الخلافة أفقا للثّورَة

الخلافة أفقا للثّورَة

قتل الثورة وإطفاء جمرتها: 

ما عدنا نسمع في الأشهر الأخيرة في وسائل الإعلام أو على كثير من صفحات التّواصل الاجتماعي عن الثّورة وأهدافها. وخفت حديث الثورة والثّوّار عند الأحزاب السياسيّة، بل انعدم فلا حديث لهم إلا عن الدّيمقراطيّة والبرلمان وإجراءات الرئيس، وأخبار صندوق النّقد الدّولي وهل سيعطينا الأموال؟…  

والأكثر لفتا للانتباه أنّ شتاء هذا العام مرّ على غير العادة منذ زمن بورقيبة وبن علي، مرّ دون احتجاجات جدّيّة ظاهرة، لماذا؟

هل حقّقت الثّورة أهدافها؟ أم هل تخلّى الثّوّار عن ثورتهم؟  

وفي المقابل نجد الحديث كثر وخاصّة في الأيّام الأخيرة عن الأسعار وغلائها، وعن فقدان كثير من الموادّ الأساسيّة من السّوق. وتحوّلت القضيّة في تونس (بعد أكثر من عشر سنوات على الثّورة) إلى قضيّة رغيف الخبز.

فهل كانت الثّورة من أجل رغيف الخبز؟

لماذا كانت الثّورة وعلى ماذا؟

كانت الثّورة في تونس منطلقا للثّورة في كامل البلاد الإسلاميّة، زلزلت أركان المنظومة التي أرستها الدّول الرّأسماليّة المنتصرة في الحرب العالميّة الثّانية، المنظومة التي جعلت من تونس وسائر بلاد المسلمين كيانات هزيلة ضعيفة تابعة للدّول الكبرى عبر تنصيب حكّام موالين للسياسات الغربيّة الرأسماليّة وعبر تجذير وسط سياسيّ علمانيّ لا يرى إلا اتّباع الغرب. 

وكانت الحصيلة أن صرنا في تونس مجرّد كيان تابع، لأوروبا خادم لها ولمصالحها مضيّعا الشعب ومصالحه. 

وتمّ اختزال قضيّتنا في تونس إفي رغيف الخبز، وكأنّنا لا يشغلنا إلا بطوننا سمّوها قضيّة التنمية. 

حراك الأمّة كان حراكا مميّزا ومن أهمّ ميزاته:

  • فاجأ ساسة الغرب في واشنطن ولندن وباريس، وأربك مخططاتهم للمنطقة.

  • زلزل نفوذهم الاستعماري بسقوط أركانه من الطغاة النواطير الذين جثموا على صدر الأمة عقوداً وسخّرُوا طاقاتِها وثرواتِها لخدمة أسياد ما وراء البحار.

  • أضعف النّفوذ الغربي بفضح الوسط السياسي العلماني التقليدي (أحزاب، وإعلام ومنظّمات…) وكشف خضوعه للغرب.

نعم الغرب وبعد عقود من الهيمنة والاستعمار، وبعد أن ظنّ أنّه دجّن المسلمين (إذ وضعهم في كنتونات سمّاها دولا) يتفاجأ بثورة كان عنوانها (الشعب يريد إسقاط النّظام)، والمصيبة بالنّسبة إلى الغرب أنّ المسلمين لم ينسوا إسلامهم بل نادوا بتطبيقه والعودة إليه، 

وفي هذا السياق سعت الدّول الغربيّة لإجهاض الثّورة بخطوات خبيثة ماكرة ساعدهم فيها المغفّلون والعملاء:

  • الخطوة الأولى كانت الدّفع بأحزاب إسلاميّة المظهر علمانيّة المخبر، وهي أحزاب لم تُخف ولاءها للغرب ولفكره الدّيمقراطي الرأسمالي، فكان من الطّبيعيّ أن تفشل فشلا ذريعا في سياسة البلاد وإخراجها من حالتها السّيّئة. ففقدت ثقة النّاس وسقطت (دون أن يسقط الإسلام أو يفقد ثقة الناس)

  • الخطوة الثّانية، الضغط على موارد البلاد وتفقيرها حتّى لا يكون من حديث إلا عن الأسعار والموادّ الغذائيّة.

وهكذا تحوّل الحديث من حديث عن التغيير والتحرير إلى حديث عن فساد الأحزاب وعجزها وعن رغيف الخبز ومن هو الأقدر على توفيره للشّعب، وصار الخطاب السّياسي في تونس بين قطبين متجاذبين:

  • الرئيس ومن معه يصف العشريّة السابقة بعشريّة الخراب واللصوصيّة ونهب أموال الشّعب وتفقيره وتجويعه، ويُلقي بالمسؤوليّة على من تولّى الحكم.

  •  وفي المقابل نجد معارضي الرئيس وإجراءاته يتّهمونه بتضييع البلاد وتجويع أهلها مستدلّين بغلاء الأسعار وتدهور القدرة الشّرائيّة ونفاذ مخزون البلاد من الموادّ الغذائيّة الأساسيّة. 

والجميع يهرول نحو صندوق النقد والبنك العالمي يتسوّل ويستجدي. وكلّهم يزعم أنّ تمويل الصندوق هو الذي سيُنقذ البلاد من الجوع. (هكذا). 

هكذا تمّ تسطيح الثورة وابتذالها، وهكذا يريدون ترويض الجماهير، الثائرة منها والمتحفزة للثورة، بإشغالهم بلقمة العيش، حتّى تغدو الهدف والمقصدوكأنّ هدف الثورة هو لقمة العيش لا غير، وأنّ الثورة لم تستطع توفير لقمة العيش بل ازداد الأمر معها سوء وجوعا. وهي مغالطة وأضاليلأطلقها أوّل الأمر مفكّرو الغرب، ويردّدها أبواقه ونواطيره من الحكام والمضبوعين بثقافته في تونس وسائر البلاد الإسلاميّة.

فهل كانت الثّورة من أجل رغيف الخبز؟ 

حقيقة الثورات ودوافعها وغايتها المعلنة (الشعب يريد إسقاط النّظام)، ليست خافية ولكنّه المكر والتّضليل لمجابهة ثورة المسلمين”فكرياً” بصرف اهتمامهم عن مكمن قوتهم المتمثل في الإسلام بفكره المستنير وأنظمته الشّاملة وأحكامه العادلة، والذي باتت تتطلع إليه الشعوب وإلى مشروعه الحضاري كمخلص وحيد لها مما تعانيه.

إن ربط الثورة بلقمة العيش غاية ومقصدا، فيه إهانة للتّونسيين باعتبارهم جزء من أمّة عريقة سادت الدنيا لأكثر من ألف وأربعمائة عام، وفيه تجاهللتاريخهم الحضاري العريق، في محاولة للفصل بين ذلك التاريخ وبين الحاضر والمستقبل الذي نتطلع إليه. 

إن سوء الأوضاع المعيشية في البلدان الإسلامية لا يمكن إنكاره، لكن المغالطة أن يتم التعمية عن الأسباب الحقيقة التي تسببه، السياسة التي يتبعها الحكام والوسط السياسي العلماني الموالون للاستعمار، فبلاد المسلمين أغنى بلاد العالم، وخيراتها –من النفط والغاز والمعادن- لا تنضب، وموقعها استراتيجي بامتياز، لكنها مع ذلك كله تعاني الفقر وخيراتها منهوبة.

الوسط السياسي في تونس يدين بـ”دين” الغرب الاستعماري: الديمقراطية-الرّأسماليّة التي تجعلمن الشّعوب عبيدا لحفنة من حيتان المال وكبار المرابين، والدّيمقراطيّة الرأسماليّة هي التي جعلت من تونس كيانا هزيلا تابعا للدول المهيمنة على ساحة العلاقات الدولية، وللمؤسسات الدولية التي أنشأها الغرب لتنفيذ مصالحه، من مثل هيئة الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية وغيرها. 

وعلى النّقيض من هذا الوسط السياسي المهترئ نجد الشعب في تونس يدين بالإسلام، يحبّه ويتعلّق به. 

والسؤال هنا لماذا الارتباط بهذا الوسط السياسيّ العلماني الموالي للغرب المستعمر عدوّ تونس؟ لماذا ننتظرهم؟ لماذا لا نستكمل ثورتنا نحو أفقها الحقيقيّ؟

إذا لم تتحرر الأمة من الغرب سياسيا واقتصاديا وفكريا فلا يمكن أن يدّعي أحد حينها أن هنالك ثورة وتغييرا، ولا يمكن للمسلمين في تونس وغير تونس أن يدفعوا عن أنفسهم وعن عيالهم الجوع أو يقدروا على حياة كريمة إذ مصيرهم بأيدي أعدائهم وثرواتهم تنهبها الشركات العابرة للقارّات، فأنّى لهم الحياة الكريمة. نعم إذا لم تتحرّر الأمّة المسلمة لن يتوفّر لها حتّى رغيف الخبز وسيظلّ المسلمون يركضون ويشتغلون بالليل والنّهار، ثمّ يسلبهم المستعمر جهودهم كما سلبهم ثرواتهم ولن يترك لهم إلا الفتات. وسيكون الاستعباد هذه المرّة باسم الثّورة بعد أن كان من قبل باسم الاستقلال. 

ولأجل ذلك يجب على المسلمين في تونس وغير تونس، أن لا تُلهيهم المطالب الجزئيّة، ولا يشغلهم رغيف الخبز عن قضيّتهم. وعليهم إتمام ثورتهم النّاقصة، لتستكمل الثّورة مسارها إلى أفقها الحقيقي.

فما هو أفق الثّورة الجدير بها؟

الشعب في تونس يدين بالإسلام، ويحبّه وهو متعلّق به، والإسلامأنزله الله ليحرر الناس من كل عبودية لغير الله، الله أنزل الإسلام نظاما ينظّم حياتنا من جميع جوانبها. ولقد بعث الله رسوله الكريم صلّى الله عليه وسلّم، ليُعلّمنا كيف نعيش بالإسلام أعزّة كراما سادة في الدّنيا، ليس هذا فحسب بل جعل منّا خير أمم الأرض نحمل الإسلام خيرا ونورا ليتخلّص كلّ البشر من عبوديّة الرأسماليّة والقوانين الوضعيّة إلى عبوديّة الله وحده. 

هذه هي رسالة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، دولة تطبّق الإسلام وتحمله للنّاس.

التحق الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالرّفيق الأعلى وتركها أمانة لنحملها نحن المسلمين من بعده، فكانت الخلافة الرّاشدة استكمالا لمسار الرّسالة النبويّة، إلى أن تمكّن الكفّار المستعمرون بمعونة الخونة من التّرك والعرب من إسقاط دولة الخلافة (على ضعفها وسوء تطبيقها للإسلام). واليوم، وبعد أن دبّ الوعي في المسلمين وعرفوا عدوّهم (المستعمر وأعوانه) آن لهم أن يستعيدوا دورهم في العالم بأن يكونوا بحقّ أتباعا لرسول الله يستكملون ثورتهم التي بقيت ناقصة نحو استئناف مسار رسالته صلّى الله عليه وسلّم بدولة تحكم بما حكم به صلّى الله عليه وسلّم. 

هذا هو معنى الخلافة: خلافة لرسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين، لا نبيّ بعده ولكن خلفاء نبايعهم الأوّل فالأوّل على تطبيق أحكام الإسلام وعلى حمل الإسلام للعالم. هذا هدي الله. والطّريق الذي رسمه لنا.

الأستاذ محمد الناصر شويخة

CATEGORIES
Share This