ممّا لا شكّ فيه أنّ متابعة البرامج التلفزيّة عموما والمسلسلات الدراميّة خصوصا على الفضائيّات التونسيّة في شهر رمضان يُعدّ من قبيل زنى الحواسّ ومن مفسدات الصّيام إن لم يكن من مبطلاته: فمن المضحكات المبكيات أنّ قنوات تونس القيروان والزيتونة تستقبل شهر الصيام والقيام والقرآن والتوبة بمشاهد العري والفسق والفجور والخلاعة والجريمة والتطاول على الله ورسوله، فتنزع عنها ورقة التوت التي تستر عوراتها وتنتصب بتعمّد مفضوح لتفتيت رواسب الحياء وزعزعة بقايا العقيدة مطلقة العنان للإسفاف والابتذال والتفسّخ والانحلال بشكل مقزّز ومستفزّ.. وفي الواقع فإن الإعلام التونسي قد انخرط في هذا الاستهداف المنهج للمشاهد المسلم منذ أن تأسيسه أواخر ستينات القرن المنصرم، انطلق في ذلك على استحياء ثمّ وبنظام القطرة قطرة مافتئ يضاعف من جرعة التمييع والابتذال والمسخ عامًا بعد عام حيث تزداد وتيرته في شهر الصّيام بشكل مقصود ومتعمّد..أواسط الثمانينات اتّخذ هذا الاستهداف شكل المحاربة الفكريّة التاريخية لله ورسول إمّا بشكل سافر ومباشر أو بشكل مقنّع: فاستحالت المسلسلات التاريخيّة مناسبة للمسخ والتشويه وتزوير وتمرير المغالطات والدّسائس، كما استحالت البرامج الدّينية ومضات موجزة لدسّ السمّ المركّز في الدّسم على أفواه الدّعاة على أبواب جهنّم وفقهاء السلاطين الذين يتولّون إخراج الكفر البواح مخرج الإسلام المستنير وتمرير أباطيل المبشّرين وإعلام الاستشراق الكولونيالي في جلباب الوعظ والإرشاد والتّذكرة والتّواصي بالحقّ.. وبين هذا وذاك تتولّى البلاتوات الترفيهية ومسلسلات (الهشّك بشّك) دغدغة أحطّ وأدنى غرائز المشاهد عبر حواسّه الخمس من خلال مشاهد العري والرّقص والفجور والمجون والابتذال والإيحاءات الجنسيّة واللّغة السّوقية..
دراما المجارير
بعد الثورة انخرطت الدراما الرّمضانية التونسيّة في مشهد مقرف من الإسفاف مواكبةً للمتغيّرات السياسيّة من أجل الالتفاف على ثورة الأمّة ووأد نبع الخيريّة الكامن فيها: فقد تميّزت الأعمال الدراميّة أوّلاً بتشويه الإسلاميّين والتنفير من الإسلام السياسي، إذ سارت على خطى الدّراما المصريّة في طرح الظاهرة الإرهابيّة بنحت ملامح الإرهابي المتوحّش المتخلّف المتنافر مع العصر مظهرًا وسلوكًا وإخراجه مخرجً المجرم الدّموي والقاتل المأجور الموظّف من قبل الاستعمار لهزّ استقرار دولة الحداثة.. وتميّزت ثانيًا بالإغراق في السّفاسف والميوعة والابتذال حدّ الشّطط بحيث لم يبق لها إلاّ أن تنقل لنا المشاهد الإباحيّة الساخنة في شهر الصّيام: فبحجّة الواقعيّة ونقل الواقع وعلاج الواقع أغرقت في تصوير بعض السلوكيّات السلبيّة الشّاذّة من قبيل الاغتصاب والزّنا وزنا المحارم والمخدّرات والشذوذ الجنسي والجريمة والاختطاف والقتل وعقوق الوالدين والحرقة والسجون والإصلاحيّات.. وعمّمتها وأسقطتها على المجتمع التونسي بوصفها ظواهر اجتماعيّة متأصّلة فيه وليست حالات شاذّة محدودة لا يخلو منها ولا مجتمع المدينة الفاضلة، ولو أُنفقت هذه التمويلات الضّخمة المرصودة لتلك الأعمال على الواقع نفسه لغيّرته ولعالجته.. وكمثال صارخ على (دراما المجارير) هذه نذكر مسلسل (الفوندو)، فهو مجرّد رصف وتجميع وحشد لجملة من السلوكيّات الشّاذة بشكل مقزّز (تلميذة تحمل من أستاذها ويقتلها ـ سجين سابق يتعامل مع مهرّب ذهب من الجزائر ـ يسهر مع أخته في حانة مع مجموعة من المنحرفين ويشربون الفودكا ـ يعاشر عزباء في بيتها مع شلّة من المجرمين ويشربون الويسكي ـ يتاجر في الزطلة وابنه المراهق يتعاطى المخدّرات ويمارس القمار..).. نعم على مثل هذه القاذورات يفطر الصّائمون في تونس القيروان والزيتونة..
قدوة ومثل أعلى
كما تميّزت الأعمال الدرامية الرمضانيّة ثالثًا بالتسويق لنماذج بشرية وسلوكيّة وفكريّة مشوّهة ممسوخة فاشلة وإخراجها مخرج الأبطال والمشاهير الذين يتربّعون قمّة النّجاح وذلك بغية دفع النّاشئة إلى الاقتداء بهم واتّخاذهم مثلا عليا ثمّ النسج على منوالهم باعتبار سيرتهم أقصى الطّموحات.. على هذا الأساس روّجت الدّراما الرّمضانية التونسية “للباندي والزوفري ومتعاطي المخدرات والعاق لوالديه والشّاذ جنسيًّا والعاهرة والمسترجلة ونزلاء السّجون والاصلاحيّات” ولكل ما يتعلق بهذه النماذج البشرية المنحطّة من سلوكيّات وممارسات وأنماط تفكير وأجهزة اصطلاحيّة لغويّة وحشرتنا قسرًا في أجوائها القذرة وأدخلتهم إلى منازلنا وأسمعتنا كلامهم البذيء بحيث أضحى أحدنا يستحي من مشاهدة التّلفاز مع أمّه وأبيه وإخوته وأبنائه.. ولئن كانت الشّعوب الحرّة تروّج في إعلامها لأبطالها ومصلحيها وعلمائها وصلحائها وتظهرهم في قمّة الأخلاق والشجاعة والرّجولة والقوّة لتستشعر النّاشئة عظمة أمّتها وأمجادها فتتّخذهم قدوة لها وتجعل منهم مثلا عليا تنفع البلاد والعباد، فإنّ إعلامنا يوغل في السفالة والاسفاف والابتذال والميوعة عبر الترويج لأعلام الشذوذ والفساد والمخدرات والجريمة المنظّمة بما أثّر سلبًا على سف طموحات الشباب ومثلهم العليا: فلم يعد قدوتهم العالم والمثقّف والدكتور والمربّي والصّحابي والمجاهد والحافظ لكتاب الله بل أصبحت قدوتهم الباندي والزوفري والخليقة والكوّارجي والغبّار والفنّان والرّاقصة.. فماذا ننتظر من أجيال مثلهم الأعلى علي شورّب وولد مفيدة وميسي وكافون وأقصى طموحاتهم أن يحرقوا إلى إيطاليا أو أن يكونوا نزلاء لأحد السجون والإصلاحيّات..؟؟
شحن روحاني
لإن كان مسخ المسلمين وتمييعهم واستهداف ناشئتهم وعقائدهم مشغلاً استعماريًّ مركزيًّا طوال العام، فإنّ هذه العمليّة تشهد في شهر رمضان سرعتها القصوى ويتصاعد نسقها وتتضاعف جرعاتها وذلك لما لهذا الشهر المبارك من تأثير إيجابي على نفسيّة المسلم: فممّا لا شكّ فيه أن النّفسية تبنى بناءً وتضعف وتقوى وتتغذّى بالطّاعات والقربات والأجواء الرّوحانية (صلاة ـ صيام ـ قيام ـ قرآن..) وعليها حتى تبقى على صفتها الإسلامية أتشحن بين الفينة والأخرى بما يحول بينها وبين المعاصي وينأى بها عن أن تكون فريسة لنزغات الشيطان.. لذلك ورحمةً منه جلّ وعلى فقد مكّنها الله تعالى من شحن يوميّ (الصّلوات الخمس) وشحن أسبوعي (صلاة الجمعة) وشحن شهريّ (الأيّام البيض ـ يوم عرفة ـ عاشوراء ـ ليلة النصف من شعبان ـ الليالي العشر من ذي الحجّة) وشحن سنوي (الحج ـ العمرة ـ رمضان) حتى يتمكّن المسلم من التكفير عن صغائر الذّنوب التي لا مفرّ لجنس الإنسان منها (كلّ ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوّابون) وحتى يتزوّد منها بالروحانيّات التي تقوّي نفسيّته وتمنعه من اقتراف المعاصي.. وقد لخّص المصطفى صلّى الله عليه وسلّم هذا المعنى بقوله (الصّلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفّارات لما بينهما ما لم تغشى الكبائر)..وهي مواعيد طقوسيّة تعبّدية تتظافر مع بعضها البعض وتتكامل فيما بينها لتحقيق الهدف منها، وإنّ الاكتفاء بجزء منها لا يحقّق المطلوب ومآل نفسيّة صاحبها أن تضعف وتنقاد للأهواء وتركن إلى الدّنيا بما قد يؤثّر سلبًا على الالتزام بأبسط الفرائض والقربات.. فالجمعة تشحن صاحبها بالطاقة الروحانية التي تمكّن صاحبها من المحافظة على المواعيد اليوميّة وقس على ذلك المواعيد الشهريّة والسّنويّة.. فلكلّ موعد دوره في تكفير الذنوب وتثبيت النفس على الصراط المستقيم والسير بها قدمًا صعودًا نحو مدارج الكمال دون أن تبلغها..
حمية عقائديّة
أمّا أهم موعد من هذه المواعيد المعدّة للشحن الرّوحاني العقائديّ وصقل النّفسيّة الإسلاميّة فهو بلا منازع شهر رمضان المعظّم: فهو مناسبة سنويّة متاحة للجميع ـ بخلاف الحج والعمرة مثلاً ـ وهو ممتدّ على حيّز زمني متّسع (شهر كامل) ومفتوح على شتّى أنواع الطاعات والقربات (صوم ـ صلاة ـ قيام ـ صدقة ـ قرآن..) وهو أيضًا مسنود بنفحة لدنيّة ربّانية تشرح صدر المسلم له (إذا جاء رمضان فتّحت أبواب الجنّة وغُلّت أبواب النّار وصُفّدت الشّياطين).. كما أنّه ملتصق بركن من أركان الإسلام وبفريضة شاقّة لا يتلبّس بها إلاّ من كان قلبه مطمئنًّا بالإيمان ألا وهي الصّوم، لذلك فقد تكفّل الله تعالى بالجزاء الأوفى عليها (كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصّوم فهو لي وأنا أجزي به) فرمضان المعظّم إذن هو حمية روحيّة عقائديّة ترتفع بصاحبها ـ أو تكاد ـ إلى مصافّ الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، إذ تمسح سائر ذنوبه وتنقّي نفسيّته ممّا ران عليها من أدران الحياة الدّنيا (من صام رمضان وقام ليله إيمانًا واحتسابًا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه).. فهو محطّة سنويّة مفصليّة في حياة المؤمن تزكّي نفسه وتأطره على الحقّ أطرًا وتزوّده بشحنة عقائديّة روحانية تغطّي سائر السّنة وتمكّنه من فرصة جديدة للتصالح مع الله تعالى كما تمكّن المجتمع لإسلامي من أن ينقّي نفسه وينفي عنه الخبث والخبائث.. هذا الدّور التعديلي التصحيحي العظيم الذي يضطلع به شهر رمضان في تقوية نفسية المسلم وحماية المجتمع الإسلامي وتقويته ماكان ليروق للكافر المستعمر في سعيه المحموم لاستهداف العقيدة الإسلاميّة والأمّة الإسلاميّة ـ أرضًا وبشرًا وشريعةً ومقدّرات ـ لذلك ما إن وطئت أرض العبادلة والقيروان والزيتونة حتى سعى جاهدًا لكسر ذلك لدّور وإعطائه.. ومع عجزه عن إبطال شعيرة الصّوم فقد سعى إلى شهر الصّيام يقوم بعكس الوظيفة المنوطة شرعًا بعهدته، فحوّله إلى شهر السّهرات الماجنة في باب سويقة وقاعاته الصّاخبة (اسماعيل الحطّاب ـ زينة وعزيزة ـ عيشة وماميّة ـ حبيبة مسيكة ـ صالة الفتح..) كما حوّله إلى شهر القمار والميسر وشهر الابتذال والإسفاف وشهر الإفراط في النوم والأكل والشّرب وشهر الكسل والخمول: وقد واصل أذنابه بعد مسرحيّة الاستقلال هذا الاستهداف الممنهج لرمضان المعظّم إلى أن وصلت بنا الحال إلى ما نشاهده اليوم من ميوعة وامتهان وفسق وفجور ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.