الدّيمقراطيّة: العمى والفساد وضنك العيش
تتعالى في الأيّام الأخيرة صيحات المسؤولين في كلّ منبر إعلاميّ تنذر بكارثة اقتصاديّة وأجمع الخبراء من الدّاخل والخارج أنّ تونس قادمة على كارثة اقتصاديّة سنة 2018. وكان جميع الطيف السياسي في تونس من قبل يصيح “الدّيمقراطيّة أو الكارثة” ثمّ حقّقوا ديمقراطيّتهم بل صاروا يباهون بها العالم. غير أنّ شبح الكارثة مازال يهدّد تونس، ونفس المجموعة مازالت تصيح وتصرخ منذرة بالويل والثبور.
والسّؤال: ها قد حقّقتم ديمقراطيّة “أبهرت العالم” فماذا حصل؟ لماذا لم يحلّ الرّخاء؟ لماذا يزداد الفساد ويستشري؟ من صادق على تحوير حكوميّ لا ينقصها إلا بن علي؟ من وضع تونس تحت الوصاية الاستعماريّة؟
الديمقراطية هي المولّد للأزمات:
حيثما حلّت الديمقراطية، حلّ الإهمال والاستغلال،ففي أعرق الدّول الدّيمقراطيّة تجد أغنى النّاس هم الّذين يسيطرون على السلطة السياسية، ذلك أنّ الديمقراطية لا تُعنى أبداً بتحقيق العدالة بين النّاس، بل تُركز السلطة والثروة في أيدي قلة قليلة من النّاس ليتحكّم الأقوياء النّافذين، فالدّيمقراطيّة في أمريكا– مثلا- هي من جعلالشركات الكبرى فيهاتحكّم بالقرار السّياسيّ، فلا يصل إلى الكونغرس أو مجلس الشّيوخ أو الرئاسة إلا من دعمته كبرى الشركات، وموّلت حملته الانتخابيّة ولمّعت صورته في إعلامها، ثمّ تستخدمهم فيما بعد في رسم السّياسات وإصدار القوانين التي تخدم مصالحها، كلّ ذلك يتمّ بإشراك النّاس تحت مسمّى الانتخابات الحرّة النّزيهة. هذا ولقد أدرك مفكّرو الغرب منذ ما يزيد عن نصف قرن أنّ الدّيمقراطيّة نظام سيّء وأنّه غير قادر على الحكم فالواقع الذي عاشه الغرب أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الدّيمقراطيّة فكرة خيالية، وأنّ الذي يحكم في حقيقة الأمر هم أصحاب رؤوس الأموال، والذي يشارك في وضع القوانين ليس الشعب بل بضعة أفراد يخول إليهم مسألة التشريع حتى يضعوا مقاييسَ للناس ويحددوا لهم ما يجوز وما لا يجوز، وهذا نوع من الاستعباد نقل الغربَ من عبودية رجال الدين والإقطاعيين في العصور الوسطى إلى عبودية البرلمانات في العصر الحديث.
وهذا ماديسون (واضع الدستور الأمريكي) يقول: ” يجب أن يكون لملاك الأراضي حصةٌ في الحكومة، من أجل دعم مصالحهم الّتي لا تقدر بثمن، ومن أجل تحقيق التوازن في المجتمع، فيجب حماية الأقلية من الأغلبية”.ووصف الديمقراطي (روبرت بيرد) بلاده الديمقراطية بأنّها: “إدارة الأثرياء من قبل الأثرياء وللأثرياء، … واليوم أبكي على بلدي”، أمّا في الديمقراطية الحديثة، فإنّه بدلا من أصحاب الأراضي يكون رجال الأعمال وأصحاب الأملاك والشركات والصناعيون والأسر السياسية المهيمنة على البلاد.
إنّ تركيز الثروة في أيدي النّافذين يتمّ بضمان من النّظام الدّيمقراطيّ من خلال تشريعات يضعها بضعة أنفار في البرلمان، فتتعاظم ثرواتهمباحتكارمصادر المجتمع من العائدات الضخمة فيه، وخصوصاً من أملاك الدولة والممتلكات العامة، من مثل تصنيع الأسلحة والقطاع المصرفي وقطاع الطاقة. ففي أمريكا وبريطانيا وفرنسا، مثلا نجد تركيزاً هائلاً للثروة، بحيث تتركز90٪ من الثروة في أيدي أقل من 5٪ من النّاس. وحتى خلال الأزمة الاقتصادية العالمية، فقد ازدادت ثروة النخبة الديمقراطية العالمية بنسبة تزيد عن 60٪.
ولأنّه يمكن شراء أي شيءٍ بالمال في الديمقراطية، فقد تصاعدت تكاليف الانتخابات إلى أرقام فلكيّة، ولم يعد يستطيعها أصحاب الثروات المتوسّطة فما بالك بالطبقة الوسطى أو الفقيرة. ولقد رأى الجميع في تونس المال السياسيّ القذر يُغدق على نفر قليل من السياسيين كاستثمارٍ لتوضع التشريعات لفائدتهم ولقد رأى الجميع مشروع قانون المصالحة الذي قدّمه رئيس الدّولة من أجل حماية الفاسدين ورأينا نوّاب الائتلاف الحاكم يدافعون باستماتة لكي لا يُعاقب من نهب أموال التونسيين زمن بن علي.
وبسبب الديمقراطية نرى ثروات البلاد تُنهب نهبا من الشركات الاستعماريّة، لأنّ أغلبيّة مجلس النّوّاب منذ عقود سنّ مجلّة المحروقات التي تُعطي الحقّ للشركات الخاصّة امتياز التنقيب عن الثروات الباطنيّة ثمّ تُعطيها الحقّ في استغلالها، ولم تجعل هذه التشريعات من نصيب لأهل البلد مع أنّ الثروة ثروتهم وهكذا تُرك للشركة الفرنسيّة (على سبيل المثال) نهب “الذّهب الأبيض” (الملح) تبيعه بالمليارات وتُعطي للدولة فتات الفتات (3 ملّيمات للهكتار الواحد)وتُركت شركة بتروفاك تنهب الغاز من جزيرة قرقنة بعقد فاسد ورغم تنبيه دائرة المحاسبات لفساد عقد بتروفاك (ممّا يعني ضرورة فسخ عقدها بل محاسبتها) فإنّ أغلبيّة نوّاب المجلس (المنتخبين) زائد كلّ أعضاء الحكومة وقفوا في صفّ بتروفاك ضدّ مصلحة أهل قرقنة، فمن ضمن للشركات الاستعماريّة أن تنهب ثروتنا بشكل “قانونيّ” أليست هي الدّيمقراطيّة؟
في تونس يُعاني النّاس من الفقر بل ازدادوا فقرا في السنوات الأخيرة إلا الحكّام والطّبقة السياسيّة فقد ازدادوا ثراء بل إنّ منهم من صار فاحش الثّراء، لأنّ الدّيمقراطيّة جعلتهم في موضع صناعة القرار وهذا جعل الفرصة أمامهم لخدمة مصالحهم ومصالح أسيادهم من الدّول الاستعماريّة التي كانت المصدر الأساس للمال السياسيّ القذر، فتمكّنوا من سنّ تشريعات تضمن مصالح الاستعمار فتمّ وضع ترسانة من القوانين بطلب من صندوق النّقد والبنك العالميين منها قانون رسملة البنوك العموميّة وقانون استقلاليّة البنك المركزي ووافق الجميع على التّعاون الاستخباراتي مع أمريكا وبريطانيا ممّا يُهدّد أمن البلد و……
الديمقراطية هي التي أمّنت هجمات الطائرات بدون طيار الأمريكيّة على ليبيا انطلاقا من تونس، هي التي سمحت للسفارة البريطانيّة بالسيطرة على وزارة الدّاخليّة.
هذه بعض “فضائل” الديمقراطية على الطبقة السياسيّة في البلاد مكّنتهم من جمع الثروات، في الوقت الّذي يغرق فيه أهل تونس في البؤس الاقتصادي والإذلال السياسي. هكذا كانت البداية لتونس، منذ الاستعمار الفرنسي ومع نظام “بورقيبة” و”بن علي” و”حكومات ما بعد الثورة” وهكذا سيظل الأمر، طالما بقيت الديمقراطية.
الفساد المستشري ليس فسادا في الأشخاص بل فساد أشخاص أمّنته الدّيمقراطيّة، فالنّظام الدّيمقراطي هو الذي فسح المجال واسعا لعودة أركان حكم بورقيبة وبن علي بعد أن طردتهم الثّورة، والدّيمقراطيّة هي التي أرجعت رجل بورقيبة وبن علي (الباجي قايد السبسي) وهي التي سمحت بفرض قانون المصالحة. وأمّا القول بالهدنة الاجتماعيّة وأنّه ينبغي إعطاء الديمقراطية الوقت للقيام بما يلزم، فقول فاسد مردود لأن الديمقراطيّة جُعلت بالأساس أداة بيد الأقوياء يسيطرون بها على الأغلبيّة الضعيفة بدعوى الشرعيّة الانتخابيّة ومن السذاجة انتظارخير من هذا النظام ولو بعد مائة عام.
وستعاود النخبة السياسيّة الديمقراطية الظهور لبضعة أسابيع خلال الانتخابات، مجدّدين وعودهم من أجل تأمين أصوات الناخبين للاستمرار في السلب والنهب في البلاد. وبالطبع فإنّ الدول الغربية ستؤيد بحماس وتموّل بسخاء الديمقراطية في تونس،لأنّها هي الّتي توفر للغرب الإمدادات من الخونة الفاسدين الّذين يسنّون التشريعات لمصالح استعمارية، في حين تضطهد الديمقراطية المسلمين وتبقيهم في العوز، حتى يظلوا عاجزين عن الانتفاض على النظام.
والخلاصة أنّ الدّيمقراطيّة هي سبب البلاء ومولّد الأزمات لا في بلاد المسلمين فحسب بل في العالم، ولقد سبق أن وصفها كبار القادة والفلاسفة بأنّها نظام سيّء ولكنّهم أعلنوا أنّه لا بديل عندهم عن الدّيمقراطيّة. فما بالنا نحن اليوم وقد اكتوينا بنار الدّيمقراطيّة عشرات السنين وما زلنا نرى شرورها وبلبلتها لحياتنا السياسيّة؟ إن كان قادة الغرب كفّارا لا يعرفون الإسلام أو هم يُعادونه فإنّنا مسلمون وأحكام الإسلام بيننا أرسل بها الله محمّدا صلّى الله عليه وسلّم رحمة بنا وبالعالمين فقال: ” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)” [الأنبياء]ولقد فرض الله علينا الاحتكام للإسلام دون غيره محرّما علينا اتّباع أهوائنا تحريما قاطعا فقال تعالى: ” وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ….الآية” (48 المائدة)
ثمّ إنّ الله سبحانه وتعالى بيّن لنا في كتابه العزيز سبب الأزمات وضنك العيش حيث قال: ” وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ “