بقلم الأستاذ سعيد خشارم، عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير – تونس
إن ثقة الشعب التونسي في دولته قد اهتزت إلى درجة حديثه عن عدم وجودها وعدم انتظاره لأي حل لمشاكله من كيانها, فقد عانى من سلطانه الذي وهبها قبل الثورة وبعدها, وزاد وعيه على هزالها بعد الإطاحة ببن علي وبعض ركائزه فيها. وظن انه بدأ يسير حينها في إقامة دولة العزة والكرامة والعدل والقوة والتقدم, لكنه لم يلبث أن وجد نفسه في المربع ذاته الذي أحاطته به منذ البداية: فقر وبطالة وتخلف وتبعية وعجز وارتهان وحرب على الإسلام، بل إن أضلع ذلك المربع قد ضاقت عليه أكثر فأكثر حتى بات المخفي من العجز والعمالة والارتهان والحرب على السلام، يراد إظهاره وإفشاؤه وجعله أمرا واقعا تقوم عليه سياسة الفاشلين من الخونة من حكام بعد الثورة.
في الآونة الأخيرة زاد الحديث عن مصطلح واقعه غامض عند الرأي العام ووقع التركيز عليه في الإعلام كآفة من آفات هذه الدولة, وربما يروج له كسبب أساسي من أسباب فشل هذه الدولة في النهوض من كبوتها والقيام بمهامها وهو مصطلح “الدولة العميقة”.
وحتى نشعل شمعة في ظلمات التضليل الإعلامي والسياسي ونكشف الحقائق السياسية وندعو الناس في هذا البلد الطيب إلى كلمة سواء في نبذ دولة تآمرت علينا واستعملت قوتنا وسلطتنا وثرواتنا وجيشنا وأمننا ضدنا وضد ديننا وأمتنا ومصالحنا في خدمة خسيسة لأعدائنا, وإبراز النموذج الصحيح لدولة الحق والعدل التي نريد. نناقش واقع هذه الدولة التي خلفها لنا الإستعمار بعد خروجه العسكري وعلاقتها بالدولة العميقة, هل هما ضدان, الأولى تبني والثانية تخرب؟ أم هما سيان في هدم مقدرات الشعب وتنفيذ مشاريع الاستعمار عليه؟ وليكن نقاشنا في ذلك لا في انتخابات تخيرنا بين العميل والعميل والفاشل والأفشل منه. وحين تتضح لنا معالم الدولة التي نريد فليكن عملنا على إقامتها وإعلاء سلطانها وتبويئها المكانة المميزة لخير أمة أخرجت للناس في الموقف الدولي. ونطرح في سياق هذا النقاش التساؤلات التالية:
ما هو مفهوم الدولة العميقة؟
نشأة المصطلح وكيف أنشئ واقعه؟
كيف تعمل الدولة العميقة في بلاد المسلمين ومنها تونس؟ وما هي علاقتها بالدولة الرسمية وبالاستعمار؟ هل يمكن القضاء على الدولة العميقة في ظل الدولة العقيمة؟
نشأ مصطلح الدولة العميقة أولا في تركيا في تسعينات القرن الماضي للتعبير عن شبكات من المجموعات وضباط القوات المسلحة الذين اخذوا على عاتقهم حماية علمانية الدولة التركية بعد قيامها على يد مصطفى كمال أتاتورك ومحاربة أي حركة أو فكر أو حزب أو حكومة تهدد مصالح الدولة التركية العلمانية.
يقول سليمان ديمريل: “إن مظهر وسلوك النخب التي تكون الدولة العميقة وتعمل على الحفاظ على المصالح الوطنية يشكله إيمان متجذر يعود إلى سقوط الدولة العثمانية بأن البلد هو دوما على حافة الهاوية”. ثم ظهر ذلك المفهوم بتعريفات مشابهة في كل من الولايات المتحدة الأمريكية مع إنشاء الوكالة
المركزية للاستخبارات الأمريكية, وبدا أن الدولة العميقة تتمثل في شبكات السلطة السياسية في واشنطن والسلطة الاقتصادية والمالية في وول ستريت والتي تعمل على حماية مجموعة من شبكات المصالح المختلفة.
ثم تردد بعد ذلك المصطلح بين العديد من الدول وخاصة في المنطقة العربية والسلامية وخاصة بعد الثورة التي انطلقت من تونس وأطاحت بعديد الحكام في البلاد السلامية. ويعين المصطلح المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والإعلامية التي تجتمع على هدف الحفاظ على مصالحها ضد أي تهديد والعمل على إبقاء الوضع على ما هو عليه بما يحفظ تلك المصالح المتشابكة، كما تقوم بذلك بدعوى الحفاظ على الأمن القومي ضد التهديدات الخارجية.
وقد ارتبط ظهور هذا المصطلح بظهور الدولة الحديثة في البلاد الإسلامية التي عقبت دولة الخلافة الإسلامية, وهي الدولة التي أنشأها الاستعمار الغربي بعد القضاء على دولة المسلمين للحفاظ على التجزئة لحدود “سايكس-بيكو” عوضا عن الوحدة الإسلامية والحفاظ على العلمانية والديمقراطية عوضا عن الشريعة والخلافة والحفاظ على التخلف الحضاري والمعرفي بعد ما عرفته الأمة السلامية من سبق وتفوق حضاري وعلمي وفكري. فلم ينشئ الاستعمار الغربي الدولة الحديثة لتكون دولة قوية تمثل سلطان شعبها وتعمل كجهاز موحد ومستقل على التخطيط السياسي التكتيكي والاستراتيجي لحسن التصرف في الموارد وتعبئتها للنهوض بالشعب وحل مشاكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية بل على العكس من هذا كله جعل الاستعمار الدولة الحديثة في بلاد المسلمين جهازا وإن حاكى جهاز الدولة المتقدمة في الغرب من حيث الشكل أو بعض أسس الحكم, جعله أداة طيعة في يده لربط هذه الشعوب ومقدراتها به وإخضاعها لفائدته هو والحفاظ على مصالحه في بلاد المسلمين.
فعوض أن تنتج ما أنتجته الخلافة الإسلامية من تفوق عسكري وحضاري وعلمي وثقافي أو تنتج ما تنتجه الدولة العلمانية في الغرب من تقدم تكنولوجي وتخطيط سياسي واقتصادي لصالح شعوبها أنتجت دمية متحركة عاجزة عن الحركة المستقلة لذاتها بل تحركها خيوط الاستعمار لتنتج مشهدا دراميا في بلاد المسلمين من تناحر وتكالب على السلطة من أذيال الناس العملاء لا من سادة القوم وتخلف اقتصادي واغتراب ثقافي وعجز سياسي وارتهان مالي.
وحتى يضمن الاستعمار نجاح دولته التي أنشأها لهذه المهام جعل السلطة والقوة فيها ليس حكرا على الدولة الرسمية بأجهزتها الظاهرة من رئيس دولة وحكومة وسلطة تشريعية وقضائية وجيش وأمن وبلديات وولاة ومعتمدين, فهذه الأجهزة الظاهرة لا يمكن أن تحافظ على أهداف الاستعمار أمام محاولات الشعوب النهضة والتغيير والتحرر, فكان لابد من دولة داخل هذه الدولة وسلطة تنافس في قوتها هذه السلطة لحماية هذا النموذج لا يخضع لإكراهات الديمقراطية. فكون داخل المجتمع شبكات من المصالح ومراكز نفوذ تخرج على الأطر القانونية ولا تخضع لسلطان الدولة الرسمي واخترقت هذه الشبكة كل مفاصل الدولة حتى أصبحت كالسرطان الذي انتشر في جميع الجسم ورغم تضارب المصالح بين أفرادها ولوبياتها وجهوياتها, تهندس حركتها بشكل يمنع أي تغيير جدي في البلاد أو أي تحرر اقتصادي أو أمني أو عسكري, ورغم تظاهر الغرب بالضغط على هذه الجهات الخفية لكنه في الحقيقة هو من يغذيها بالمال والسلاح والامتيازات ويسهل حركتها عبر سفاراته ومخابراته وتجار سلاحه في العالم ومافيا المخدرات التي يديرها ويشرف عليها, وشبكات التهريب والإرهاب التي تعمل بأمره ولصالحه.
هكذا, ما تعجز عنه الديمقراطية في مواجهة العاملين على افتكاك سلطة شعوبهم من الاستعمار وجعلها سلطانا لهم يوكل إلى الدولة العميقة لمنع أي تغيير جدي في البلاد.
شبكة من العلاقات
تمثل الدولة العميقة تكتلا أو شبكة معقدة من العلاقات والتداخل بين الأجهزة الرسمية للدولة ومجموعات عسكرية وأمنية واقتصادية وسياسية وإعلامية لها نفاذ في الأجهزة الرسمية لمقاومة أي تغيير من شأنه أن يهدد المصالح الحيوية التي يتوقف عليها وجود الدولة العميقة والقائمين عليها. مثال ذلك ما وقع في تركيا للحفاظ على علمانية الدولة عن طريق الاغتيالات السياسية وما وقع في الجزائر من شن حرب أهلية إثر فوز جبهة الإنقاذ في الانتخابات وما فعله “الطرابلسية” زمن حكم بن علي من اختراق للنسيج الاقتصادي وتدميره بغاية تركيز نموذج ليبرالي يقوم خاصة على الخصخصة ويفتح أبواب الاستثمار الأجنبي لتغزو أسواقنا وتثقل كاهل البنوك عبر القروض المشطة دون سداد مع البنوك الغربية, والوصول إلى تحرير البنك المركزي لتصبح سيطرة الغرب على اقتصادنا هيكليا. وكما يقع اليوم من تلاعب لوبيات النفوذ في شتى المجالات، ولكل مجال لوبياته, وإن وقع التركيز على بعض الوجوه لإبراز سلطانها وعجز الدولة على مقاومتها وتفشي الفساد فإنها تكشف لتكون شماعة تعلق عليها إخفاقات الدولة الرسمية. ويرسم الغرب خططا في الظاهر لمساندة تونس بينما خططه في الظلام مع الدولة الرسمية ومع الدولة العميقة هدفها إحكام السيطرة على هذا الشعب الذي رمى بذرة الإنفلات من الاستعمار الغربي وأدواته العميلة في كامل أمة السلام من خلال ثورته المباركة في2011 .
ولذكر المعلوم الشائع في تونس, يقع التركيز على شخصية كمال لطيف لإظهارها فوق القانون وفوق القضاء بل تقع الإشارة إلى ضلوعه في المخابرات الدولية ودوره في تنصيب الرؤساء والوزراء. ويقع التركيز في الجنوب على شخصية شفيق الجراية وشبكته المتكونة من عشرات النواب وعديد الوزراء, وأحزاب سياسية وولاة ومعتمدين وقضاة ومحامين وصحافيين ومدونين وسياسيين ورجال أعمال وإطارات أدارية عليا وإطارات أمنية وديوانية وصحف وقنوات تلفزية.. بالإضافة إلى شبكة علاقات دولية متنوعة وممتدة مركزها طرابلس الليبية وتمتد إلى تركيا والخليج. ويقع التركيز في الساحل الأيام الأخيرة على شخصية الأزهر سطا وقد كشف فيما سمي بقضية الوردانين عن طريق نقيب بالحرس الوطني ويوسف المعروف بكنية “شوشو” عن تهم خطيرة لرجل الأعمال من بينها إثارة الفوضى والبلبلة والقتل والحرق, وكشفت علاقاته بعديد الشخصيات في السياسة والإعلام, ووقع الحديث عن أسهمه في بعض الإذاعات.
فالدولتان العقيمة والعميقة يعملان جنبا إلى جنب للحفاظ على طريقة العيش التي فرضها علينا الاستعمار حين سلخنا عن طريقة عيشنا الإسلامية وللحفاظ على حالة عزلنا عن عمقنا الحضاري الإسلامي مع باقي البلاد الإسلامية, وللحفاظ على سلطانه الاستعماري حتى لا يعود سلطان الخلافة السلامية.
الخلاص في الدولة العريقة
فلا أمل في دولة الاستعمار العقيمة أن تقتلع الدولة العميقة. بل لا بد من إقامة الدولة العريقة التي خبر العالم سلطانها لفائدة الإسلام والمسلمين, فيتمركز السلطان في خليفة راشد فلا سلطان لغيره إلا بتفويض منه ولا سيادة له لأن السيادة لله وحده فلا يحكم إلا بشرع الله, وبسلطانه الذي يمثل بحق سلطان الأمة يضرب على كل يد آثمة ويقطع دابر التدخل الخارجي في شؤون المسلمين بل يجيش الجيوش لفتح بلاد الكفر وتطهيرها من دنس الدولة العلمانية الديمقراطية. ومن زايد على هذا المشروع بالتخويف من تغول الخليفة وذكر أمثلة لذلك من تاريخ الخلافة نعيده أولا لنظام الحكم في الإسلام وسيجد فيه بقراءة موضوعية من الآليات الشرعية والأحكام التفصيلية ما يغشي ضباب التشويه الصليبي لدين الإسلام العظيم ودولته, وننصحه بمراجعة قراءته للتاريخ, فالغرب الحاقد نجح في الكذب والتحريف.