الحوار “الصنم”: “وَإِذَا دُعُوا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحكُمَ بَينَهُم إِذَا فَرِيقٞ مِّنهُم مُّعرِضُون” النور (48)
نجح قيس سعيد في قصر أعمال خصومه السياسيين، ومزاحميه على الخدمة، منذ أن تفرد بكل السلطات بمباركة خارجية ماكرة، تبدي رفضها لتمشيه وتفتح أمامه مجال إنفاذ خارطة طريقه التي أعلن عنها في ديسمبر الماضي، والتي تشمل استمرار تجميد البرلمان، ثم حله فيما بعد “حفاظا عن الدولة ومؤسساتها” والاستفتاء على “دستور” لحين إجراء انتخابات تشريعية في البلاد، على المطالبة بحقهم في مشاركته حوارا لا يعلم آلياته ولا ضوابطه إلا هو ومن يرعاه.
وبذلك توافقت القوى الخارجية، المهيمنة على كل مفاصل الحياة في بلادنا، مهما كانت درجة تنافسها على النفوذ، واختلافها فيما بينها على المنافع، والقابضة بكل قوة برقاب الطيف “السياسي” على إبقاء النظام الرأسمالي الذي أقحم في حياتنا، نحن وسائر المسلمين، بالحديد والنار وخيانة الخونة، رغم ما جرّه علينا من مآسي ونكبات، بعيدا عن دائرة النظر والبحث، وخاصة بمنأى عن الخوض فيه في منتديات العامة ومجالسهم. وظلت الأوساط السياسية بكل مشاربها الفكرية وانتماءاتها الإيديولوجية أسيرة الخوض في كل ما هو شكلي وإجرائي: كشكل النظام رئاسي أم برلماني، أو من مثل القانون الانتخابي، أيها أفضل التصويت على القوائم أم على أساس النظام الفردي. وبلغ نجاحه حدا جعل من “النخبة”، من أبنائنا، التي تربت على عينه في جامعاته أو في المؤسسات التي يرعاها في بلداننا، من مثقفين وإطارات ومسئولين أكثر إخلاصا في غرس ثقافته ومفاهيمه بين أهلنا، وهم أشد الناس عداوة لثقافتنا وأوغر صدر في تنفير ناشئتنا منها وتحقيرها في عيونهم.
وعلى هذا، يقدّم قيس سعيد نفسه أنه الوحيد القادر على فك صاعق الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها تونس وتهدد بالانفجار، والتي حمل المسئولية فيها على من ساهموا في تقويض الديمقراطية: إذ لا عودة إلى الوراء، فلا صلح، ولا تفاوض، ولا اعتراف مع من خرب البلاد وعاث بها فسادا، فحواره، الذي “سيخرج تونس من أزمتها” لن يكون منتجا إلا مع المنظمات الرئيسية في تونس، في إشارة إلى الاتحاد العام التونسي للشغل، والهيئة الوطنية للمحامين بتونس، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وبعض الشخصيات يختارهم هو بمقاييسه الخاصة.
في المقابل ظلت آلية الحوار ذاك “الصنم” الذي يرقص حوله عُبّادُه، إذ لم يجد أمثلهم طريقة في الدعوة إلى الحوار والمشاركة فيه، إلا الإصرار على جمع مختلف الفرقاء، من أجل الالتقاء، بزعم إنقاذ تونس من الخطر الذي يتهددها، ثم لا ضير بعد ذلك من العود إلى الاختلاف والصراع.
هكذا بكل بساطة يدعى إلى الحوار ويقع الإصرار على إنفاذه بإشغال الناس عن الحلول الجذرية لمشاكلهم وهمومهم، وتهدر فيه الطاقات الجمة، إشباعا لشهوة الحكم عند من لا يقدر شؤون الناس حقها، وليس له فيها إلا انبهار المهزوم أمام الغالب. فمن العبث التنادي اليوم إلى فكرة التوافق،
مع اليقين أن لا جامع لانعدام قاعدة الربط إلا إنكار الحقائق القطعية.
من جديد، بزعم إنقاذ البلاد بالاجتماع حول حق التفاوض، ثم ليكن الحق في الاختلاف والتنازع من جديد. فهل من فعل العقلاء إنكار ما ارتضاه رب الكون لعباده؟ أليس ذلك هو الخسران المبين؟
أبعد كل هذه الآلام التي تحملتها الشعوب، في غياب شرع الرحمن من نظم سياسية لم تقم إلا على تمكين الطغاة من مصائر الناس وسوغت لهم التشريع لخلق الله على مقتضى أهواءهم وما يزينونه للناس من ضلال؟ فإن علومكم السياسية، وشهادات عدتم تزهون بها وقد ضللكم بها كُهّان المعبد الديمقراطي لا تعني لنا شيئا، فقد جاء نظام الحكم الإسلامي والقائم على عقد الرضا والاختيار، بين الناس وإمامهم، لإقامة شرع الله العزيز الحكيم، لينسفها ويظهر زيفها، حين يصدع أميرهم يوم البيعة: “الضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله “.
أم أن حواركم سيقيم في الناس نظاما اقتصاديا أهون شروره، انبناؤه على مفهوم الندرة النسبية للسلع والخدمات، والذي يكون علاجها عند من وشح صدور خبرائكم بشهائد، لا ترى من حل إلا بالحد من نسل الإنسان بالقتل والحروب ونشر الأوبئة والإخصاء. ونظام الإسلام يدعو الناس إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). أم ستظلون تعتبرون تحصيلكم فائضا من عملات المستعمرين الكفرة، الورقية نجاحا لكم، وتصرون على الإعراض عن الحل الشرعي في جعل النقد على أساس قاعدة الذهب والفضة؟
هل حواركم سيعلن براءتكم من اتفاقيات الجندر وسيداو والمثلية والحريات، فولي أمرنا أعلمنا أنه لا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، وأن حياتنا الاجتماعية يضبطها عقد شرعي يقوم على أساس الإيجاب والقبول فتتحدد به الأنساب والحرمات وتثبت به الحقوق.
أين سيقودكم حواركم وأنتم في اختبار صلاحية أمام أسيادكم الغربيين في صراعهم الفكري الثقافي الحضاري مع أمة الإسلام التي استفاق ماردها لينفض عن كاهله غبار العقود وليعيد عجلة الزمان إلى مدارها الصحيح، وأبناؤها أدركوا جليا أنه لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، وأن الطاعة عليهم لإمامهم ما أطاع الله ورسوله، فإذا عصى الله ورسوله فلا طاعة له عليهم”.
فإذا كان من سنن الله في خلقه أن حكام كل قوم لا يكونون منهم إلا إذا محضوهم النصح وساسوهم بما يحفظ بيضتهم ويدرأ عنهم عدوهم، فهل حكامنا منا؟ أما إن كان من ناحية العرق فنعم، وأما أنهم يمثلوننا بوصفنا مسلمين ويسيرون فينا بما قضى علينا ربنا فليسوا منأ ولسنا منهم… فأنّى تكون لهم طاعة، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: (أعاذك الله من إمارة السفهاء) قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: (أمراء يكونون من بعدي، لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون عليَّ حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون عليَّ حوضي…) رواه أحمد واللفظ له والبزار
أ, عبد الرؤوف العامري
CATEGORIES كلمة العدد