نفّذ المتقاعدون الأسبوع المنقضي وقفات احتجاجية سلمية أمام بعض مقرات الاتحادات الجهوية للشغل للمطالبة بمستحقاتهم, معتبرين أنّ الحكومة لم تلتزم بما تمّ الاتفاق عليه بشأن صرف مستحقاتهم, وهي زيادات 2015 و2016 و2017، وأنّهم يطالبون بمفاوضات حول الأجر الأدنى الفلاحي, والأجر الأدنى الصناعي، وتوفير الأدوية للمتقاعدين في مراكز الصحة الأساسية، والتوقف عن الاقتطاع من جرايات المتقاعدين المنتمين للفئة الضعيفة الذين تتراوح جراياتهم بين 90 دينار و120 دينار خاصة مع غلاء المعيشة وكثرة المتطلبات العائلية, التي منها الإنفاق على أبنائهم وبناتهم الذين هم في مرحلة الدراسة وشهر رمضان الذي على الأبواب، كما ندّدوا خلالها بالتأخير في صرف جراياتهم الشهرية.
واستنكر المتقاعدون الذين قالوا أنّهم ضحّوا من أجل خدمة البلاد وقدّموا الكثير وفق تعبيرهم أنّ يقع الاقتطاع من جراياتهم.
في الحقيقة إنّ المالية العمومية هي الآن في أسوء أوضاعها بعد أن أصبحت الدولة عاجزة عن دفع جرايات ورواتب المتقاعدين، وهذا يؤشّر إلى أمر آخر أكثر أهمية، وهو أنّ الحكومة وضعت نفسها في مأزق, وأدرك الجميع من خلال تعاطيها مع هذا الموضوع أنّها لا تستطيع أن تدير الأزمات ولا تعرف كيف تتصرّف عند الضرورة.
فالمسّ من الجرايات والمعاشات لهو جريمة في حقّ هذه الفئة من الناس، الذين يصرّحون أمام وسائل الإعلام بأنّهم أفنوا أعمارهم وجُهدهم وعرقهم ودماءهم في خدمة البلاد، هم الآن تثقلهم هموم الأمراض وغلاء الأسعار، وكذلك المسؤوليات العائلية التي يتحملونها باعتبارهم يتكفلون في أغلبهم بعائلات تنخرها البطالة، وأبناء كبار في السن لم يتحصلوا على وظائف.
إضافة إلى ذلك فان أغلبهم يعاني من أمراض مزمنة نتيجة إرهاق سنوات العمل المضنية، وبالتالي يحتاجون إلى كل مليم للتداوي والفحوصات وأنواع من المسكنات والأدوية التي لم تعد متوفّرة إلا بأسعار خيالية، وهو ما يجعلهم في حاجة إلى كل مليم من رواتبهم التي في أغلبها لا تعدو أن تكون مبلغا لا يفي بنصف حاجيات المتقاعد وعائلته.
وبعد كل هذه العذابات تأتي الحكومة لتحاول المسّ من هذا الراتب الهزيل، بعد أن تخلت عن مسؤولياتها وأنابت عنها صندوق النقد الدولي للقيام بوظيفة الرعاية بدلا عنها، فكانت السياسات العشوائية هي التي أحالت الصناديق الاجتماعية على الإفلاس، ونتيجة لكلّ هذا لم تعد قادرة على الإيفاء بمرتباتهم.
إنّ رواتب المتقاعدين ومعاشاتهم خطّ أحمر، ولا تفكر أي حكومة في العالم أن تمسّ من لقمة عيشهم في هذه السنّ المتقدّمة، وبعد كل ذاك العناء الذي أفنوا فيه أعمارهم. إلّا في تونس, بلد المسلوبة.. فمن العجب العجاب أن يصرّح مسؤول حكومي أنّ الصناديق قد عجزت وأنّه يمكن للحكومة أن تراجع مسألة أجور المتقاعدين, ليس هذا فقط، بل سبق لأحد الوزراء أن عللّ مسألة إفلاس الصناديق الاجتماعية بأن المتقاعدين قد أصبحوا يتمتعون بمعدّل حياة طويل أكثر من اللازم، وكأنّ السيد الوزير يريد أن يتخلص منهم أو هم أثقلوا كاهله، وفي الآن نفسه تظهر الحكومة – وهي مصرّة على التنفيذ الحرفي لإملاءات الجهات الدولية المقرضة – في مظهر من يعتدي على عرق ومستحقات آبائنا وأجدادنا، بعد أن امتصّت قوتهم وجهدهم وشبابهم.
إنّ على الحكومة وهي ترفع شعار التقشّف والضغط على المصاريف أن تبادر مثلا بالتصرّف في آلاف المليارات من رواتب الوزراء وكبار المسؤولين والرؤساء المتقاعدين والمباشرين، بدلا من المسّ بجرايات موظفين متقاعدين لا حول لهم ولا قوة إلاّ راتب تقاعدي زهيد يستلمونه كل آخر شهر من أجل أن يذهب مباشرة من يومه الأول في سداد نفقات لا تنتهي، وأعباء لا أول لها ولا آخر، ولكن أنّى لها ذلك، فوصفة صندوق النقد الدولي لا تتضمّن مثل هاته المعالجات، وهذه خطوط حمراء لا يمكن بأي وجه من الوجوه تجاوزها, فهي سجينة اتفاقات إستعمارية ملزمة تتعهد فيها بصرف الآلاف من المليارات على أكثر من تسعين ألف سيارة إدارية ووظيفية، ووصولات بنزينها وصيانتها وسائقيها وتأمينها ومصاريفها، وما إلى ذلك من رعاية لأسطول ضخم من سيارات المسؤولين، يتجاوز في ضخامته حتى الأسطول الرسمي الياباني والألماني مجتمعين.
هذا هو منوال الإصلاحات الإقتصادية الكبرى التي بشّر بها رئيس الحكومة يوسف الشاهد ، فبعد التفريط الطوعي للثروات الطبيعية والسعيه الحثيث للتفويت في المؤسسات العمومية, لم تجد الحكومة حلاّ للتمويل إلاّ بوضع يدها على حقوق المتقاعدين ومعاشاتهم، وبعد هذا فأنا لم أجد غير قلّة الحياء وصفا توصف به هذه الحكومة بعد العجز والفشل الملازمين لطاقمها، ورأسها الشاهد على ذلك, الذي قال له الجميع إذا لم تستح فأصنع ما شئت.