“الربيع العربي” دروس وعبر
بقلم: بلال المهاجر
لقد كانت ثورات الربيع العربي مفاجئة لجميع المراقبين في العالم، فلم يكن أحد منهم يتوقع أن الشعوب التي رزحت تحت الظلم والقمع والجبروت لعقود، أن تثور وتنفض عن نفسها غبار الذل والخنوع، وتقف في وجه الطواغيت الذين ساموها سوء العذاب، فقد كان ظن أولئك الطواغيت من حكام العرب والكافر المستعمر الذين نصبوهم على رقاب هذه الأمة، كان ظنهم أن هذه الأمة لن تقوم لها قائمة، بعد هدم خلافتهم الجامعة لهم، وبعد تفتيت بلادهم شذر مذر، وبعد تنصيب جلاوزة على رؤوسهم يعدّون عليهم الأنفاس ويحرمونهم من تعلّم الإسلام والمطالبة بتطبيقه كنظام حياة في ظل دولة سياسية.
نعم لقد فاجأت هذه الثورات الجميع، وتأكد لدى الجميع صدق قول رسول الله ﷺ حيث قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» أخرجه مسلم والبخاري. فالأمة وإن انتكست أو تراجعت عن مكانتها الريادية والاستقلالية في العالم، فإنها سرعان ما ستقوم وتنهض من جديد، وفي التاريخ أمثلة كثيرة تدلل على ذلك، حيث احتل البلادَ الإسلامية وعلى رأسها الأرض المباركة فلسطين الصليبيون زهاء مئة عام، أي أطول من احتلال يهود لها في الزمن الحالي، ومع ذلك نهضت الأمة من جديد وثارت على الصليبيين وحررت نفسها وبلادها من براثنهم.
إن الإسلام والعقيدة الإسلامية في كيان الأمة هو الذي يمنعها من الموت والفناء أو الذوبان في حضارات أخرى، فأيديولوجية الإسلام وطبيعته التي تتفوق على مختلف الأيديولوجيات التي ابتدعها الإنسان تحول دون ذوبان حضارته في حضارات هي أقل شأناً منها، فعلى الرغم من ترويج الكافر المستعمر لحضارته الغربية التي تقوم على الحريات والشذوذ الفكري، وفرضها على الأمة قسرًا من خلال الأنظمة العميلة له ومؤسساتها التعليمية والإعلامية والثقافية، على الرغم من ذلك، إلا أن الأمة لم ترتد عن دينها، بل كان دينها هو المحرك للشعوب الإسلامية ومنها العربية لتثور على أنظمتها العلمانية المناهضة لعقيدتها، لذلك كان الإسلام هو الصبغة المميزة لتلك الثورات وليست القومية أو الوطنية… أو غيرها من النعرات الغرائزية، وقد تجلى ذلك واضحًا في الثورة السورية التي كان شعارها: “هي لله، هي لله”، وحتى عندما حاولت بعض القوى المندسّة اختطاف الثورات في اليمن وتونس وليبيا ومصر، نأت الشعوب بنفسها عن هؤلاء المندسين من ذوي الوجهين الذين قدموا أنفسهم قادة لتلك الثورات، بل وجددت ثورتها على المختطفين لها، فلم يهنأ العملاء الجدد في الحكم في هذه البلدان، وسبب ذلك عدم تطبيق الإسلام العظيم الذي ينصف تلك الشعوب بعد ظلم العملاء السابقين، على الرغم من رفعهم شعار الديمقراطية وفتحهم لأبواب “الحريات” كما ادّعوا، إلى درجة منحهم تراخيص للأحزاب التي تعمل لاجتثاث الأنظمة من جذورها وإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة على أنقاضها، ولم تكن تسعى يومًا للترخيص، من مثل ترخيص حزب التحرير في تونس، والسماح له بفتح مكتب له في مصر، وعدم التعرض له في اليمن.
نعم، لقد كان الإسلام هو المحرك لهذه الثورات، وغاية الشهادة في سبيل النهوض هو عنوان النضال الذي قامت به الشعوب العربية المسلمة، وما لم يتم إيصال الإسلام إلى سدة الحكم فإن هذه الشعوب لن تهدأ ولن يهنأ لها بال، فالإسلام هو النظام العادل الوحيد الذي ينصف الناس ويعطي كل ذي حق حقه، فإذا لم تُحكم هذه الشعوب بما ارتضاه الله سبحانه وتعالى لها فإنها لن تنتصف ولن تتحصل حقوقها التي ثارت من أجلها وطالما تم سلبها منها على مر العقود الماضية. لذلك يجب على من يريد أن يقود هذه الأمة أن تكون قيادته إسلامية وصافية ونقية، وما لم تكن كذلك فإنه لن يكون قادرًا على قيادتها القيادة الحقيقية، وحتى وإن ادّعى تبنّيه للمنهج الإسلامي، فإنه سرعان ما تنكشف حقيقته للأمة وتنفضه عنها ويسقط كما سقط الطغاة.
من العبر التي ظهرت جلية في الثورات العربية هي أن الإسلام حسم مسألة صراع الحضارات لصالحه، فقد كانت عقيدته العقيدة الوحيدة القادرة على هزيمة النظرية الديالكتيكية الشيوعية، حيث فشل المعسكر الشيوعي في نشر فكرته بين الأمة وجعلها سائدة عليه، فقد كانت فكرة التوحيد الفكرة الوحيدة التي استطاعت هزيمة الإلحاد الشيوعي، في الوقت الذي كان فيه الغرب يحشد الأحلاف العسكرية والاقتصادية ضد الحلف السوفيتي لعجزه عن مواجهة فكرها بفكره، فكان الإسلام هو الوحيد الذي هزم الفكر الشيوعي شر هزيمة، وتجلى ذلك في ظهور الإسلام صافيا في الجمهوريات السوفيتية المنحلة في وسط آسيا ووادي فرغانة، حين أعلن عن وفاة الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتي وتوقف الجندي وصرامة القانون الشيوعي من البطش بالناس، وهذا الذي دفع بحكام تلك الجمهوريات من مخلفات الشيوعية إلى العودة لأسلوب القمع نفسه، حيث عجزوا كما عجزوا من قبل على مواجهة الفكر الإسلامي بالفكر الشيوعي أو بالفكر الرأسمالي الذي تبنّوه لاحقًا.
بعد تربع العلمانية الرأسمالية ومنها الديمقراطية على العالم خلال أوائل تسعينات القرن الماضي، فإنه على الرغم من تفردها وتفرد العالم الغربي في الموقف الدولي، إلا أنها لم تتمكن من الانتصار على الإسلام والمسلمين من الناحية الحضارية، فلم تكن مطالب الثورات العربية الديمقراطيةَ أو الحريات أو الإباحية أو السوق الحرة أو أيًّا من الأفكار الغربية التي لطالما رُوّج لها، وحتى مطالبة البعض بالديمقراطية والحريات كانت لأنهم يظنون أنها لا تتعارض مع الإسلام، بل وفي كثير من الأحيان كانوا يطالبون بها باعتبار أنها من الإسلام. لذلك فقد كانت ثورات الربيع العربي إعلانًا صريحًا عن رفض الأنظمة العميلة للغرب والنظام العلماني الذي يحكم به، وقد أقر بهذه الهزيمة مفكرو الغرب وسياسيوهم على حد سواء، ومن هؤلاء المفكرين صاحب كتاب صراع الحضارات (صموئيل هنتجتون)، أما السياسيون الغربيون ومعهم حكام العرب والمسلمين والمضبوعون من أبناء الأمة، فقد لجأوا إلى سياسة القمع والقتل والتنكيل بهذه الأمة، إضافة إلى تبنّيهم سياسة التضليل والكذب، بعد ابتداعهم لتهمة جديدة سمّوها “الإرهاب” وإلصاقها بالأمة الإسلامية، في إقرار صريح بهزيمتهم أمام الفكر الإسلامي، فلو كان عندهم فكر أقوى منه لدحضوه به، وهو ما لم يحصل. ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾.
من الدروس المستفادة من ثورات الربيع العربي هو أن الشعوب الإسلامية رقم صعب لا يمكن تجاوزه، فبعد أن كان العملاء من الحكام يتداولون على السلطة ويقررون مصير شعوبهم، تارة عميل إنجليزي وتارة أمريكي وآخر فرنسي، جاءت ثورات الربيع العربي لتؤكد على وجود لاعب آخر في الموقف الإقليمي والمحلي، ألا وهو الناس، وأي ناس؟! إنهم المسلمون من أبناء الأمة في هذه الشعوب، فبعد أن ظنّ الغرب أنه قام بما فيه الكفاية من تضليل الشعوب الإسلامية وتغريبها وتجهيلها من خلال الأنظمة التابعة له، انفجرت تلك الشعوب في وجهه معلنة فشل تلك الإجراءات اليائسة، وعليه فقد رُدّت للأمة عافيتها، وعادت الثقة في نفوس أبنائها المقهورين، وولّت حقبة النظر إلى الغربي على أنه الملهم والعبقري، وجاء زمن الشعوب الإسلامية التي تعتدّ بدينها وبعقيدتها وتضحي من أجل عودته في ظل خلافة راشدة رائدة على منهاج النبوة، وأصبح انعتاق الأمة من ربقة الاستعمار مسألة وقت لا أكثر، ولكن يجب على الأمة الإسلامية ومنها العرب أن يغذوا السير نحو الإطاحة بهذه الأنظمة وأن يكون الإسلام النقي الصافي هو مطلبهم وأن يتخذوا من المخلصين من أبنائهم قادة لهم، من الذين خبروهم وعلموا عنهم الصدق والإخلاص، وممن توفرت فيهم صفات رجل الدولة المسلم الذي يعتقد بالإسلام ويتبنّى مشروع تطبيقه كاملًا غير منقوص، وهم بكل جدارة حزب التحرير وشبابه ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.