الدستور آليةً لاستهداف الهويّة الإسلاميّة في تونس (الجزء 1)

الدستور آليةً لاستهداف الهويّة الإسلاميّة في تونس (الجزء 1)

مجدّدا، طفت مسألة الدّستور على سطح الأحداث السياسيّة في تونس: فمع اعتزام الرّئيس سعيّد الاستفراد بالسّلطة وإلغاء الأحزاب السياسيّة وتطبيق الدّيمقراطيّة المجالسيّة، تأكّدت الحاجة إلى إطار دستوريّ وغطاء قانونيّ جديدين يؤمّنان له ذلك. ودون مقدّمات زُجّ بالشّعب التّونسيّ في ثنائيّة مقيتة يتجاذبها دستوران وضعيّان نابعان من مشكاة الأنظمة الدستوريّة الغربيّة المحاربة لله ورسوله هما: دستور 1959 بما يمثّله من نظام رئاسيّ مطلق على مقاس مشروع “الإخشيدي”، ودستور 2014 بما يمثّله من نظام برلمانيّ وجرعة زائدة من الديمقراطيّة التمثيليّة تحول دون ما يصبو إليه الرّئيس. وبين هذا وذاك غُيِّب الشّعب التونسي عن هذا (الميركاتو) الاستعماريّ بوصفه مجرّد رصيد انتخابيّ أصمّ أبكم منبتّ عن تاريخه وعقيدته وهويّته الإسلاميّة رغم ما بين الدّستور والهويّة من علاقات جدليّة ووشائج حميمة وهذا مكمن المفارقة: فلئن عُرِّفت الهويّة بأنّها (وعاء الضّمير الجمعيّ الذي يختزل موروث المعتقدات والقيم والأفكار المشترك والسّيمات الأساسيّة التي تنفرد بها مجموعة من البشر فتربط بينهم وتميّزهم عن غيرهم وتشكّل جوهر وجودهم ومبعث تفرّدهم ومصدر فخرهم واعتزازهم), فإنّ الدّستور هو التّرجمة التشريعيّة القانونيّة التطبيقيّة العمليّة لتلك الهويّة. فقد عُرّف بأنّه (القانون الأساسيّ الذي يحدّد شكل الدّولة ونظام الحكم فيها ويبيّن حدود واختصاص كلّ سلطة فيها وينظّم العلاقات بين الحكومة والأفراد من حيث حقوق كلّ طرف وواجباته تجاه الآخر)..بمعنى أنّ الدّستور هو الذي يحدّد ما ستطبّقه الدّولة على مستوى نظام الحكم والنّظام الاقتصاديّ والنّظام الاجتماعيّ والسّياسة الخارجيّة وسياسة التّعليم والإعلام والتّقاضي بين النّاس بيّنات وعقوبات. بما يحيل عليه كلّ ذلك من قاعدة فكريّة وخلفيّة عقائديّة..وبالتّالي فالدّستور هو الذي يعيّن هويّة الدّولة أي انتماء البلاد والعباد الثقافيّ والحضاريّ والتاريخيّ.. وبما أنّ عمليّة وضع الدّستور هي بمثابة توثيق وتقنين وتشريع لهويّة معيّنة فإنّها سلاح خطير ذو حدّين ،إذ يمكن أن يُوظّف لتكريس الهويّة الأصليّة وتثبيتها وتدعيمها أو لمسخها وطمسها ونقضها وفرض هويّة ضديدة على أنقاضها بشرعيّة الدّستور وعلويّة القانون وقوّة السّلطة ونفوذ التّموقع فيها، وهذا مكمن المعضلة..
إطار مشبوه
ويتأكّد هذا المنحى السّلبي بالنّسبة إلى تونس بالنّظر إلى إطاره المشبوه من ثلاث زوايا، الأولى من حيث طبيعة نشأة الدّساتير: فإنّ وضع الدّساتيرـ سواء أكان ذلك في شكل قانون إلزاميّ أو عبر تراكم العادات والتّقاليد والأديان أو عن طريق جمعيّات وطنيّة ومجالس تأسيسيّة ـ هو مؤشّر إمّا على نشوء الدّول وتأسيس الكيانات ابتداء ،أو على وجود تصوّر جديد لهويّة الدّولة..وفي كلتا الحالتين فهو حدث من الأهميّة والخطورة بمكان :فهل أنّ تونس أمّة ناشئة تستند إلى فراغ حضاريّ وتشريعيّ أم هل أنّها تعتزم الانقلاب على ألفيّة ونصف من الانتماء إلى الحضارة الإسلاميّة..؟؟ الزّاوية الثّانية من حيث تركيبة المجالس التي تتولّى عادة وضع الدّساتير: فقد حرص الاستعمار على جعلها خليطا لا متجانسا يضمّ العلمانيّ والشيوعيّ واللبراليّ والقوميّ والإسلامويّ..بما يفضي بالحتم إلى المصادقة على بنود مخالفة للشّرع..وحتّى تطعيم تلك التّركيبة ببعض الإسلامويّين لا يفيد بالضّرورة أنّها ستتمخّض عن دستور إسلاميّ بقدر ما يحيل على الإيهام بالأسلمة والسّعي لتوريط الإسلاميّين في اقتراف تلك الجريمة نشدانا للمشروعيّة عبر بعض البهارات الإسلاميّة شكلا / العلمانيّة مضمونا في إطار دستور علمانيّ توافقيّ..الزّاوية الثّالثة من حيث المحاذير المرفوعة في وجه واضعيّ الدّستور: فإنّ رسم خطوط حمراء ومقدّسات و(تابوات) غير قابلة للمساس ولا للنّقاش من قبيل الديمقراطيّة والنّظام الجمهوريّ وفصل الدّين عن الحياة ومجلّة الأحوال الشخصيّة ومدنيّة الدّولة والحريّات وحقوق المرأة والطّفل والاتّفاقات الدّوليّة..تعدّ أوّل مسمار يُدقّ في نعش إسلاميّة الدّستور المرتقب ،فهي تكشف عن غياب التّأصيل الفقهيّ وحصر النّقاش في الفروع دون الأصول ،كما تختزل جملة من الأحكام المسبقة حول الإسلام بوصفه مجرّد ديانة كهنوتيّة قائمة على بعض التعاليم الأخلاقيّة مفصولة عن الحياة ليس فيها نظام حكم ولا دولة ولا معالجات. إذن, فمن المحال عقلا وشرعا أن يكون الدّستور المطبوخ في هكذا إطار دستورا إسلاميّا يعكس هويّة البلاد والعباد لأنّه يناقض الإسلام ويقصيه عن الحكم والتّشريع.. وبالتّالي فإنّ تونس مقبلة على حدث مفصليّ فارق في تاريخها يضع هويّتها وجملة ثوابتها العقديّة والحضاريّة في مهبّ المزايدات السياسيّة بشكل جدّيّ وخطير، وهذا ـ تاريخيّا ـ بيت القصيد..
دستور الهويّة
إنّ الهويّة الإسلاميّة للبلاد التونسيّة قد حدّدتها سنابك خيل الفاتحين منذ غزوة العبادلة السّبعة (27هـ/648م) مرورا بثماني حملات عسكريّة أخرى وصولا إلى ولاية موسى ابن نصير (80هـ/700م) حيث حسُن إسلام البربر ووُضِعت عنهم الجزية وأضحوا جزءا لا يتجزّأ من دولة الخلافة ومكوّنا عزيزا من مكوّنات الأمّة الإسلاميّة..وقد كفل لتونس هويّتها تلك وأمّنها لها طيلة ألفيّة ونصف دستور واحد أوحد مستند إلى العقيدة الإسلاميّة ـ انبثاقا وانبناء ـ مصدره الكتاب والسنّة وما أرشدا إليه من إجماع وقياس ،أمّا بنوده فمنشؤها اجتهاد المجتهدين يتبنّى الحكّام منها ما يلزمهم لرعاية الشّؤون من أحكام على أساس قوّة الدّليل يأمرون بها ويلزمون النّاس العمل بها.. وهذا الدّستور يتميّز أوّلا بأنّه دستور جزئيّ أي أنّ تبنّي الأحكام فيه خاصّ وليس عامّا كليّا يشمل جميع الأحكام التي تحكم بها الدّولة. وهذا كان دأب المسلمين في العصور الأولى يقتصرون في التبنّي على الأحكام العامّة التي تحدّد شكل الدّولة وتضمن بقاء وحدة الحكم والتّشريع والإدارة ويتركون للولاة والقضاة مهمّة الاجتهاد واستنباط الأحكام الجزئيّة التّفصيليّة التي تُرعى بها الشّؤون وتقضى بها النّوازل وتفضّ بها النّزاعات ممّا يساعد على الإبداع ويشحذ ملكة الاجتهاد وينمّيها..غير أنّ هذه الحال ما كان لها أن تتواصل على ما هي عليه لأنّها تفترض أن يكون الاجتهاد متيسّرا بين النّاس كما في عصور الإسلام الأولى، أمّا وقد بعدت الأمّة عن الثّقافة الإسلاميّة الصّافية وأضحى المسلمون مقلّدين لا يوجد بينهم المجتهد إلاّ نادرا ـ يستوي في ذلك العامّة والخاصّة من حكّام وولاة وقضاة ـ فإنّ الاقتصار على التبنّي الجزئيّ والاتّكال على الأعراف قد يؤدّي إلى الفوضى واختلاف الأحكام وتناقضها بل إلى الحكم بغير ما أنزل الله..لذلك كان طبيعيّا أن تؤدّي السّيرورة التشريعيّة في تونس وباقي العالم الإسلاميّ إلى وضع دساتير بمفهومها الحديث، فيها تبنّ عامّ وشامل لجميع الأحكام التي تضبط شؤون الدّولة وتقضي مصالح رعاياها وترعى شؤونهم وفق أحكام الله بشكل واضح ودقيق ومضبوط وشامل وموحّد.. فهل أنّ وضع الدّساتير في تونس كان فعلا تتويجا لسيرورة تشريعيّة طبيعيّة اقتضتها حاجة الأمّة لضبط قوانينها وأحكامها والحفاظ على كيانها وهويّتها أم أنّه إسقاط وافتعال وتعسّف وحرف للمنظومة التشريعيّة عن مسارها الطبيعيّ وراءه جهات أجنبيّة عدائيّة مشبوهة تروم دسترة وتقنين مسخ هويّة البلاد والعباد واستنزاف مقدّراتهم..؟؟
الدّستور والتّوثيق
الميزة الثّانية التي يتميّز بها الدّستور المنبثق عن العقيدة الإسلاميّة الذي تلبّست به تونس منذ الفتح الإسلاميّ هي أنّه دستور شفويّ عرفيّ غير موثّق أي غير مدوّن ولا مكتوب ،ولا غرابة في ذلك :فهو منقوش في صدور الرّجال وقلوبهم يخالط لحمهم ودمهم ونخاعهم الشّوكيّ بوصفه أحكاما شرعيّة موحى بها من ربّ العباد جلّ وعلا، فقد بلغ مرحلة من العراقة والتركّز استحالت معها بنوده مفاهيم تحرّك مشاعر الرضا والغضب وتسيّر السّلوك وتكيّف الميولات والأحاسيس بحيث انعقد حوله عرف عامّ ورأي عامّ منبثق عن وعي عامّ في المجتمع أضحى معه خطّا أحمر يقرأ الحاكم له قبل المحكوم ألف حساب..لذلك فقد كان في غنى عن التّدوين ناهيك وأنّه محبّر بين دفّتي المصحف وكتب الصّحاح، فالتّدوين عمليّة اختياريّة توثيقيّة تنظيميّة إداريّة بحتة والدّستور في المطلق لا يستمدّ مشروعيّته من تدوينه وتوثيقه وكتابته بل من ذاته أي من قاعدته الفكريّة التي استند إليها وعقيدته التي انبثق عنها أي من مدى إيمان النّاس بموادّه وتصديقهم الجازم لفصوله ودرجة اعتقادهم في مصدره والوشائج الرّوحيّة التي تربطهم بأحكامه وقوانينه ،فهذه المعطيات وحدها كافية لإسباغ المصداقيّة على الدّستور وضامنة لانصياع الشّعب الطّوعيّ له ولما انبثق عنه من أحكام وقوانين بوصفها شكلا من أشكال العبادة لله تعالى..لذلك فقد استُهدِف استعماريّا منذ أواسط القرن (19م) بدستورين ضديدين مسقطين على الأمّة منبتّين عن أعرافها الإسلاميّة اُحتِيج لتدوينهما وتوثيقهما لإكسابهما حجّية ومصداقيّة مفترضة ومرجعيّة وقوّة إجرائيّة إجباريّة إلزاميّة :ذلك أنّ فقدان المصداقيّة والمشروعيّة والقناعة الذّاتيّة في صفوف الأمّة يفضي حتما إلى اعتماد وسائل الإلزام والإجبار والتي من أهمّها ـ إلى جانب القوّة الماديّة ـ التّوثيق والتّدوين والضّبط والمرجعيّة والإحالة التي تزوّد الأحكام الوضعيّة بشهرة داخليّة تخفّف من غرابتها وانبتاتها وامتعاض النّاس منها..هذان الدّستوران هما :دستور عهد الأمان (1861م) ودستور الاستقلال (1959م) وقد استهدف كلاهما هويّة البلاد وسيادتها وسلطانها ومقدّراتها وانتماءها العقائديّ والحضاريّ بخبث ودهاء ومكر وباعتماد سياسة المراحل ونظام القطرة قطرة ودسّ السمّ في الدّسم..
دستور عهد الأمان
هو باكورة الدّساتير في العالم الإسلاميّ أعلنه محمّد الصّادق باي سنة (1861م) بإيعاز وضغط وتدخّل مباشر من القناصل الأجانب وبتأثير شخصيّ من الوزير الفرنسيّ في الحكومة التونسيّة آنذاك (نعم) المسمّى (جوزاف راف)..ويتكوّن هذا الدّستور من 114 مادّة أهمّ ما نصّت عليه (ـ الأمان لجميع سكّان الإيالة دون اعتبار ديانتهم وأجناسهم وجنسيّاتهم ـ المساواة بينهم في مسائل الضّرائب والرّسوم الجمركيّة ـ توفير الحريّة لهم في الاستثمار والتّجارة والعمل وشراء العقّارات والأراضي الزراعيّة ـ تحديد مدّة التّجنيد وتعميمه على كافّة السكّان ـ الباي هو رئيس تونس ولا تنعقد بيعته إلاّ بيمين على عدم مخالفة موادّ العهد ـ إنشاء المجلس الكبير المختصّ في وضع القوانين وتفسير القوانين المعمول بها ـ تقسيم المحاكم إلى شرعيّة تختصّ في قضايا الأحوال الشخصيّة ومحاكم درجة أولى تنظر في سائر القضايا ـ إنشاء محكمة استئناف ومحاكمة الأجانب أمام قناصلهم لا أمام المحاكم الأهليّة)..وكما يتّضح من هذه العيّنة فإنّ هذا الدّستور وُضِع لإفراغ هويّة البلاد من محتواها ومصادرة سيادتها وسلطانها وعزلها عن محيطها الإسلاميّ وتهيئتها للاستعمار والنّهب وخدمة المصالح الأجنبيّة: فقد فتح البلاد على الاستثمارات الخارجيّة وعلى الاستدانة من الغرب ممهّدا بذلك للتدخّل السياسيّ والعسكريّ بعد الإغراق في الدّيون والعجز عن التسديد، ومنح الأجانب حقوقا تفوق أحيانا حقوق الرّعايا بما في ذلك حقّ تملّك العقّارات والأراضي الفلاحيّة للتحكّم في الأمن الغذائيّ للدّولة وحقّ التّجنيد لنقل أسرارها العسكريّة للدّول الاستعماريّة ،وكفل لهم جميع الحريّات لتسهيل مهمّة الاستعمار..كما نصّ على أنّ الباي هو رئيس تونس وليس واليا عثمانيّا في تلميح خجول إلى أنّها لم تعد إيالة عثمانيّة، وارتقى بنصّ عهد الأمان إلى مرتبة أسمى من القرآن الكريم بحيث لا تنعقد بيعة الباي إلاّ بالقسم عليه على عدم مخالفته (؟؟)..كما نصّ على إنشاء مجلس يضع القوانين ويفسّرها في محاولة التفافيّة على مبدأ السّيادة للشّرع في الإسلام ،ونصّ أيضا على المساواة بين الرّجل والمرأة وعلى إدخال قوانين الكفر ليحتكم المسلمون إليها في محاكمهم، وقصر الشّرع على الأحوال الشّخصيّة وأقصاه من المعاملات والعقوبات، وفي كلّ هذا ما فيه من حرب على الإسلام ونقض لشرائعه واجتراء على عقائده وأنظمته وأحكامه وتهيئة البلاد للاستعمار والاندثار..وما كان لكلّ هذا أن يتحقّق لولا وضع ذلك الدّستور المشؤوم الذي يُحتفى به اليوم بوصفه (أوّل دستور في العالم الإسلاميّ) ناهيك وأنّه أفضى في مرحلة أولى إلى مجاعة 1864م وثورة علي بن غذاهم، ثمّ في مرحلة ثانية إلى (الكوميسيون الماليّ) ومعاهدة 12 ماي 1882 التي جسّدت الاستعمار الفرنسيّ الفعليّ للإيالة التونسيّة.. (يتبع)

الأستاذ بسام فرحات

CATEGORIES
Share This