تفاعلا مع ما كنّا فصّلنا من قول في جهاز الخليفة وشخصه ـ أهميّة ومكانة ونفوذا وصلاحيّات ـ قد يتبادر إلى الذّهن أنّ الإشكال لا يكمن في الفكرة الإسلاميّة بقدر ما يكمن في تنزيلها على أرض الواقع :فرغم رقيّها وشمولها وكمالها إلاّ أنّ الانتقال بها إلى النّاحية العمليّة وتنزيلها على الوقائع الجارية قد يثبت في المقابل مثاليّتها وعدم قابليّتها للتطبيق وخلوّها من ضمانات التحقّق بالشّكل المنصوص عليه نظريّا.. فقد تبيّن لنا أنّ الخليفة أهمّ جهاز من أجهزة الدّولة الإسلاميّة بل هو الدّولة نفسها يختزلها وتُختزل فيه بحيث يمكن الاكتفاء به لقيام حكم إسلاميّ ولا يمكن الاستغناء عنه البتّة وإلاّ فُقِدت الدّولة أو فقدت صفتها الإسلاميّة..كما رأينا أنّ الخليفة بما هو نائب عن الأمّة في تطبيق الشّرع الإسلاميّ يمتلك وكالة عامّة وتفويضا مطلقا وصلاحيّات واسعة :إذ يستفرد بكافّة مهامّ رعاية الشّؤون داخليّا وخارجيّا بما في ذلك تبنّي الأحكام الشّرعيّة ،كما يتمركز الحكم فيه بشكل ذاتيّ فلا يخرج عنه إلاّ بتفويض منه ومتابعة لصيقة بغاية الاستعانة على أعبائه الجسام.. فإذا أضفنا إلى كلّ هذا أنّه القائد الأعلى للجيش الإسلاميّ وأنّ مدّة حكمه مطلقة غير محدّدة بزمن وأنّ الأمّة الإسلاميّة مطالبة شرعا بالسّمع له والطّاعة وإن سلب مالها وجلد ظهرها ،يتبادر إلى الذّهن ـ عن حسن نيّة أو بسوئها ـ سؤال ملحّ :في ظلّ هكذا مكانة ونفوذ وسلطة ما الذي يمنع الخليفة من التغوّل والاستبداد وتوظيف جهاز الحكم لتحقيق مآربه الشخصيّة أو للتّمكين لأعداء الأمّة والدّين..؟؟ ما الذي يجبره على الالتزام بالمعقود عليه في بيعته والانصياع لأحكام القضاء وهو الذي يمتلك القوّتين المعنويّة الشّرعيّة والماديّة العسكريّة ويحتكر حقّ التّعيين والعزل للمسؤولين في الدّولة حكّاما وقضاة وإداريّين..؟؟ بمعنى هل هناك آليّات شرعيّة عمليّة تردع الخليفة وتكبح جماحه وتكفل محاسبته وتقويمه أو مقاضاته وعزله إن اقتضى الأمر..؟؟ وهي تساؤلات مشروعة بالنّظر إلى سيطرة العقليّة الديمقراطيّة على الأذهان وضعف الفهم للإسلام وغياب النّموذج الحيّ الذي يقاس عليه ويحتذى به مع التّشويه المشطّ للتّاريخ الإسلاميّ..
لكلّ مقام مقال
إنّ الإجابة عن هذا السّؤال المؤرّق تقتضي منّا الوقوف على جملة من الاعتبارات، أوّلا:أنّ الإسلام كمنظومة حياة لا يُتصوّر وجوده إلاّ في إطاره الشّرعيّ فلا توجد الدّولة الإسلاميّة إلاّ في ظلّ رأي عامّ عن الإسلام منبثق عن وعي عامّ لأنّها جهاز تنفيذيّ لمجموع المفاهيم والمقاييس والقناعات التي تبنّتها الأمّة ،وإنّ تصوّرها خارج حاضنتها العقائديّة والبشريّة الطبيعيّة يشوّهها ويسقط عليها إشكاليّات وأزمات غير معنيّة بها ولا مطروحة عليها..
ثانيا:أنّ الإسلام لايطبّق عمليّا في الواقع بقوّة الجنديّ وصرامة القانون فحسب،بل بتقوى الله في الفرد وبتعاون الأمّة ـ أفرادا وأحزابا ـ مع الدّولة بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ومحاسبة الحكّام بوصفها فرضا على الكفاية..
ثالثا:أنّ المقصود بالتغوّل والاستبداد والظّلم هو الشّرك بالله أي مخالفة أحكام الإسلام وتطبيق أحكام الكفر (إنّ الشّرك لظلم عظيم)،أمّا الاستفراد بتبنّي الأحكام الشّرعيّة فهو من صميم صلاحيّات الخليفة التي أوكلها إليه الشّرع ومن قواعد الحكم في الإسلام ،وأمّا اغتصاب المشورة أي فرض الخليفة لرأيه في المباحات التي يؤخذ فيها برأي الأغلبيّة فهو إساءة تطبيق لا يُفسد لودّ الإسلام ودولته قضيّة ،فلا ظلم ولا تغوّل ولا استبداد ما دام الإسلام هو المطبّق..رابعا :وينسل من هذا الاعتبار أنّ الضّمانات المقصودة هي ضمانات تطبيق الإسلام وعدم مخالفة أحكامه وحده دون غيره من الأنظمة ولو بشبه الدّليل (إن الحكم إلاّ لله) أمّا الصّغائر وإساءات التّطبيق فدونها الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والعظة والنّصيحة..فالفساد المقصود هو فساد الأنظمة المطبّقة ومخالفتها للشّرع وليس فساد الأشخاص في أفرادهم ،فقد يكون الحاكم فاسدا في شخصه ولكنّه ملتزم بأحكام الشّرع في حكمه على شاكلة أغلب خلفاء بني أميّة..لذلك فإنّ التاريخ الإسلاميّ هو تاريخ تطبيق الإسلام ولا يُؤخذ من مصنّفات المؤرّخين والأدباء وشعراء البلاط ـ فهم بين قادح ومادح ـ ولا من الأعداء الكفرة المستعمرين المتربّصين بالأمّة ،بل يؤخذ من الوثائق الرّسمية القضائيّة والسياسيّة كالمعاهدات والعقود وأرشيف المحاكم ،وهي تثبت كلّها أنّ الإسلام وحده ظلّ مطبّقا إلى سنة 1924م وهذا هو الأساس..فلكلّ مقام مقال ولكلّ مناط حكم..
تحصين عقائدي
فيالحقيقة إنّ إشكال الضّمانات مطروح على جميع المبادئ وليس هناك أيّ منظومة حكم تدّعي لنفسها امتلاك ضمانات التّطبيق وآليّاته على شاكلة (عصا موسى وكن فيكون) ودونك الفساد الذي ينخر أرقى التّجارب الدّيمقراطية في العالم..فالدّولة ليست آلة أو ماكنة نحكمها بالدّوس على أزرارها فلسنا بإزاء علم صحيح تطبّقه آلات صمّاء بكماء أو ملائكة (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) والحكّام بشر غير معصومين وهم معرّضون للضّعف والتّقصير والإساءة ،فالبحث ليس منصبّا على رقيّ النّظريّة فحسب بل على أنجع الضّمانات أي التي تسدّ من المنافذ أكثر من غيرها.. وقد أخذ الإسلام هذا المعطى الهامّ بعين الاعتبار فسيّج منظومة حكمه بجملة من المتاريس والتّحصينات التي تحول دون حصول المكروه والخروج عن العقيدة الإسلاميّة :أوّل هذه المتاريس هو التّحصين العقائديّ ،فالضّامن الأساسيّ لإحسان تطبيق أيّ منظومة حكم هو عقيدتها التي انبثقت عنها ،أي مدى إيمان الحكّام والمحكومين بتلك العقيدة والتزامهم بها، ويتأكّد هذا المعطى مع منظومة الحكم في الإسلام القائمة على أحكام شرعيّة :فكلّما كانت العقيدة الإسلاميّة حيّة نابضة وحارّة في قلوب المسلمين وعقولهم كلّما كان إدراك الصّلة بالله متمثّلا في كلّ فعل يقدمون عليه وكفى بذلك رادعا وزاجرا لهم عن الإساءة والظّلم والفساد يستوي في ذلك الرّاعي والرّعيّة..فالمنظومة الإسلاميّة كلّ لا يتجزّأ وشبكة متكاملة من الأحكام بعضها آخذ برقاب بعض بما يخلق مناخا لا يتأتّى معه أن يتغوّل الحاكم الذي تتوفّر فيه شروط الانعقاد السّبعة (مسلم ـ ذكر ـ بالغ ـ عاقل ـ عدل ـ حرّ ـ قادر من أهل الكفاية) ولا أن تسكت الأمّة الحيّة الواعية المتلبّسة بالإسلام عن ظلمه دون محاسبة ومنابذة وعزل ،ولا أن تتحوّل الأحزاب السياسيّة القائمة على أساس العقيدة الإسلاميّة إلى جوقة مطبّلين على شاكلة الموالاة العمياء في الحقّ والباطل ،ولا أن ينحاز جيش عقيدته القتاليّة هي العقيدة الإسلاميّة إلى قائده الأعلى وهو يخالف الشّرع ،ولا أن تتواطأ محكمة المظالم المتكوّنة من علماء ومجتهدين مع الخليفة وهو غير ملتزم بعقد البيعة ،ولا أن يتغافل الجهاز الإعلاميّ القائم على خدمة مصلحة الإسلام والمسلمين داخليّا وخارجيّا عن هرم السّلطة وهو يمتهن عقيدة الأمّة..فالممكن العقليّ ليس بالضّرورة ممكنا سياسيّا لأنّه لا ينطبق على واقع الدّولة الإسلاميّة..
تحصين تشريعي
ثاني المتاريس التي سيّج بها الإسلام منظومة حكمه هو التّحصين التّشريعيبأن سنّ مجموعة من الأحكام التي تردع الخليفة أثناء ممارسته للحكم وتحدّ من صلاحيّاته وتكبح جماحه وتحول دونه والتّغوّل: فما ذكرناه من أهميّة جهاز الخليفة وتمركز الحكم فيه والصلاحيّات الواسعة التي يتمتّع بها يجب أن يُنزّل في سياقه الشّرعيّ وأن يُفهم بعقليّة إسلاميّة ،لأنّ التّعاطي معه بعقليّة لبراليّة ديمقراطيّة يُفرغه من محتواه ويجعل منه بابا مشرعا على التغوّل والدّيكتاتوريّة..ذلك أنّ شكل نظام الحكم في الإسلام متفرّد متميّز عن سائر أشكال الحكم المعروفة على جميع المستويات (الأساس ـ المفاهيم ـ الأحكام ـ الدّستور ـ القوانين ـ الأجهزة)..
وفي إطار هذه المنظومة الفريدة الخاصّة فإنّ الخليفة يملك كلّ شيء ولا يملك أيّ شيء في نفس الوقت ،أي أنّ له مطلق الصلاحيّة وعموم النّظر ضمن متاح العقيدة الإسلاميّة ومادام ملتزما بها ،فلا يملك الخروج عنها قيد أنملة :فعلى مستوى الإشراف والتّسيير فإنّ نصّ البيعة والمعقود عليه فيها يجبرانه على التزام الشّريعة الإسلاميّة ،إذ أنّها بيعة على العمل بالكتاب والسنّة فلا يحلّ له أن يخرج عنها وإلاّ بطُل عقده وانحلّت بيعته واختلّ شرط أساسي من شروط انعقادها فيكون إمّا كافرا أو ظالما أو فاسقا..وعلى مستوى وضع الدّساتير وسنّ القوانين فإنّ الخليفة مقيّد في تبنّيه بالأحكام الشّرعيّة فيحرم عليه أن يتبنّى حكما لم يُستنبط استنباطا صحيحا من الأدلّة التّفصيليّة ،وهو أيضا مقيّد بما تبنّاه من أحكام وما التزم به من طريقة استنباط ،هذا فضلا عن أنّ تبنّياته لا تشمل العقائد والعبادات إلاّ فيما يجمع كلمة المسلمين..وعلى مستوى التنفيذ والتّطبيق فإنّ صلاحيّات الخليفة المطلقة في رعاية الشّؤون مقيّدة أيضا بالشّرع فيجب أن تجري حسب أحكام الإسلام لا وفق ميولات الخليفة وأهوائه ومصالحه ،فلا يأخذ درهما إلاّ بحقّه ولا يصرفه إلاّ في مصرفه الشّرعي ولا يُعيِّن في منصب الحكم إلاّ من تتوفّر فيه شروط الحاكم ولا في منصب الإدارة إلاّ من تتوفّر فيه الكفاءة..وعلى مستوى الآراء الفنيّة والفكريّة فهو مجبر على العودة إلى أهل الذّكر والاختصاص والأخذ برأيهم وإن خالف رأيه وكذلك في الآراء المجرّدة التي يؤخذ فيها بالأغلبيّة،وهكذا..فلا يجوز له اغتصاب مشورة أو تعطيل حكم أو تحليل حرام أو تحريم واجب أو إباحة مكروه ،بل لا يجوز له حتّى تقييد المباح دون عذر شرعيّ:فهو مطلق الصّلاحيّة فيما أعطاه له الشّرع من هامش بسيط جدّا لا يتعدّى جزءا من المباح الخاصّ به بوصفه خليفة على غرار التنظيمات الإداريّة وتنظيم الجند..
أمّا على مستوى مدّة رئاسته المطلقة في الزّمن فهي ليست مدخلا للاستبداد والتغوّل لأنّها مقيّدة بقيام الخليفة بما بويع عليه ،فما دام ملتزما بالمعقود عليه متّصفا بشروط الانعقاد يبقى في منصبه..وليس معنى ذلك أنّه ملك عضوض على شاكلة الرّئاسة مدى الحياة :ذلك أنّه إذا تغيّر حاله تغيّرا يُخرجه عن الخلافة (الردّة ـ الجنون المطبق ـ الأسر الميئوس منه) أو لا يُخرجه عنها (جرح العدالة ـ العجز ـ القهر والتسلّط) فإنّه يصبح واجب العزل أو في حكم المعزول ولو لم يٌحكم بعزله فلا تجب طاعته ولا تُنفّذ أوامره..فأين هذا من الحصانة التي يتمتّع بها الرّؤساء في المنظومة الدّيمقراطيّة أثناء حكمهم وبعده بما يبيح لهم الإجرام في حقّ شعوبهم دون عقاب..؟؟
تحصين شعبي
ثالث المتاريس التي سيّجب ها الإسلام منظومة حكمه هو التّحصين الشّعبي بأن فوّض للأمّة الإسلاميّة أمر إحسان تطبيق الإسلام ومحاسبة الحاكم وإلزامه غرزه وردعه بل وعزله إن لزم الأمر :فالإسلام لايطبّق عمليّا في الواقع بقوّة الجنديّ وصرامة القانون فحسب ،بل بتقوى الله في الفرد وبتعاون الأمّة ـ أفرادا وأحزابا ـ مع الدّولة بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ومحاسبة الحكّام بوصفها فرضا على الكفاية ،وقد أوجب الشّارع طاعة الخليفة طوال مدّة حكمه وإن استمرّت لعقود ما لم يبدر منه ما يستوجب العزل أو الانعزال:قال صلّى الله عليه وسلّم (عليك بالسّمع والطّاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك)..غير أنّ هذا ليس صكّا على بياض للتغوّل ،فالطّاعة المقصودة ليست الطّاعة العمياء المرسلة المطلقة في الحقّ والباطل دون ضوابط ،بل الطّاعة الواعية المسؤولة المبنيّة على العقيدة الإسلاميّة المقيّدة بكتاب الله وسنّة رسوله،أي الطّاعة فيما يُرضي الله ،فـ(لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)..
فعلاقة المسلمين بحكّامهم مرهونة بينثلاثة واجبات:واجب الطّاعة وواجب المحاسبة وواجب شقّ عصا الطّاعة ،يطيعونه ما أطاع الله فيهم ويحاسبونه إن قصّر،أمّا إن عصى الله وحكم بغير ما أنزل الله فلا طاعة له عليهم ،بل من واجبهم حينها منابذته بحدّ السّيف إن لزم الأمر كما جاء في حديث عبادة ابن الصّامت (..وأن لا ننازع الأمر أهله إلاّ أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان)..وهذه ليست دعوة للفوضى وسفك الدّماء وامتهان الحاكم وهزّ استقرار دولة الإسلام وتعريض أمن المسلمين للخطر:فالبرهان هو الدّليل العقائديّ القطعي ثبوتا ودلالة على كفر الحاكم وحكمه بغير ما أنزل الله،أمّا الصّغائر وإساءات التّطبيق فلا بشر معصوم منها إلاّ الأنبياء وعلاجها الوعظ والتّذكرة والنّصح والمحاسبة مع التزام الطّاعة..
وقد أوجب الله تعالى على المسلمين الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ومحاسبة الحكّام (ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) ورغّبهم في ذلك وأجزل عليه العطاء (أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر) كما توعّد المتنكّبين عن هذا الواجب بالويل والثّبور وعظائم الأمور (والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثمّ لتدعنّه فلا يُستجاب لكم)..والأمر والنّهي للحكّام هو محاسبة لهم ،وقد حاسب الحباب ابن المنذر رسول الله يوم بدر فنزل عند رأيه وحاسبت إمرأة الفاروق عمر في مسألة المهور فقال (أصابت إمرأة وأخطأ عمر) فكيف بالمتأخّرين من الحكّام والخلفاء..فإحساس الخليفة بأنّ وراءه أمّة تأخذ على يديه إن ظلم وتأطره على الحقّ أطرا وتقصره عليه قصرا أقوى رادع وأعظم زاجر له عن الاستبداد والتغوّل..
تحصين دستوري
هذه هي خطّوط الدّفاع الرئيسيّة لمنظومة الحكم في الإسلام ،أمّا إذا ما تجاوز الخليفة هذه التّحصينات العقائديّة والتشريعيّة والشعبيّة ـ وهذا وارد ـ فيزع الله بالسّلطان ما لا يزع بالقرآن ويُفسح المجال للتّحصينات الدّستوريّة :فالخليفة رغم ما يتمتّع به من صلاحيّات واسعة متابع بشكل لصيق في قراراته وإجراءاته وتبنّياته من طرف مجلس الأمّة الذي يتكوّن من أشخاص يمثّلون المسلمين في الرّأي يرجع إليهم الخليفة لاستشارتهم في أمور الدّولة ورأيهم ملزم له في المشورة ،كما ينوبون عن الأمّة في محاسبة الحكّام إذا طرأ زيغ أو تقصير أو إساءة تطبيق أو مخالفة للشّرع.. وهو متابع أيضا في شخصه وأشخاص معاونيه من طرف مجالس الولايات التي تمثّل أهل كلّ ولاية في الرّأي والمحاسبة ويجوز حتّى لغير المسلمين أن يكونوا أعضاء فيها لإظهار الشّكوى من ظلم الحكّام وإساءاتهم..
وللأحزاب السياسيّة في الدّولة الإسلاميّة دور أساسي في أطر الحكّام على الحقّ أطرا وإحباط نيّة الفساد والاستبداد لديهم لأنّ وظيفتهم الأساسيّة هي المحاسبة وإعانة الحاكم على إحسان تطبيق الإسلام لاسيّما وأنّها غير مرتهنة في وجودها وعملها للخليفة ،فلا يحتاج تأسيس حزب إلاّ لعلم وخبر،هذا دون أن ننسى سيف الإعلام المسلّط على رقاب الجميع بمن فيهم هرم السّلطة وأعوانه ـ حكّاما وإدريّين ـ يتتبّع عثراتهم وزلاّتهم بما يزجرهم عن الزّيغ والتّغوّل ناهيك وأنّ امتلاك وسيلة إعلام لا يتطلّب ترخيصا مسبقا..والخليفة بما هو فرد من أفراد الأمّة الإسلاميّة خاضع لأحكام القضاء في المخالفات الفرديّة ،أمّا فيما يتعلّق بالنّزاعات بين الحاكم والدّولة ومنها عزل الخليفة إذا فقد شرطا من شروط الانعقاد فإنّ محكمة المظالم هي صاحبة الصلاحيّة وهي التي تقرّر عزل الخليفة من عدمه كما تنظر في مدى شرعيّة تبنّياته ووفائها لطريقته في الاستنباط (دور المحكمة الدّستوريّة الحالي)..ولا يقال هنا إنّ الخليفة يملك حقّ تعيين وعزل قاضي المظالم وله سلطة معنويّة عليه ،لأنّ الخليفة يفقد هذا الحقّ إذا كان هذا القاضي بصدد النّظر في قضيّة ضدّ الدّولة سواء في شخص حكّامها أو تنظيماتها أو تشاريعها، وهذا أجدى وأنجع من أكذوبة استقلال القضاء..