حتى يتسنى لهم تثبيت النظام الرأسمالي والتمكن من بسط نفوذهم على العالم بشعوبه وثرواته وكل ما فيه, قال شياطين الرأسمالية أن السياسة هي المكر والكذب والخداع. ورضوا بأن يصفوها بالدنس حتى لا يشتغل بها غيرهم وينفر منها الناس, وتحديدا في بلاد المسلمين, وتكون حكرا عليهم وعلى أشياعهم من بني جلدتنا. وقبل ذلك طبيعة نظام الرأسمالي تفرض عليهم هذا التحريف لمفهوم السياسة. حيث يقوم هذا النظام أساسا على النفعية دون سواها.
وتحقيق المنافع والوصول إلى المآرب الدنيئة لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الكذب والخداع. والنفاق وعبر كل طريق غير سوي.. وهذا كما أسلفنا ما عمل مشعوذو النظام الديمقراطي الوضعي في بلادنا على اتباعه شبرا بشبر إلى هذا دون أن يغفلوا عن اضافة ما يتماشى مع خصوصياتهم وطبيعة المهمة التي جيء بهم من أجلها. فالعبث والصبيانيات, والتدافع الشرس من أجل خدمة أجندات المسؤولين الكبار على اختلاف جنسياتهم أهم ما أضافه المشتغلون في السياسة في بلادنا سواء كانوا حكاما أو أحزابا أو منظمات.
وما يحصل اليوم من تطاحن تحت ادارة رئيس الدولة، بين حركة “نداء تونس” ممثلة في شق “حافظ السبسي، مدعومة باتحاد الشغل وبعض الأحزاب وبين رئيس الحكومة “يوسف الشاهد” الذي تدعمه حركة “النهضة” وغيرها… مثال حي على أن من ابتليت بهم تونس ما بعد الثورة برعوا في الجمع بين ما حفظوه عن ظهر قلب وتدربوا عليه جيدا في مصانع الغرب وغرفه المظلمة. وبين ما يملكونه من قدرات تجرف السياسة بعيدا عن مفهومها الصحيح ألا وهو رعاية شؤون الناس.
والجميع يعلم أن “يوسف الشاهد” كان لوقت قريب يُعَدُّ أحد فرسان “حركة نداء تونس” ومن كبار قادتها و”مناضليها”, قبل ان ينقلب عليه أتباع ابن الرئيس ويطالبون بتنحيته من الحكم مهما كان الثمن. وحصل هذا الانقلاب المفاجئ على “الشاهد” ومرده الكذبة الكبرى التي أطلقها وسماها الحرب على الفساد, وحتى لا تبدو حربه كما وصفناها (كاذبةة) كان من طالته مكنسة الشاهد بعضَ رؤوس الفساد ينتمون لحركة “النداء” وهنا وقعت الواقعة. وثارت ثائرة رئيس المكتب التنفيذي ل “النداء ” حافظ السبسي” وأقسم أغلظ الأيمان بأن لا ينام له جفن ولا يهدأ له بال حتى يسقط ” الشاهد” وحكومته.
وفي هذا الصدد يعتبر كثيرون أن ” الشاهد” بحربه المزعومة على الفساد يستهدف خصومه في الحركة ورجال الأعمال الداعمين لهم. هذا وبحربه المعلنة على الفساد يكون قد أصاب عدة عصافير بحصى واحدة. فهو بحركته غطى على فشله وجوقته في إخراج البلاد من اوضاعها المزرية بل زادها ترديا في الحضيض. وصرف الأنظار عن المهمة التي من أجلها تم تعيينه, وهي مزيد رهن البلاد واستكمال ما بدأه الذين سبقوه. ك”مهدي جمعة” وغيره من أنصار النظام العالمي الجديد وخدم القوى الاستعمارية.. كما أنه نجح في تلميع صورة النظام الديمقراطي – وهذا هو الأهم بالنسبة لمن راهن عليه من المسؤولين الكبار- فمن لا يبارك محاربة الفساد والضرب على أيادي الفاسدين ؟
فيكون بذلك كل من يطالب بتنحية “الشاهد” يظهر وكأنه مع الفساد وضد محاسبة الفاسدين.. والحال أن “الشاهد” ومن يعارضه هم رعاة للفساد وأهله, بل هم أصله وفصله وحسبهم أنهم من حراس أوكار النظام الديمقراطي, يتقدمهم كبيرهم صاحب الهيبة ” الباجي قائد السبسي” الذي يفوقهم خبرة وحنكة في ممارسة السياسة بالمفهوم الذي حدده أباطرة النظام الرأسمالي وعتاته. حيث كان رئيس تونس بالوكالة سباقا في ممارسة طقوس الدجل السياسي رفقة شريكه رئيس حركة “النهضة” عراب النفاق تحت مسمى التوافق.. الذي مرروا تحت جناح ظلمته كل الأجندات التي وضعها أعداء تونس. وتمكنا من الحصول على بعض من الفتات المسموح لهما بالتقاطه, ليحصدا نتيجة ما اقترفت أيديهما شهادات الثناء والاطراء, والاشادة بحنكتهما وبراعتهما السياسية.
أما ما وصلت اليه البلاد فذلك أمر لا يعني الساسة لأنه غير مدرج في المناهج التي لقنها لهم الغرب. وحتى لا نظلمهم فهم لا يلتفتون للجياع والفقراء والمرضى والمسحوقين, إلا عند حلول موسم الانتخابات. عندها فقط تتجند الطاقات وترصد الأموال وتوضع الاستراتيجيات ويحشد الخبراء والكفاءات, خاصة من يملكون القدرة على ادارة شؤون اربع دول..
نعم في موسم الانتخابات يصبح هناك رجال دولة بأتم ما في الكلمة من معنى. وتصبح رعاية شؤون الناس أولى الأولويات ..وهمومهم قضية كل سياسي يطمح للحكم لا من أجل الحكم بل من أجل التفاني في خدمتهم والسهر على رعايتهم, وقد يصل الأمر أحيانا إلى ذرف أنهار من الدموع, تأثرا لحال امرأة واحدة لم تأكل اللحم لمدة ثلاثة أشهر. لكن كل هذا لا يتخطى حدود يوم الصمت الانتخابي. ويتلاشى تماما بمجرد اعلان نتائج الانتخابات. ولتنتهي فترة ممارسة الكذب والدجل, وتبدأ فترة ممارسة اللهو والعبث. وقبل الفترتين وبعدهما هناك ممارسة لا تتوقف أبدا وهي المسارعة في العمالة والتنافس على خدمة دول المسوؤلين الكبار, وتلك هي السياسة في دولة الحداثة.