذوبة الفصل بينهما ويصبحان عمليّا سلطة واحدة.. فمركزيّة الحكم هي الأصل والقاعدة لذلك كلّما كان التجانس البرلمانيّ بينهما كبيرا كانت السّلاسة في تسيير أعمال الدّول ورعاية الشّؤون والعكس صحيح..

صلاحيّات الخليفة

إن صلاحيّات الخليفة لا تستمدّ من شخصه ولا تفتك عنوة واقتدارًا بل تنسل من واقع الخلافة كنظام حكم ومن واقع الخليفة كرئيس للدولة الإسلامية ومن واقع عقد البيعة الذي بوّأه ذلك المنصب: فالخلافة وكالة عامّة وتفويض كلي في إقامة الدين ورعاية الشؤون وتطبيق الشرع وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، والخليفة هو الذي ينوب عن الأمّة في الحكم والسلطان وتنفيذ أحكام الشرع جميعًا، فالإسلام جعل الحكم والسلطان للأمّة وأوجب عليها إيجاد الإسلام في واقع الحياة، وبمقتضى عقد البيعة تحوّل الأمّة سلطانها إلى شخص الخليفة ليصبح نائبًا عنها في إنجاز تلك المهمّة.. من هذا المنطلق فإنّ الحكم يتمركز في شخص الخليفة بشكل ذاتي ولا يخرج عنه إلا بتفويض منه، فهو المسؤول الأوّل والأخير عن رعاية الشؤون وهو عماد الدولة الإسلاميّة وجهاز قائم بنفسه يمثل رأس أجهزتها، فالدولة الإسلامية تكاد تختزل فيه إذ عُرّفت بأنّها (خليفة يطبّق الإسلام).. وعلى ضوء هذه المهام الجسام تبدو صلاحيات الخليفة واسعة متعدّدة، إذ تتمركز فيه جميع صلاحيات الحكم ورعاية الشؤون: فهو الذي يتبنّى الأحكام الشرعية اللازمة للأمة ويسنّها قوانين، وهو المسؤول عن سياسة الدولة الداخلية والخارجية، وهو الذي يتولّى القيادة الفعلية للجيش وإعلان الحرب وعقد كافّة المعاهدات، وهو الذي يتولى أمر السفراء والسفارات المحلية والأجنبية، وهو الذي يعيّن ويعزل القضاة بجميع أصنافهم، وهو الذي يضع ميزانية الدولة ويقرّر فصولها ومبالغها..فالحديث الشريف (الإمام راع وهو مسؤول عن رعيّته) يعطيه حق رعاة شؤون الأمّة بشكل مطلق دون قيد في أنواع الرعاية..وإذا أضفنا إلى هذا الكمّ من الصلاحيات أن رئاسة الخليفة غير مقيّدة بمدّة محدّدة أصبح المناط مظنّة الاستبداد وأرضيّة له بما يقرّبه ظاهريًا من واقع الديكتاتورية وثالوثها المميّز: فالخليفة ـ مبدئيًّا ـ يحتكر السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ويتربّع على كرسي الحكم مدى الحياة..

الخليفة بين التنفيذ والتشريع

إن إسناد صفة التشريع للخليفة لا يستقيم شرعًا ولا ينطبق على صلاحيّاته: فالسيادة في الإسلام للشرع أي أن وضع الأحكام والقوانين موكول إلى الله تعالى والوحي وليس إلى الإنسان والعقل البشري (إن الحكم إلا لله) ولا يملك أي إنسان صلاحية وضع ولو قانون واحد أو تعطيل حكم شرعي أو تعديل آخر بما يؤدّي إلى تحريم الحلال أو تحليل الحرام، فالعقل البشري مهمته فهم النصوص لا وضع النصوص، ومجاله التفكير بالنصوص لا في النصوص..

أما ما هو من صلاحيات الخليفة وحده دون غيره فهو تبنّي الأحكام الشرعية اللازمة لرعاية الشؤون وسنها قوانين نافذة وهذا ليس تشريعًا: فالمسلمون مطالبون شرعًا بالالتزام بأحكام الشرع وأوامر الله ونواهيه لا بأحكام السلطان وأوامره ونواهيه، ولا محلّ للبشر في وضع أحكام لتنظيم علاقات الناس، بل تستنبط الأحكام من الكتاب والسنة بعملية اجتهادية صحيحة.. غير أن الكثير من الأدلة التفصيلية ظنيّ الدلالة يحتمل عدّة معان، فكان من الطّبيعي والحتمي أن يختلف الناس في فهمها حدّ التباين وأن يكون في الحكم الواحد آراء مختلفة.. وبما أنه يحرم شرعًا أن يتعدّد حكم الله في المسألة الواحدة وجب على المسلم أن يتبنّى حكمًا واحدًا يلتزم به ويصبح حكم الله في حقّه، هذا في المسائل الفرديّة، ولكن هناك مسائل تقتضي رعاية شؤون الأمّة أن يسير المسلمون جميعًا على رأي واحد فيها بما يحفظ وحدة المسلمين دولةً وتشريعًا وحكمًا، فاقتضى ذلك وجود جهة يُحتكم إليها لرفع الخلاف، ومن هنا جاءت القاعدة الفقهية (أمر الإمام يرفع الخلاف): فالخليفة يتبنّى حكمًا واحدًا حسب رأيه واجتهاده ويأمر به فيصبح قانونًا نافذًا يلتزم به المسلمون ويعمل به الولاة والقضاة.. والخليفة حين يتبنّى أحكامًا شرعية إنّما يختار رأيًا معيّنًا من ضمن عدّة آراء يحتملها النصّ، ويختاره باعتباره حكمًا شرعيًّا مستنبطًا باجتهاد شرعي، ولا يشرع هو حكمًا من عنده فالمشرّع هو الله وحده والخليفة مقيّد بالشرع لأنّ شرط بيعته أن تكون على العمل بالكتاب والسنّة لذلك فإنّ تبنّياته ليست بمعزل عن التمحيص والمتابعة والتثبّت من طرف مجلس الأمّة ومحكمة المظالم للفصل في صحّتها، هذا فضلاً عن كون مجالات تبنّيه مقيّدة لا تشمل العقائد والعبادات إلاّ فيما يحفظ وحدة المسلمين..

أما فيما يتعلّق بالتنفيذ، فإنّ صلاحيات الخليفة المطلقة في رعاية الشؤون هي أيضًا مقيّدة بالشرع: فيجب أن تجري حسب أحكام الشرع لا حسب ميولات وأهواء الخليفة فلا يجوز له مثلاً أن يعيّن امرأة في منصب حكم أو أن يمنع مباحًا دون عذر شرعي فضلاً عن تعطيل واجب أو تحليل حرام..فهو مطلق الصلاحية فيما أعطاه إياه الشّرع من هامش بسيط جدًّا يُمضي فيه رأيه واجتهاده لا يتعدّى جزءًا من المباح الخاص به بوصفه خليفة مثل تنظيم الإدارات وترتيب الجند وما شاكل ذلك من المصلحة العامّة، أما فيما عدا ذلك من المباح العام وسائر أعمال التكليف فهو مقيّد بأحكام الشرع ومتابع في قراراته وإجراءاته وتبنّياته من طرف مجلس الأمّة ومحكمة المظالم..

مدّة رئاسة الخليفة

من المؤشرات المتوهّمة على ديكتاتورية الخليفة أن مدة رئاسته غير محددة بزمن، فإذا بويع ظل خليفة حتى يموت.. وفي الواقع فإن مبدأ التداول على السلطة في المنظومة الديمقراطية الذي يتبجّحون به في حقيقته ليس ظاهرة صحيّة بقدر ما هو مؤشّر على علة وحالة مرضيّة تنخر تلك المنظومة، فهو ناشئ عن اعتبارين اثنين: الأوّل هو النظر إلى السلطة بوصفها مغنمًا لا مغرمًا، وتشريفًا لا تكليفًا وميدانًا للنهب والإثراء لا مجالا لخدمة الصالح العام، لذلك تراهم يتنافسون على السلطة ويستعجلون من سبقهم إليها الرحيل بحجّة التداول السلمي على السلطة.. الاعتبار الثاني هو أن الرئيس في المنظومة الديمقراطية هو من قبيل الشخصيّات البرامج يمثل تيارًا سياسيًّا قائمًا على إيديولوجيا مخالفة لغيره (اشتراكي ـ ليبرالي ـ قومي ـ محافظ ـ يميني..) ويُترك أمر الاختيار للشعب، لذلك كان من الطبيعي في ظل هكذا منظومة أن يقع التداول على السلطة وان تحدّد فترة نيابيّة للرئيس..أما في المنظومة الإسلامية فالخلافة مسؤولية جسيمة وتكليف له تبعات دنيويّة وأخروية خطيرة تتجاوز مجرّد التشريفات، لذلك فإنّها تُعتلى بدافع تقوى الله والاضطلاع بواجب يفترض على كل من يأنس في نفسه القدرة أن يتولاّه مخافة الوقوع في الإثم العظيم..كما أن الخليفة مهما كان شخصه هو في نهاية الأمر سيطبّق شرع الله ولا فرق في ذلك بين زيد أو عمرو، فالبرنامج واحد وإن اختلف الأشخاص، لذلك لا ضرورة لاستبدال الحكام وتحديد مدد حكمهم ما داموا ملتزمين بما بويعوا عليه محافظين على الشرع منفّذين لأحكامه قادرين على القيام بشؤون الدولة ومسؤوليات الخلافة.. فالخلافة غير محدّدة في مدّتها ولكنها ليست مرسلة إلى ما لا نهاية أيضًا: فهي محددة بالمعقود عليه في عقد البيعة وهو تطبيق الإسلام، فإذا حصل طارئ يمنع الخليفة من الالتزام بتعهّداته سواء أكان ذلك لأمر ذاتي كالإخلال بشرط من شروط الانعقاد السبعة، أو لأمر خارجي كوقوعه في الأسر الذي لا فكاك منه.. فإنّه يتحتّم عزله وتتولّى محكمة المظالم تحقيق مناطه وتقرّر في شأنه إما العزل أو عدمه..فعن أي ديكتاتورية نتحدّث..؟؟

أبو ذرّ التونسيّ (بسّام فرحات)

CATEGORIES
TAGS
Share This