الديمقراطية لا تسمح بتغيير النظام السياسي
قد يظن البعض ان تحقيق الديمقراطية في بلاد المسلمين, يعني تحقيق الحرية السياسية, وانه يجعل الامة مصدرا للسلطات , وانه يتيح المجال للتيارات السياسية المعبرة عن جماهير الامة لتقود النظام السياسي لتصبح المعبر عن تطلعاتها في تغيير النظام السياسي وبناء الدولة الاسلامية.
ما لا يدركه البعض ان الديمقراطية المراد تطبيقها في البلاد الاسلامية ليست نوعا واحدا بل هي في معظم الاحيان مجرد شعارات لأهداف عديدة تتلاعب بها القوى السياسية الدولية , بل ربما قد يتحقق شكلا من اشكال الديمقراطية, لكن دون ان يؤدي ذلك الى حرية سياسية ومع ذلك يبقى دور جماهير الامة معطلا ومحجما وغير مفعّل.
النظام الديمقراطي: آليات وقيم
من جهة أخرى نجد ان الديمقراطية هي تصور سياسي متكامل نابع من الحضارة الغربية, المخالفة لنظام الاسلام , وهذا التصور يعتمد على قيم و آليات , وليس مجرد آليات فقط.
ولئن كانت الانتخابات والاحتكام لأصوات الناخبين, والتعددية السياسية , والتداول على السلطة, وحرية امتلاك وسائل الاعلام من الآليات التي تُنسب إلى النظام الديمقراطي, وأن بعض هذه الآليات مقبولة ولا حرج في اعتمادها مثل ألانتخابات وإباحة تملك وسائل الاعلام والتعددية السياسية داخل النموذج الحضاري الإسلامي لكن يجب ان لا نغفل على أن القيم الديمقراطية الاساسية مخالفة تماما لقيم الإسلام وأهمها سيادة العقل البشري كمرجعية مطلقة لفعل الإنسان وان هذا الفعل يقوم على اختيارات العقل وليس على المرجعية الدينية, من هنا جاءت فكرة فصل الدين عن الحياة كأهم ركائز هذا النظام وجاءت فكرة التفويض المطلق من الجماهير للنخب السياسية في ممارسة التشريع والسلطة دون الرجوع للجماهير.
الديمقراطية لا تسمح بالتغيير الجذري
ما ينبغي معرفته ان انتقال اوروبا من عصور الاستبداد الى ما يسمى “عصر النهضة ” لم يحصل من خلال الانتخابات وصندوق الاقتراع بل من خلال ثورات دموية وحروب وان هذه الثورات هي التي وضعت الدساتير والقوانين , وبعد ان استقرت الاوضاع تم اللجوء الى الانتخابات.
فالتنافس الحر على السلطة في النظام الديمقراطي يحصل بين احزاب تنتمي الى نفس النظام, أي تحمل نفس القيم المشتركة التي يقوم عليها النظام الديمقراطي, من تقديس الفكر البشري – سيادة الشعب – وعُلويته على غيره من الافكار وخصوصا الدينية.
وما يطرح من بدائل خلال التداول على السلطة هي بدائل لنفس النظام العام المسيطر والمترجم في الدستور والقوانين, وان حجم التغيير الحادث خلال الانتخابات لا يؤدي الى تغيير جذري ولا الى تغيير نظام بآخر.
إن التغييرات الجذرية في النظام السياسي والتي حصلت في التاريخ لم تكن تغييرات سهلة بل كانت صراع ارادات وتحمّل القائمون عليها الحصار والتعذيب والتشريد بين البلدان , وهذا ما حصل للنبي عليه الصلاة والسلام خلال مسيرته في بناء الدولة في القرن السابع الميلادي .
اما في القرنين الماضيين فالثورة الفرنسية والثورة البلشفية اللتان غيرتا النظام السياسي لم تحصلا بالانتخابات والتداول على السلطة بل كانت ثورات دموية وقتل خلالها عشرات بل مئات الآلاف من الاشخاص.
وحتى في التاريخ القريب فالتغييرات التي حصلت في أوروبا الشرقية أواخر القرن العشرين والانتقال من الاشتراكية نحو الرأسمالية لم يحدث بالانتخابات بل من خلال التظاهر والعصيان المدني والحروب, والانتخابات جاءت لتكمل المشهد بعد حسم الامور.
الديمقرطية المشروطة
الديمقراطية المطبقة في بلاد المسلمين هي ديمقراطية مضمونة النتائج, وهي تعتمد على تحديد وفرز النخب التي يمكن ان تصل الى الحكم وتمنع أي تيار ” اسلامي” من الوصول الى الاغلبية في الحكم , ولذلك تُصاغ القوانين الانتخابية “نظام البقايا” لهذا الغرض.
تسمح الديمقراطية أحيانا بإمكانية التعايش مع بعض الحركات الاسلامية على شروط معينة لبقاء الشكل الديمقراطي في العملية. وحين يصبح الامر غير ممكن يصبح الانقلاب هو الحل على النموذج المصري.
ديمقراطية بدون جماهير : ديمقراطية النخب
الديمقراطية المطلوبة هي تلك لا تأتي بما يريده الناس بل ما تريده الدول الاستعمارية المتحكمة من وراء الستار , وذلك عبر ايصال نُخب متحالفة مع الغرب لتطبيق سياساته وتمرير مصالحه وتنتمي له فكريا وسياسيا.
الديمقراطية المطلوبة ليست تلك التي تُعبر عن رأي الجماهير وتتمسك بقيمها وتوجهاتها, بل هي تلك التي تكون وصية عليها.
فالنظام لا يريد أحزابا تمثل الجماهير بل يريد نخبا أو أحزابا مصطنعة تمارس الوصاية عليها , وتعتبرها متخلفة أو تنتمي الى ثقافة متخلفة لذلك يجب فرض الوصاية عليها فكريا وسياسيا. لذلك نسمع كثيرا ان مستوى تونس هو … في ….سنة أولى … ثانية ديمقراطية ….مقارنة بالدول المتحضرة التي يحمل النخب ثقافتها.
المطلوب اصطناع نخب بقوة المال والإعلام تنتمي في أغلبها الى المشروع الغربي ألرأسمالي وقد تكون تابعة لأجهزة ألاستخبارات ويتم دعم هذه النخب المصنعة بالمال والإعلام وإعطائها سلطة ونفوذ وحماية, ثم تحاول هذه النخب قيادة الناس, بعد ايهامهم بإمكانية تحقيق مصالحهم.
بين السياسة الاسلامية والديمقراطية
هذا هو واقع النظام الديمقراطي المطبق في بلاد المسلمين والذي يريد ان يحتوي الدعوات الجادة نحو تغيير النظام السياسي ونحو دولة تقوم على العقيدة الاسلامية ونظام الخلافة.
-
فشتان بين سياسة تعتمد على العمل الجماهيري المباشر وبين سياسة تعتمد على النخب المصطنعة والمدعومة من الخارج.
-
شتان بين من يعتمد على الصراع الفكري والكفاح السياسي وبين من يعتمد على التحالفات والمصالح المشتركة بين النخب المصطنعة الموالية للمستعمر .
-
شتان بين من يدعو الى استرجاع هوية الامة السياسية والحضارية والفكرية دون سواها, وبين من يرضي بهوية المستعمر ويدعو لها ويعمل بها.
-
شتان بين من كان هدفه تغيير النظام السياسي وتغيير اساس الحكم والسياسة والحضارة وبين من يعتمد على الحلول الوسط و يقبل بسياسة الامر الواقع ويعمل داخل حدودها.
-
د. محمد مقيديش