لم يعد يخفى على عاقل، اتساع الهوة بين الحاكم والمحكوم في تونس كما الحال في عدة مناطق من بلاد العالم الإسلامي، ولا تزايد حجم التدخل الغربي المباشر في صغير الأمر وكبيره، إلى درجة مخجلة مخزية، صار فيها حضور السفراء الأجانب في المواكب الرسمية وغير الرسمية يفوق أضعاف أضعاف الحضور الحكومي، بداية من الانتخابات الرئاسية والتشريعية والبلدية عقب صياغة الدستور وانتهاء بالإشراف بشكل مباشر على عقود نهب الثروات.
ربما كان العهر السياسي فضيحة والإرتباط بالأجنبي جريمة زمن صناعة النضال المزعوم، ألا وقد سقط الجميع في نفس المستنقع الذي أنتجه “المجتمع الدولي” بزعامة أمريكا، فقد صار الإرتماء في أحضان الكافر المستعمر وخطب وده والتمسح المذل على أعتابه أمرا مألوفا لدى النخبة السياسية الرسمية خاصة في مرحلة ما بعد الثورات، وكأن الإشتراك في جريمة البغاء السياسي مكفر للذنوب وساتر للعيوب، مع أن الجميع يجاهر بجريمة الخضوع للغرب وإملاءاته المباشرة، تحت عنوان “توصيات”، وأيّة توصيات…
ليس المشكل عند الفئة الحاكمة في بلدنا، عقلية الانهزام والخنوع والخضوع، فهي أساس لكل عمل سياسي يرضي المسؤولين الكبار في الغرب، ويبقي الحكم بأيدي من باع البلاد والعباد، ولا في غياب الرؤى والحلول الجذرية الكفيلة بتحرير الأمة من التبعية على أساس عقيدتها ودينها، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في وجود من يرفض فكرة الدخول إلى حضيرة “النفاق الرسمي”.
النفاق الرسمي لمن لا يعلم، له نظام رسمي، ودستور رسمي، وإعلام رسمي، ونخب رسمية، وأجهزة رسمية، ومجتمع رسمي يسمى بالمجتمع المدني، وهذا كله يشكل حضيرة رسمية تصنع على عين الحاكم الرسمي من أرباب النظام الرأسمالي العالمي ومنتجي النفاق الدولي العابر للقارات، أما من يرفض الدخول إلى حضيرة “النفاق الرسمي” ويتمرد على منتجات أمريكا وأوروبا الديمقراطية جدااا، فلا بد أن تلحقه أقسى العقوبات وإن كان شعبا بأكمله، وهو ما تلخصه حقيقة تجربة الشعب السوري في ثورته ضد نظام بشار المسنود دوليا، عملا بقاعدة: نحكمكم أو نقتلكم.
ليس لأحد أن يتهم القائمين على حضيرة “النفاق الرسمي” بالديكتاتورية وسلب إرادة الناس، فهم من يجودون على شعوبهم بجرعات قوية من الحقوق والحريات تجاوزت حد الفجور والشذوذ، ويستعينون بكفاءات في تطويع الشرع وأحكامه لغاياتهم الدنيئة، فقط من أجل الحفاظ على النسب الديمقراطي العريق، عراقة النذالة والعمالة.
هؤلاء جميعا ومن ورائهم قادة الحملة الصليبية المعاصرة ممن صاروا يراهنون على قاذورات المجتمع بدل مفكريه، يدركون يقينا أن أكبر خطر يهدد مصالحهم هو الإسلام إذا صارت له دولة وشوكة، وأن الفصيل السياسي الوحيد الذي يدعو قولا وفعلا إلى بناء هذه الدولة هو حزب التحرير، ولذلك هم يعمدون إلى التضييق عليه وعزله عن الناس عبر كل أجهزة “النفاق الرسمي”.
هكذا إذن، تظن قوى الاستعمار الدولي أنها قادرة على تقويض مشروع الأمة في بناء دولتها واستئناف حياتها الإسلامية بعد أن فشلت فشلا ذريعا في احتواء حزب التحرير أو حرفه عن مساره. بل هكذا نجد السلطة في تونس وهي ظل الاستعمار في بلادنا، تنافس مثيلاتها في دول أخرى فتحرص كل الحرص على منع حزب التحرير من ممارسة نشاطه وإيصال أفكاره إلى الناس، بعد أن عجزت نهائيا عن جره إلى الوسط السياسي “الرسمي” وجعله جزء من اللعبة السياسية القذرة عبر آلية الترخيص القانوني، تلك الآلية التي فعّلتها الحكومة التونسية يوما ما انتصارا للديمقراطية الغربية، ثم ها هي اليوم تعطي الحجة الدامغة على فساد وزيف هذه المنظومة، حيث بلغ مستوى تعامل السلطة مع حزب التحرير إلى حد التناقض الصارخ، لتصنع بغبائها استثناء حقيقيا ومحيرا، يطرح على الناس ألف سؤال، إذ كيف يمنع أكثر الأحزاب نشاطا في البلاد من القيام بأعماله الجماهيرية في الوقت الذي حصل فيه على ترخيص إن لم تكن تلك هي حقيقة التناقض الديمقراطي؟
قد يكون لحضيرة “النفاق الرسمي” مشتقات وملحقات جديدة تتغنى بالوفاق وتمارس النفاق، وتحدث اللجان والتنسيقيات فقط من أجل صرف أنظار الناس عن المشروع الحضاري للأمة، فتعلن الدفاع عن الإيمان والكفر، وعن القرآن والدستور في آن واحد، ولكن هذا كله لم يعد ينطلي على من أدرك أن الحلال بين وأن الحرام بين.
خلاصة القول، أن السلطة بشقيها في تونس، تسير بخطى حثيثة من حيث لا تدري نحو تثبيت وعي عام لدى هذا الشعب الطيب، أن حزب التحرير هو الجدير بالقيادة نحو إحداث التغيير المنشود، وما محطات منع الحزب وعزله عن الناس وإدخاله في دوامة الإجراءات القانونية والترتيبات الإداريات والقضايا الملفقة ضمن مسلسل من الإرهاب الفكري والترهيب الأمني، سوى حجج عملية للرأي العام أن هذه الديمقراطية العرجاء، تقبل كل أنواع الكفر والشذوذ استنادا إلى دستور 2014 الذي أقر حرية الضمير، ولكن ضمير السلطة يأبى الإستماع إلى دعوة الخلافة الراشدة التي وعدنا بها رب العالمين وسارع لإقامتها حزب التحرير.
غباء السلطة إذن، يشكل وعي الشعب الرافض لمنتجات “النفاق الرسمي”، وغيّها سيجعلها تسارع على الأرجح في دفع الشعب نحو اختيار من يقلب الطاولة على رؤوس من نصّب مشايخ الوفاق والنفاق، وعسى أن يكون ذلك قريبا غير بعيد بإذن الله.