ليس غريبا أن تشهد الحياة السياسية في تونس كل تلك المظاهر من السقوط والفوضى والتي تمثلها أحداث المجلس النيابي أدق تمثيل، وان يوضع الناس تحت كل ذلك القصف من التفاهات والصراعات العبثية، وقد تدنت صراعات محترفي السياسة، حتى صارت مسرحية كئيبة موغلة في السماجة والانحطاط، بل الغريب أن تجد من يبرر هذه المشاهد المقززة والمنفرة والمستفزة للأعصاب بتفاهتها وبعبثها، كون تونس لازالت ديقراطيتها فتية وأن نخبها السياسية طور التدرب على آليات العمل الديمقراطي وأن ما يحدث في دهاليز المجلس التشريعي وسراديبه، بين مختلف الفرقاء هو مقدمات للنضوج السياسي وتدريب للجماهير على الحياة الديمقراطية
ولكن الأغرب، من خلال هذا السواد الحالك في ليل الأمة الذي طال عليها، وبعد كل تلك الخيبات التي لا تكاد تنتهي، لا زال هناك من أبناء المسلمين من يرجو خيرا من ديمقراطية كفر وكافرين، مبدؤها ومنتهاها، إقصاء شرع رب العالمين عن أن ينظم حياة خلقه، ولا زال هناك من يرى أن الخراب الذي آلت إليه بلادنا وفساد الحياة السياسية وما يعانيه الناس من ضنك عيش، وانسداد الأفق أمامهم متأت من عجز الفرقاء السياسيين عن فهم آليات الديمقراطية والسير حسب نواميسها، لا من النظام الديمقراطي ذاته الذي يعطي الطغاة مشروعية فرض النظام الذي يحقق مصالحهم على البسطاء والضعفاء والمسحوقين، ورغم ما انكشف من زيف هذه الديمقراطية وعفنها، وأنها أضحت عاقرا عن أن تعالج قضية إنسانية واحدة، بل أضحى خطرها ماحقا لإنسانية الإنسان.
إلا أن الناظر لمجريات الأحداث على الساحة السياسية في تونس قد ينخدع بحدة الصخب الذي يحدثه القائمون بمختلف أدوار المسرحية الدائرة بقصر باردو، فسكرة المقعد الذي سلم “لنائب الشعب” تعمي بصيرته عن حقيقة أن الدور المعطى له محدود بالمهمة الموكلة إليه وأن عليه أن لا يجاوز قدره، ولنسائل نواب التأسيسي المغادرين عن تجربتهم. أو قد ينخدع برسوم المكر والمخاتلة التي يتبادلها فريق العمل الذي يحتل القصبة حتى إذا ما رام من زميله غفلة لم يفلته، ضمن المدى المسموح به. ألم يعلن الفخفاخ، في بيان، عزمه إجراء تعديل وزاري خلال أيام، مع تلميحات بإزاحة “النهضة” من الحكومة، ثم لم تمر أربعا وعشرين ساعة لينقلب موقفه ويعلن استقالته، بعد أن رفع عنه الغطاء وأمر بالاستقالة؟ أو قد يظن أن انتصاب قصر في قلب موقع قرطاج الأثرية دليلا على إرساء نظام نديد لنظرائه في العالم، ولعل زيارة ساكنه الأخيرة لفرنسا عرت كل حقيقة. قد ينخدع الناظر إلى كل ذلك فيتوهم أن لنا حياة سياسية نرسم معالمها ونفرض قوانينها ونحدد غاياتها وأهدافها. لقد فقدنا إرادتنا منذ أن قبل من حكم بلادنا في أوائل القرن التسع عشر أن يحكًم في قضايانا غير شرع ربنا المنبثق من عقيدتنا وفرض علينا قانون سمي بعهد الأمان ودستور فرضته السفارات الأجنبية وعجز حكام ذاك الزمن أن يجاروا أندادهم الأوروبيين سياسيا فخضعوا لإرادتهم، وتسربت إلى حياتنا السياسية، بالمغالبة، أفكار الغرب عن الحكم والإدارة وأزيحت الأوساط السياسية المتبنية للإسلام عقيدة وأحكاما ومنهاج حياة عن التأثير في الحياة العامة والمشاركة فيها. فلا يظنن أحد أن الصخب المتعالي في البرلمان هو نتيجة صراع حقيقي، بل هي أدوار مفصلة على عين بصيرة لإيهام مختلف الأطراف أنها تمارس العمل السياسي، تلجم عند بلوغ المدى المرسوم لها لكي لا تربك أطوار خطة الحرب على الإسلام التي يديرها الغرب مع الأمة ونخبها التي تقودها وتحرك وعيها في اتجاه انعتاقها واستعادة دورها في قيادة البشرية لتخليصها من طغيان الرأسمالية. فالدستوري الحر من دوره إثارة الغبار وإكثار الضجيج لا القضاء على النهضة، التي تتهيأ للعب دورها ولعل في بعض مشاريع القوانين التي بدأت تطفو على السطح، كقانون الأحزاب، وقانون المساجد، أو المنشور الوزاري، المستعجل، والمتعلق بترسيم وتسمية الولادات بسجل الحالة المدنية. والذي ينص على الإستغناء عن كل القيود والتنصيصات المتعلقة باختيار الأسماء، ما يغني عن مزيد الكلام.
فما أبعدهم عن حقيقة الصراع في بلادنا والذي هو جزء من الصراع العالمي بين حضارة الغرب المهيمن على العالم وسعيه لإدامة هيمنته تلك، وأمة الإسلام أمل الإنسانية قاطبة في الانعتاق من ربقة الكفر وطغيانه، إلا أن كثيرا من أبناء الأمة لا يزالون غافلين عن هذه الحقيقة الوجودية وتنصرف أبصارهم وأفئدتهم إلى معارك جانبية، شغلتهم عن رسالتهم قضية اقتصادية، أو خدعهم حاكم لا يحكم بالإسلام بمنجز مادي أو حرب وهمية. حتى صار الكثير منهم لا يرى ضيرا في موالاة الكفار والمجرمين، بأخذ الدعم منهم أو بفعل الكفر والمعاصي من أجل أن يرضوا عن المسلمين، أو استمداد العون منهم والقبول بالاحتكام إليهم، رغم وعيد القرآن لمن يقترف ذلك:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا (144) ـ النساء ـ