السّلطان محمد الفاتح: نعم الأمير ونعم الجيش…

السّلطان محمد الفاتح: نعم الأمير ونعم الجيش…

أبو ذرّ التونسيّ (بسّام فرحات)

إن في سيرة البطل محمد الفاتح من مواقف العظة والاعتبار ما يُحيِي النّفوس ويستنهض الهمم ويشحذ العزائم ويُنعش الأمل في استئناف الحياة الإسلاميّة: فقد تحقّقت على يديه الشّريفتين البشارة النبويّة الكريمة (لتُفتحنّ القسطنطينيّة فلنعم الأميرُ أميرها ولنعم الجيشُ ذلك الجيش)، وهذا مؤشّر على تحقّق أختها البشارة النبويّة الثانية المقترنة بها والمتعلقة بفتح رومية بما يقتضيه ذلك من قيام دولة إسلاميّة قويّة ومبايعة خليفة مجاهد يُقاتَل من ورائه ويُتّقى به..فقد وُلد محمد الثاني الملقَب بالفاتح بأدرنة في 26 رجب 833هـ /20 أفريل 1429م، واهتمّ والده السلطان مراد الثاني بتنشئته وتربيته جسميّا وعقليّا وعقائديّا: فعلّمه الرماية والمقارعة وركوب الخيل، وكان يصطحبه معه إلى المعارك منذ صغره ليعتاد مشاهد الحرب والطّعان وليتعلّم فنون القيادة والقتال عمليّا ميدانيّا، وقد ورث عن أبيه الجَلَد والشجاعة وقوّة الشّكيمة والصّبر على المكاره وعدم اليأس وأخذ عنه الحكمة والفراسة والحنكة في وضع الخطط العسكريّة وقيادة العمليات الحربيّة.. كما اهتمّ في شبابه بسِيَر العظماء والأبطال وأُعجب بشخصيّة الإسكندر المقدوني وسيف الله خالد ابن الوليد بما ساهم في نحت شخصيّته العسكرية الفذّة.. وقد عُنِيَ مراد الثاني بتثقيف ابنه وتعليمه وخصّه بخيرة الشيوخ والفقهاء والمعلّمين في عصره، فختم القرآن الكريم وتشرّب العقيدة الإسلاميّة ودرس التاريخ الإسلامي المجيد وحذِق سبع لغات وأتقن عدّة فنون وأخذ بطرف من شتّى العلوم كالرياضيّات والفلك والجغرافيا ،وكان إلى كل ذلك عفيفا بسيطا مقتصدا في الترف والملذّات، فلم يتخطّ عتبات الشباب حتى امتزجت فيه أحسن سجايا الشرق الإسلامي بأفضل خصال الفتوّة التركية مسفرة عن شخصية قياديّة جهاديّة فذّة واسعة الدّهاء شديدة الذكاء قوية الشّكيمة صلبة الإرادة سريعة البديهة تتّقد غيرة على الإسلام..

السيّد العظيم

إنه باختصار من القلائل الذين شابهت سيرتهم السلف الصالح من أبطال الفتح والجهاد، فقد رسّخ أبوه وشيوخه في ذهنه منذ صغره أنّه هو صاحب البشارة وفاتح (مدينة هرقل) فأوقف حياته على تحقيق بشرى رسول الله وختمها مجاهدا غازيا في سبيل نشر الإسلام فقد مات وهو في طريقه لفتح روميّة.. حكم نيّفا وثلاثين عاما تُعَدّ من أهم الفترات في تاريخ العلاقات بين الشرق الإسلاميّ والغرب النصرانيّ: إذ اعتُبِر محورا للسياسة الدوليّة في القرن 15م فشملت علاقاته السياسيّة والحربيّة أوروبا وآسيا وإفريقيا بحيث أن دويّ المدافع العثمانيّة في عهده كان يُسمع على الفرات والدانوب وشواطئ ألبانيا وإيطاليا في آن واحد ،حتى دانت له آسيا الصغرى واليونان والبلقان والقرم وأضحى البحر الأسود بحيرة إسلاميّة، وقد أطلق عليه الأوروبيّون لقب (السيّد العظيم) وكان مجرّد سماع اسمه يثير في قلوبهم الرّعب والهلع، فكانوا يختمون رسائلهم إليه بقولهم (خادمكم المطيع) ناهيك وأن البابويّة أقامت الاحتفالات ودقّت الأجراس في كامل أرجاء أوروبا ابتهاجا بموته.. هذه عيّنة من شباب المسلمين وشهادة حيّة لما يمكن أن تصنع العقيدة الإسلاميّة من الشباب: لم يعش طفولته ولم يمرّ بسنّ المراهقة ولم يدرس التربية الجنسيّة حتّى (يعرف جسده) ولكنّه رضع الإسلام الصّافي من ثدي (لبؤة تركيّة) وتغذّى على أحكامه وشرائعه النقيّة فغيّر وجه التّاريخ وهو ابن 23 سنة..

الحصن المنيع

إن أعظم مآثر محمّد الثاني العثمانيّ التي خلعت عليه لقب الفاتح ونال بها البشارة النبويّة الكريمة هي بلا شك فتحه لكنيسة الشرق وقلعة الأرتدوكسيّة وعاصمة الإمبراطورية البيزنطيّة القسطنطينيّة: فتلك المدينة المستحيلة لطالما استعصت على الفاتحين قبله، فقد حوصرت 29 مرّة منذ تأسيسها قبل ألف عام دون أن تسقط..لكن السلطان العثمانيّ الشّاب جعل هذا المستحيل ممكنا وبقي يغالب حصونها المنيعة وحُماتها الأشِدّاء 51 يوما إلى أن سقطت تحت قدميه: فهي قلعة محصّنة طبيعيّا مقامة على برزخ وشبه جزيرة مثلّثة الشكل تفتح على بحر مرمرة ومضيق البوسفور،وهي بذلك محميّة بالبحر ولا تملك إلا واجهة بريّة واحدة حُصِّنت بخط دفاعيّ وثلاثة أسوار متتالية مُدعّمة بأبراج عالية تفصل بينها متاريس وخنادق واسعة وسحيقة، أمّا ميناؤها فقد أُغلق بسلسلة حديديّة ضخمة تمتدّ على الضفّتين الأوروبيّة والآسيويّة.. وللمسلمين قصّة طويلة مع هذه المدينة: فقد تحدّتهم واستعصت عليهم ولم تفتح إلاّ بعد ثمانية قرون من البشارة، وبين البشارة والفتح مرضت الأمّة واعتلّت وأشفت على الفناء (صليبيّون ـ مغول وتتار..) ولكنّها أصرّت على الصحوة وتحقيق وعد الله.. وكذلك هي اليوم مؤهّلة ـ رغم أنّها لا تملك ما تحت قدميها ـ للانعتاق من ربقة الاستعمار وتحقيق باقي البشارات النبويّة وعلى رأسها هزيمة يهود واستعادة القدس وإقامة الخلافة الرّاشدة الثّانية على منهاج النبوّة..

إصرار وترصّد

وكان أول من حاصرها من المسلمين يزيد ابن معاوية في عهد أبيه سنة 654م ثم تلاه سليمان ابن عبد الملك سنة 717م، وبالرغم مما أعدّه المسلمون من الجند والعتاد برا وبحرا وما أظهروه من العزم والتصميم والبسالة فقد ردّتهم القسطنطينيّة على أعقابهم بأسوارها المنيعة ونارها الإغريقيّة الفتّاكة حتى أنّ الصحابيّ الجليل أبا أيوب الأنصاريّ أوصى أن يدفن تحت أسوارها.. وبعد أن توسّع العثمانيّون في شرق أوروبا أصبح فتحها ضرورة سياسيّة وعسكريّة مُلِحّة، فحاصرها السلطان بايزيد الأول والسلطان مراد الثاني دون نتيجة إلى أن قصدها صاحب البشارة محمد الثاني: ففي الخامس من أفريل 1453م حاصر الجيش العثمانيّ أسوار القسطنطينيّة برا وبحرا مهلّلا مكبّرا رافعا شعار (لبّيك أبا أيوب) يقوده البطل الشاب محمد الفاتح محاطا بأسود الانكشاريّة.. وفي المقابل تحصّن الإمبراطور البيزنطيّ قسطنطين بأسوار مدينته المنيعة وحشد قرابة 50 ألف مقاتل من كامل أوروبا للدفاع عنها حميّة للنصرانيّة يعاضدهم أسطول من السفن القويّة والبحّارة المتمرّسين، وقد رجّح كفّة العثمانيّين ـ إلى جانب البعد الروحانيّ العقائديّ وحنكة الفاتح وشخصيّته الفذّة ـ ثلاثة عوامل أساسيّة..

المدفعيّة العثمانيّة

لقد شهد حصار العثمانيّين للقسطنطينيّة تأسيس أوّل فرقة عسكريّة مدفعيّة في تاريخ الجيوش والحروب: فقد عرض المهندس المجري (أوربان) على السّلطان محمد الفاتح أن يصنع له مدافع تدكّ أسوار المدينة، وقد استشرف السلطان الشاب ببعد نظره أهميّة هذا المعطى فاهتبل الفرصة الذهبيّة واستجاب للمقترح وأغدق على صاحبه الأموال وذلّل له العقبات لإتمام اختراعه ووضع تحت تصرّفه كلّ ما طلبه من آلات وفنيّين وموادّ، فشرع في صنع المدافع بإشراف السّلطان نفسه.. وبعد ثلاثة أشهر أتمّ صنع عدد من المدافع بينها مدفع ضخم عملاق يزن 700 طن وتزن قذيفته ستّة أطنان يحتاج جرّه إلى 100 ثور ومثلهم من الرّجال الأشدّاء واستغرق نقله من أدرنة إلى القسطنطينيّة شهرين ،وعندما جُرِّب المدفع السلطانيّ لأول مرة سُمِع دويّه على بعد 13 ميلا وسقطت قذيفته على بعد ميل محدثة حفرة قطرها خمسة أمتار وعمقها ستة أقدام.. وقد كان لبطاريّات المدفعية هذا السلاح الجديد الدور الحاسم في تحييد البحريّة البيزنطيّة وتهديم أسوار القسطنطينيّة.. والملاحظ أنّ المهندس المجري ورغم أنّه مسيحيّ إلاّ أنّه آثر عرض اختراعه على الدولة الإسلاميّة لأنّها دولة مبدئيّة وقويّة، فهي قطب جذّاب للكفاءات بصفتها الأقدر على تثمينها واستثمارها ومكافأتها وتقدير اختراعاتها ،وكذلك ستكون دولة الخلافة الثّانية حال قيامها بإذن الله ناهيك وأنّ الغربيّين قد تركّزت فيهم النفعيّة والمصلحيّة والمكيافليّة..

نقل الأسطول برًّا

لمّا استعصت المدينة المحاطة بثلاثة أسوار وميناؤها المغلق بسلسلة حديديّة أخذ محمد الفاتح يبحث عن طريقة لإدخال أسطوله للقرن الذهبيّ نفسه من أجل السّيطرة على ذلك الميناء الهامّ وحصار القسطنطينيّة من أضعف جوانبها وتحييد الدّفاع عن السّور وبعثرة القوّات البيزنطيّة.. وقد حاول الأسطول العثمانيّ عدّة مرّات تحطيم السّلسلة الضّخمة التي تسدّ الميناء دون جدوى ،إلى أن لاحت للسّلطان فكرة جريئة لم يسبقه إليها أحد تتمثّل في نقل السّفن العثمانيّة إلى القرن الذهبيّ برّا بعد أن استحال تقدّمها بحرا، وقد كانت المسافة تقدّر بثلاثة أميال ولم تكن أرضا منبسطة سهلة بل كانت وهادا وتلالا غير ممهّدة..وسرعان ما مُهِّدت الأرض وسُوِّيت وأُتِي بألواح من الخشب دُهِنت بالزّيت والشّحم وُضعت على الطريق لتسهيل انزلاق السّفن وجرّها.. ونجح العثمانيّون في الليلة الفاصلة بين 21 و22/04/1453 في نقل 70 سفينة من البوسفور إلى القرن الذهبيّ تمخر عباب الحقول في منظر مثير للدّهشة ،واستيقظ سكّان القسطنطينيّة صباح 22 أفريل على تكبيرات البحّارة العثمانيّين المدوّية في القرن الذهبيّ فدُهِشوا وأُسقِط في أيديهم وكان هذا ثاني المسامير في نعش المدينة..

الحرب النفسيّة

مع الضّغط العسكريّ المتواصل برّا وبحرا والقصف المدفعيّ الذي استمرّ خمسين يوما بلياليها والهجوم تلو الهجوم على الأسوار والسّفن، تَوَلّد ضغط نفسيّ هائل لدى سكّان المدينة المحاصرة والمقطوعة عن الخارج فعمّ الفزع والتشاؤم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر.. وممّا كان يؤجِّج هذا الضّغط النفسيّ ويعمّقه دويّ الطّبول العثمانيّة العظيم وصيحات التّكبير والشّعارات التي تنطلق من حناجر الجيش العثمانيّ فتنزل على البيزنطيّين كالصّواعق المدمّرة ترجّهم وتشتّت انتباههم.. كما أنّ الهرسلة المتواصلة للمدفعيّة تعمّق هذه الحرب النفسيّة: فقد كانت مدافع الأتراك الضّخمة تُحدث دويّا تنخلع له القلوب خاصّة في ساعات اللّيل بما يؤدّي إلى إنهاك قوى المحاصَرين ومنعهم من الرّاحة وهدوء البال فأصبحت نفوسهم مُرهقة مكدودة وأعصابهم تعبة مجهودة..

أمّا أهمّ أساليب حرب الأعصاب وأفدحها أثرا على نفسيّة المحاصَرين فكانت ثلاثة: أوّلا حفر الأنفاق لدخول المدينة من تحت الأرض.. ثانيا القلعة الخشبيّة العملاقة التي صنعها المسلمون في أقلّ من أربع ساعات للصّعود على الأسوار.. وثالثا المدفع الجديد الذي يرمي بقذائفه إلى أعلى لتسقط في قلب المدينة.. وهكذا أصبح أهل القسطنطينيّة في همّ دائم وقلق مستمرّ يتطلّعون ذات اليمين وذات الشّمال وإلى فوقهم وأسفل منهم لا يدرون من أين يدهمهم الخطر والهلاك حتى تحطّمت أعصابهم وأصبحوا لقمة سائغة..

الفتح المبين

 وبعد سبعة أسابيع من الحصار والقصف المدفعيّ على مدار السّاعة تهدّمت أجزاء كثيرة من الأسوار والأبراج وتحطّمت معها عزائم المدافعين وامتلأت الخنادق بالأنقاض وأصبح اقتحام المدينة مُمَهَّدا أمام السلطان محمد الفاتح، فأمر جنوده بالإكثار من الصّلاة والصّيام والذّكر والدّعاء، وفي الساعة الواحدة من صباح الثلاثاء 29/05/1453 انطلق الهجوم العثمانيّ العامّ وتقدّمت فرق الإنكشاريّة كالأسود الضارية مهلّلين مكبّرين، فتهاوت الدّفاعات تحت أقدامهم المزلزِلة وسقطت المدينة الحصينة التي استعصت ألفيّة ونصفا على الغزاة، وحققّ محمّد الفاتح للمسلمين أملا غاليا ظلّ يراودهم ثمانية قرون وفاز بالبشارة، ودخل بموكبه المظفَّر من الشّارع المؤدّي إلى كنيسة آيا صوفيا وترجّل أمام الباب في موكب مهيب وانحنى ووضع حفنة من التّراب على رأسه تواضعا لله وشُكرًا له.. بعد ذلك أمر بنزع الصلبان والتماثيل من الكنيسة وتجصيص الصور التي تغطّي جدرانها وأسقفها وحوّلها إلى مسجد وصلّى فيها صلاة الجمعة يوم 01 جوان 1453م.. وقد بعث إليه بابا روما مستنكرا مهدّدا متوعّدا فردّ عليه الفاتح بقوله (لقد شرّفت آيا صوفيا بأن حوّلتها إلى مسجد، أمّا إن مكّنني الله تعالى فسأحوّل مكانك الذي تقف فيه إلى مربط لخيولي) وهو منطق يرشح عزّة وكرامة وسؤددا ويقطع مع حال الهوان والدّونيّة الحضاريّة والتبعيّة السياسيّة مصداقا لقوله تعالى (ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ولكنّ المنافقين لا يعلمون)..

CATEGORIES
TAGS
Share This