ممّا لا شكّ فيه أنّ دابّة المستعمر السّوداء وعقبته الكأداء هي بلا منازع منظومة الحكم في الإسلام وما انبثق عنها من جهاز تنفيذيّ متمثّل في الدّولة الإسلاميّة بما هي الطّريقة الشرعيّة والوحيدة لإيجاد الإسلام في الواقع ونقله من النظريّة إلى التّطبيق ومن الوجود بالقوّة إلى الوجود بالفعل..لذلك نراه بعد القضاء على الدّولة العثمانيّة انخرط بكامل ثقله في محاربة تلك المنظومة وطمسها وتحريفها واجتثاثها من الذّاكرة لتجميد طاقة الإسلام وحبسها في بطون الكتب وفصلها عن الحياة وإقصائها من الممارسة العمليّة..فعمد إلى التّسويق لجملة من المغالطات والأفكار المسمومة وتركيزها وإيجاد رأي عامّ حولها في محاولة منه لتثبيط الهمم وإهدار الجهود وعرقلة مشروع الأمّة وجرّها إلى استنساخ الأنظمة الغربيّة بما يكرّس التبعيّة ويؤخّر النّهضة ويؤبّد الانحطاط والتخلّف والتّشرذم والاستغلال والنّهب..فادّعى ابتداء أنّ الإسلام مجرّد ديانة لاهوتيّة كهنوتيّة مفصولة عن الحياة قائمة على بعض (التّعاليم) الأخلاقيّة والطّقوس التعبّديّة ،وأنّ كلّ ما يتعلّق بالحكم هو منطقة فراغ في الإسلام لم ينصّ عليها الشّرع بل أوكل سدّها للعقل البشريّ :فليس للإسلام دولة ولا نظام حكم ولا أجهزة متميّزة ،والرّسول لم يؤسّس دولة ولم يُنشئ لها مؤسّسات وإنّما اجتهد بما يمليه عليه واقعه وبما هو متاح ومتوفّر من وسائل وأساليب وأنظمة.. أمّا إذا ما أعيتهم الحيلة وخانهم المتاح الفقهيّ والتّاريخي والسّياسي بحيث تنفرض الدّولة الإسلاميّة عليهم وعلى أذنابهم كحقيقة لا يمكن دحضها فإنّهم يعمدون إلى تقزيمها وتشويهها وتزييف واقعها وإفراغها من محتواها حتّى تبدو قروسطيّة مغرقة في الكهنوت والماورائيّات ،همجيّة جديرة بالشّعوب البدائيّة المتخلّفة ،مثاليّة غير قابلة للتّطبيق على الأرض ،ماضويّة غير مؤهّلة لاستيعاب منظومة الحداثة والعصرنة.. وعلى هذا الأساس اعتبروا الدّولة الإسلاميّة دولة إلاهيّة دينيّة بالمفهوم اللاّهوتيّ الكنسيّ للدّين يحكمها ـ باسم الرّب وبتفويض منه ـ أنصاف آلهة لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم..ونحن وإن كنّا نربأ بالإسلام عن أن يكون محلّ تهمة وفي موقف دفاع إلاّ أنّ واجب الدّعوة لاستئناف الحياة الإسلاميّة يقتضي منّا تفنيد هذه الصّورة النّمطية الكاريكاتوريّة المنفّرة عن الدّولة الإسلاميّة إنارة للرّأي العامّ وخدمة لمشروع الأمّة..
فما المقصود بالدّولة الدينيّة والدّولة المدنيّة وما مدى انطباق مناطهما على واقع دولة الخلافة..؟؟ هل أنّ الدّولة الإسلاميّة دولة إلاهيّة تيوقراطيّة أم دولة بشريّة دنيويّة..؟؟ هل أنّ الخلافة منصب إلاهيّ أخرويّ يشغله أيمّة مهديّون معصومون أم منصب بشريّ دنيويّ يشغله الإنسان بعجزه ومحدوديّته وتقصيره..؟؟
الدّولة الدينيّة الكنسيّة
إنّ نزع الصّفة البشريّة الدّنيويّة عن الدّولة الإسلاميّة مغالطة ناشئة عن اعتبارين اثنين :أوّلهما خارجيّ علمانيّ غربيّ يتمثّل في إسقاط متعسّف لغائب الدّولة اللاّهوتيّة الكنسيّة على شاهد الدّولة الإسلاميّة ،فقد ارتبطت حقبة العصور الوسطى في المخيال الغربيّ بالظّلم والاستبداد والطّغيان المغلّف بالدّين ،فالشّعوب الأوروبيّة في ذلك التّاريخ رزحت تحت كلكل ثالوث طاحن لإنسانيّة الإنسان (الملكيّة ـ الإقطاع ـ الكنيسة) حيث كان الأباطرة والملوك يجمعون كافّة الصلاحيّات والسّلطات بين أيديهم فيضعون التّشاريع والقوانين من بنات أفكارهم ويطبّقونها بالكيفيّة التي تحلو لهم ،وكانوا يفرضون على شعوبهم نظام الإقطاع الذي ينصّ على احتكار الملوك والنّبلاء ملكيّة الأراضي بما فيها ومن عليها من النّاس بوصفهم (أقنانا) أي عبيدا للأرض ومجرّد أشياء تحت تصرّف الإقطاعيّين..
ولإخضاع النّاس لنزواتهم وإسباغ المشروعيّة على هذا الاسترقاق والحيف استعان الملوك والأباطرة بالكنيسة ورجال الدّين الذين تولّوا أمر تخدير العامّة بزعم الحقّ الإلاهي والتّفويض الإلاهيّ وبذلك يُمرّر الظلم والجور والاستبداد في دسم الأجواء الرّوحانيّة هنيئا مريئا..هذا الواقع التّاريخيّ نحت ملامح الدّولة الدينيّة في شكلها اللاّهوتيّ الكنسيّ :منظومة سلطويّة شموليّة كليانيّة يتصرّف ضمنها بشكل فرديّ استبداديّ مطلق ملك أو إمبراطور يحيط نفسه بهالة من القداسة ويدّعي أنّه ظلّ الله على الأرض فيحتكر كافّة السّلطات والصلاحيّات ويتصرّف في البلاد والعباد والثّروات كيفما يشاء باعتباره استحقاقا إلاهيّا فوّضه الربّ إليه ،فرغباته وأوامره قضاء مبرم وقراراته وأوامره قدر مقدور ما على الأقنان إلاّ الانصياع له والامتثال والتّسليم دون سخط أو تبرّم أو شكوى تحت طائلة الكفر والمروق من الدّين والتنطّع على المشيئة الإلاهيّ..
الدّولة المدنيّة
هذه الصّورة النمطيّة الكالحة المغرقة في الظّلم والقهر والتجبّر والتسلّط عمد الكافر المستعمر إلى إسقاطها على واقع الدّولة الإسلاميّة معتمدا القياس الشّمولي المغلوط وقلب الحقائق التّاريخيّة لرسم صورة قاتمة عن نظام الخلافة باعتباره نموذجا للدّولة الدينيّة وللاستبداد والدّيكتاتوريّة الملتحفة بالدّين ،وهو بذلك يكون قد أسقط توظيف الدّين الذي ميّز الحياة الأوروبيّة في القرون الوسطى على الاحتكام للدّين الذي تنصّ عليه فلسفة التّشريع في الإسلام وهما مناطان مختلفان تماما.. وفي المقابل دعا الكافر المستعمر ـ فكرا وممارسة ـ إلى ما أسماه (الدّولة المدنيّة) وهي تسمية خادعة مضلّلة قد يُفهم منها التمدّن والتطوّر والرقيّ المادّي والفكريّ ،إلاّ أنّها في الواقع اصطلاح سياسيّ يُقصد به تحديدا نقيض الدّولة الدينيّة ،أي دولة قائمة على مبدأ وضعيّ بشريّ إمّا يُنكر الدّين جملة وتفصيلا (الدّولة الشيوعيّة) أو يفصله عن الحياة (الدّولة الرأسماليّة الديمقراطيّة) ،وفي كلتا الحالتين يوكل أمر وضع الدّساتير وسنّ القوانين في الدّولة المدنيّة إلى الشّعب وما يقدّره العقل البشريّ من مصلحة أو مفسدة.. وبذلك تجد الدّولة الإسلاميّة نفسها في حالة عزلة واستعداء: فهي ـ تنظيرا وتطبيقا ـ التّجسيد الفعليّ الوحيد للدّولة الدينيّة، فالمصطلح لم يعد ينطبق في الواقع إلاّ عليها وهي مقصاة نظريّا من دائرة الدّولة المدنيّة بحكم كونها قائمة على أساس العقيدة الإسلاميّة..
دولة الإمام المعصوم
أمّا الاعتبار الثّاني الذي نشأت عنه تلك المغالطة فهو اعتبار داخليّ مذهبيّ شيعيّ :فقد عدّ الشّيعة الإمامة والخلافة مسألة عقائديّة تقتضي العصمة وحصروها في آل البيت وذريّتهم من الأيمّة المهديّين المعصومين وهو مناط ينطبق على واقع الدّولة الدينيّة الإلاهيّة ،إلاّ أنّه لا يصحّ منهجيّا الاستناد إليه والاستدلال به وذلك من وجهين: الأوّل أنّه مناط نظريّ فكريّ لم يكد يتجسّد على أرض الواقع إلاّ مدّة وجيزة أيّام الدّولة الفاطميّة الاسماعيليّة لم نلمس خلالها عصمة ولا هداية بل تقصيرا وخيانة وتفريطا في مصالح المسلمين ،فهي حالة شاذّة ثانويّة تحفظ ولا يقاس عليها..أمّا العمود الفقريّ لتاريخ الدّولة الإسلاميّة الذي يجب أن يُتّخذ أصلا ومرجعا ونموذجا يُحتذى (المرحلة النبويّة والخلافة الرّاشدة ثمّ الأمويّة والعبّاسيّة والعثمانيّة) فلم يتجسّد فيه ذلك المناط..
الوجه الثّاني: أنّ أدلّة القائلين بعصمة الإمام المهديّ متهافتة ساقطة عن مرتبة الاستدلال ولا تصلح حججا،فقد اعتمدوا أدلّة منطقيّة كلاميّة لا شرعيّة فقهيّة :فالإمام يقوم مقام النبيّ في حفظ الشّريعة وتبليغها ولا بدّ أن يكون معصوما منزّها عن القبائح والذّنوب ،ولو جازت المعصية على الخليفة لاحتاج إلى إمام معصوم يمنعه من العصيان والزّيغ ،والإمامة ليست إمارة بشريّة قائمة على دستور وضعيّ بل هي منصب إلاهي لحفظ شرع إلاهيّ فلا يصحّ أن يتولاّها إلاّ من كان معصوما حتّى يطمئنّ إليه النّاس في دينهم..ولإثبات ادّعاءاتهم تلك استدلّوا ببعض الآيات القرآنيّة وتأوّلوها بتمحّل ظاهر واستنطقوها بما يخدم ادّعاءهم في تهافت واضح وليّ لأعناق النّصوص الشّرعية يضيق الحيّز الصّحفي عن الردّ عليه فضلا عن كونه مجرّد فروض منطقيّة فلسفيّة كلاميّة لا ترتقي إلى مرتبة الأدلّة الشرعيّة ولا تصمد أمام النّقاش الفقهيّ النّزيه..ومع كونها لم تتجاوز طور التنظير الفجّ ولم يُثبت تطبيقها المحدود إلاّ بطلانها وسخافتها وطوباويّتها ،إلاّ أنّ الكافر المستعمر أبى إلاّ أن يسقطها على واقع الخلافة والخليفة ويعمّمها على الدّولة الإسلاميّة باعتبارها دولة دينيّة إلاهيّة شبيهة بالكيانات اللاّهوتيّة الكنسيّة التي سادت أوروبا في عصور الظّلام الوسطى..
الدّولة الإسلاميّة
بعد تحقيق مناط الدّولة الكنسيّة المسيحيّة ومناط عصمة الإمام المهدي في المذهب الشّيعي يحقّ لنا أن نتساءل عن مدى انطباق تينك المناطين على واقع الخليفة والخلافة والدّولة الإسلاميّة حتّى يصدق فيها نعت الدّولة الدينيّة الإلاهيّة..إنّ الإسلام ليس مجرّد ديانة لاهوتيّة كهنوتيّة مفصولة عن الحياة كالمسيحيّة ،بل هو مبدأ أي عقيدة عقليّة سياسيّة روحيّة ينبثق عنها نظام شامل كامل (ما فرّطنا في الكتاب من شيء) ،فهو منظومة متكاملة تغطّي جميع مناحي الحياة بأحكامها وتشاريعها..والدّولة في هذه المنظومة جهاز تنفيذيّ مكرّس لإيجاد الإسلام في الواقع وحمله رسالة للعالمين ،أمّا شخص الخليفة فهو نائب عن الأمّة في تطبيق أحكام الشّرع..وليس في الإسلام رجال دين مقابل رجال دنيا فالكلّ مخاطب بالأحكام الشرعيّة ومطالب بالالتزام بها سواء في المسجد أم خارجه..والإسلام بهذا الشّكل ليس فيه فراغات يتمدّد خلالها الاستبداد المغلّف بالدّين :فلا مجال فيه لتشريع البشر ولا مجال لتفضيل فئة من المجتمع على البقيّة ولا لتسخير شريحة لخدمة غيرها ،أمّا الخليفة رأس هرم السّلطة فهو ـ مثله مثل باقي الرعيّة ـ مقيّد بالأحكام الشرعيّة في كلّ كبيرة وصغيرة وهو محاسب على ذلك من طرف مجلس الأمّة ومجالس الولايات ومحكمة المظالم والأحزاب السياسيّة وجهاز الإعلام، ولا مجال لبقائه في منصبه إن زاغ عنها أو خالفها.. من هذا المنطلق فلا يتأتّى عليه التغوّل والتنكّب عن الأحكام الشّرعيّة والانسياق خلف أهوائه وشهواته وتعليق ذلك بمشيئة الربّ ،ولا وجود لرجال الدّين الذين يتولّون تبييض افتراءاته وشرعنتها باسم الحقّ الإلاهيّ… وبالتّالي فلا وجه للشّبه بين الدّولة الكنسيّة ودولة الخلافة حتّى ندّعي أنّ هذه الأخيرة دولة دينيّة إلاهيّة..
لا عصمة للخليفة
أمّا فيما يتعلّق بالعصمة أي التنزّه عن المناقص جليلها وحقيرها فهي للأنبياء والرّسل دون غيرهم من سائر البشر، ومجالها التّبليغ فحسب لأنّها من مقتضيات تمام التبليغ ،إذ بدونها يتسرّب الخطأ للرّسالة نفسها ،أمّا فيما عدا ذلك فلا عصمة حتّى للأنبياء والرّسل أنفسهم فما بالك بالحكّام وسواد النّاس :فالرّسول صلّى الله عليه وسلّم بوصفه نبيّا مرسلا هو معصوم من الخطأ ،وبوصفه حاكما يجوز في حقّه خلاف الأولى (عبس وتولّى أن جاءه الأعمى)، وبوصفه إنسانا كسائر النّاس فهو معرّض للخطأ (حادثة تأبير النّخل).. أمّا عن عصمته عن الأخطاء في الحكم وعن الكبائر في حياته الشّخصيّة فهي من مقتضيات عصمة النبوّة والرّسالة ومقتضيات تمام التّبليغ..
أمّا الخلافة بعد رسول الله فإنّه يتولاّها بشر وهم غير معصومين لأنّهم ليسوا أنبياء فيجوز في حقّهم ما يجوز على البشر من الخطإ والسّهو والنّسيان والمعصية.. وقد أخبرنا الرّسول بأنّ الخليفة يمكن أن يخطئ ويظلم ويعصي بل وأن يصدر منه الكفر البواح (قال إلاّ أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان)..إذن فلا مجال لعصمة الإمام المهديّ لأنّ الإمام حاكم وظيفته التّطبيق وليس نبيّا صاحب رسالة وظيفته التّبليغ ،فمحمّد صلّى الله عليه وسلّم خاتم الأنبياء والإسلام خاتم الرّسالات..وبالتّالي فلا مجال لأن يقال إنّ الخلافة دولة دينيّة إلاهيّة ،بل هي دولة مبدئيّة بشريّة يبايع فيها المسلمون خليفة لإقامة أحكام الشّرع ،ويطبّق فيها بشريّ الإسلام على نظرائه من البشر بكلّ ما تعنيه كلمة بشر من عجز ومحدوديّة ونقصان واحتياج..