بما أنهم أجمعوا على أنه مثلهم الأعلى وقدوتهم في الحكم وتسيير شؤون البلاد.. لم يكتف حكام تونس الجدد بالقول بل قرنوه بالعمل وأثبتوا بالفعل أنهم من حماة الإرث البورقيبي, وأنهم جادون إلى أبعد الحدود في السير على نهج “بورقيبة” وإتباع خطاه شبرا بشبر. ولن يهدأ لهم بال حتى يحبسونا في ذلك الجحر الذي استقر فيه “بورقيبة” وسائر حكام المسلمين من قبل ومن بعد.
ومن أهم ما تركه ” بورقيبة” لورثته من دراويش دولة الحداثة تقمصه لدور ” دون كيشوت” طيلة فترة حكمه وخوضه لحروب عديدة كانت جميعها نسخة مطابقة للأصل من حرب ذلك الفارس لطواحين الهواء. فحرب “بورقيبة على الأمية, وحربه على الفقر وعلى الأكواخ وغيرها من الحروب التي خاضها باني دولة الحداثة مازالت جعجعتها تملأ الدنيا إلى الآن دون أن تمنحنا ولو ذرة طحين. كلها معارك تذهب غنائمها إلى خزائن من وكلوا “بورقيبة” وأمثاله ليحكمونا. أما نحن فلا نجني قطميرا واحدا فوق خط الوهم. مع كم هائل من الرماد يملأ عيون غالبية الناس كي لا يرون فساد ومفاسد من سلطهم المسؤول الكبير على رقابنا خدمة لمصالح دولته. وليتمكنوا من الاستمرار في احتلال مواقع الحكم. على عكس “دون كيشوت” الذي لم يجن من محاربته لطواحين الهواء غير الخواء مثلنا تماما..
“يوسف الشاهد” أنجب النجباء
سواء حين كان موظفا بالسفارة الأمريكية بتونس أو حين توليه منصب رئيس حكومة –في الواقع رئيس وزراء- نجح “يوسف الشاهد في أداء مهامه على الوجه الأكمل. وأثبت لمن راهنوا عليه أنه تلميذ نجيب ومثابر بامتياز. وبرهن أنه ابن بار للنظام العالمي الجديد لا يتوانى ولو للحظة في خدمته وخدمة القائمين عليه. لقد عمل قبل الثورة في قسم الخدمات الزراعية الخارجية بالسفارة الأمريكية, ونجح في وضع وتخطيط سياسات التعاون في ميدان الأمن الغذائي وتطوير الشراكة الفلاحية بين تونس والولايات المتحدة الأمريكية.. وكانت ثمرة تلك الشراكة تهديد أمننا الغذائي وتدمير الفلاحة في بلادنا من خلال توريد البذور المعدلة والتي يبقى إنتاجها وترويجها حكرا على الولايات المتحدة الأمريكية دون سواها.. هذا بمجرد تعيينه على رأس ما يسمى بحكومة الوحدة الوطنية. حصد “يوسف الشاهد جميع شهادات الإعجاب والإطراء, وملأ وفاضه بكم هائل منها. وأصبح مضرب الأمثال في الشجاعة اثر حضوره المثير في مجلس نواب الشعب وإعلانه وقتها عن اتخاذه لجملة من الإجراءات الموجعة التي من شأنها إخراج البلاد من أوضاعها المزرية. فلا حديث آنذاك إلا على رئيس حكومة مقدام وجرئ جاء بما عجز عنه سابقوه. ونصبوه بطلا لا يشق له غبار, ولا تفت في عضده الأزمات بجميع أنواعها, سياسية كانت أم اقتصادية أو من أي نوع كانت. ليتضح للغافلين في ما بعد أن ما أعلن عنه الشاهد في جلسة منح الثقة له ولجوقته هو في الحقيقة املاءات صندوق النقد الدولي.. وما الإصلاحات التي بشرنا بها أو بالأحرى توعدنا بها إلا تلك الاملاءات التي ذبحتنا من الوريد إلى الوريد.. وهنا ظهرت أولى بطولات “يوسف الشاهد” الزائفة التي أرهب بها أبصار وبصائر الناس..
عود على بدء
لم يكد رئيس الحكومة ينفض عنه غبار حربه الأولى حتى دق طبول الحرب مجددا وأعلن النفير واستلّ مكنسته ونادى في الناس أن عليكم بالفساد وأهله. وأقسم بأغلظ الأيمان بأن لا يترجل عن فرسه حتى يقضي على الفساد والفاسدين قضاء مبرما. وأنه سيدك أوكارهم دكا, ويجفف منا نسلهم, ويهلك حرثهم. وكما هو الحال مع “بورقيبة” ومن بعده “بن علي, هلل المهللون وطبل المطبلون.. فلا حديث يعلوا فوق الحديث عن الحرب على الفساد وأهوالها, وفتحت السجلات لتسجيل عدد من ستطيح مكنسة “يوسف الشاهد” برؤوسهم وحسب توقعاتهم ستكون بالآلاف. واصطف الأفّاقون في طوابير لتهنئة البطل المغوار بنصره على الفساد والفاسدين.. ليتضح في الأخير أن الحصيلة من تلك الحرب هي الإطاحة ببعض رموز الفساد لا يتعدا عددهم أصابع اليد الواحدة. والدافع أبعد ما يكون على مصلحة بلاد, فهي مجرد تصفية حسابات وخدمة فئة دون أخرى. والأهم من هذا كله حماية الفاسدين الأكثر نفوذا بل حماية الفساد نفسه. ومرة أخرى تضرب الحكومة موعدا مع التاريخ بتكريس سياسة الانتصارات الموهومة والبطولات الزائفة, ولا غرابة في ذلك فهي دولة الحداثة…
الهروب إلى الأمام
ما إن انقشع الغبار واتضحت الرؤية وزال مفعول الجلبة التي أحدثتها حرب “يوسف الشاهد” على الفساد, اسقط من أيدي مشعوذي دولة الحداثة فالناس أدركوا أن كل تلك الحروب هي وهم ولا تتعدى عتبة الخدع والألاعيب. كما أدرك الشاهد ومن معه أن معركتهم الحقيقية على الأبواب – الانتخابات- لذا لابد من القيام بحركة تمكنهم من اصطياد أكثر من عصفور بحجر واحد, مواصلة بيع الوهم وبالتالي ضمان استمرار النظام الوضعي المتهالك وإنقاذه من السقوط وتحقيق مكسب ذاتي وهو الفوز بالانتخابات لنيل شرف الذود على بقاء دولة الحداثة ومواصلة حراسة ارث “بورقيبة” وحمايته من الاندثار, ومن ثمة حيازة عطف وود المسؤول الكبير. والحالة تلك, لا حل إلا في ركوب صهوة جواد “دون كيشوت” مجددا, وخوض غمار حرب وهمية جديدة تحقق للدولة الحالية والقائمين عليها فوائد جمة لا تحصى ولا تعد. أما البلاد وأهلها فلا حاجة لهم لا بالرفاهة ولا بالكرامة, يكفيهم ترديد نموت نموت ويحي الوطن. وهذا ما تتكفل به الدولة طيلة ست عقود. ولقد نجحت في جعلهم أموات إلى أبعد الحدود..
لقد دخل رئيس الحكومة حربه الأخيرة من بوابة الثروات. وهذا الملف بات بعد الثورة حديث الشارع. ومن أكثر الملفات التي طالب الناس بفتحها, بل أصبح أو يكاد مطلبهم الوحيد.. بعد أن حرك المخلصون هذا الملف الشائك ورفعوا الغطاء عن حقيقة ثرواتنا المنهوبة كالبترول والفسفاط والملح ونحوه.. وحسبنا التذكير بحملة “وينو البترول” التي أزعجت سفراء الدول الناهبة وأقضت مضاجعهم وهذا ما أقر به أحد الوزراء الذي ساءه انزعاج أولياء نعمته واستهجن كما هو حال صاحب الهيبة ورئيس الدولة بالوكالة “الباجي قائد السبسي”. إذن قد فكر “الشاهد” وقدر وقرر فجأة عدم التمديد في اتفاقية استغلال الملح مع شركة” كوتيزال” الفرنسية التي تم إبرامها سنة 1949.
وكالعادة تجمهر المطبلون ليشيدوا بالقرار السيادي ويرفعو ” يوسف الشاهد” إلى مصاف الأبطال الأشاوس والمحاربين البواسل. كيف لا وهو الذي وقف سدا منيعا في وجه إحدى أعتا القوى الاستعمارية وأشرسها. ومنعها من نهب ثرواتنا وخيراتنا.. وفات هؤلاء أن بطلهم الفريد قد مكن من خلال هذا الرفض الشركة المعنية من استغلال ثروتنا لمدة عشر سنوات إضافية. في حين كان بإمكانه طلب إعادة النظر في الاتفاقية منذ مدة طويلة مع ضمان استعادة تونس لحقوقها كاملة منذ إمضاء الاتفاقية المذلة سنة 1949. هذا وستستفيد الشركة الفرنسية من ثروة الملح لمدة 10 سنوات قادمة بنفس السعر أي فرنك واحد للهكتار مع إعفائها من الضرائب. وتمتعها بنفس الامتيازات التي تنص عليها الاتفاقية دون نقصان. ثم إن هذا المنع من التمديد لا يشمل أكبر الملاحات الموجودة في بلادنا وهي سبخة جرجيس التي تستغلها شركة “كوتيزال” الفرنسية بموجب أمر سنة 1953, أي أن قرار منع تجديد الاستغلال يتعلق بجزء فقط من مناطق إنتاج الملح ويخص ملاحة الساحلين وملاحة طينة فقط. وهذا ما لم يشر إليه البطل الهمام “يوسف الشاهد” وهو يتشدق بانجازاته وبطولاته.
ثم لماذا لم يلغي اتفاقية 1955 التي تمكن فرنسا من الاستحواذ على جميع ثرواتنا الباطنية, ولا يحق لكائن من كان التطرق إلى ما تغنمه فرنسا من خيراتنا, و لا يجوز بأي حال من الأحوال مناقشة الأمر. أم أن الأمر سيبقى معلقا لحين موعد أخر لحرب وهمية أخرى تخوضها دولة الضرار هذه بقيادة ” كمبارس ” جديد يتقمص شخصية “دون كيشوت”؟