الشباب والهويّة في تونس بين مطرقة المسخ والتمييع وسندان التغريب والإنبتات  

حدّث أبو ذرّ التونسي قال: ممّا لاشك فيه أن الشباب مرحلة عمريّة تتميّز بالحيويّة والطّاقة والخصوبة، فهي دماء حارّة تُضخّ في شرايين الأمّة وسواعد قويّة للبذل والعطاء بدونها تصاب الأمّة بالتّهرم والاحتضار،كما أنها شريحة مفصلية في تركيبة المجتمع البشري لأنها حاملة لجينات الأمة ناقلة لمورّثاتها الحضاريّة والثقافيّة مكرّسة لأصالتها وهويّتها…من هذا المنطلق فإنّ استهداف تلك الشّريحة الحسّاسة – إن في ذاتها أو في مقوّماتها – يعني عمليّا استهداف الأمّة في هويّتها ووجودها ومستقبلها…وإنّه لا يخفى على أحد أنّ هذه الشريحة المحوريّة تمرّ هذه الأيّام ـ سواء في تونس أو في العالم الإسلامي – بأزمة هويّة حادّة : فهي مستهدفة في ذاتها وانتمائها بشكل مشطّ تعاني من الإنبتات والاستلاب الثقافي والدونية الحضارية وتشكو من التهميش والتّفسخ والميوعة والاغتراب تحت ستارة التّطور والحداثة و”العصرنة” والإنفتاح…وهي مسمّيات خادعة آسرة ركبها الكافر المستعمر لمسخ هويّة البلاد والعباد وبترها عن فضائها الحضاري وانتزاعها من انتمائها العقائدي…والمفارقة أن هذا الانتحار الحضاري والموت البطيء يحصل بقفّازات محلّية في شكل استعمار ذاتي نمارسه بأيدينا نيابة عن الاستعمار ضدّ فلذات أكبادنا عبر وسائل إعلامنا وفي مؤسّساتنا التربويّة…فكيف السّبيل إلى مصالحة شباب الأمة مع هويّته وبناء شخصيّته بما يتلائم مع عقيدته الإسلاميّة…؟؟

في الهويّة الإسلاميّة

لقد عُرّفت الهويّة بأنّها (الخصوصيّة والذّاتيّة والتّفرد والتّميّز) وهو تعريف يقصي العوامل العرقية والجغرافيّة واللّغوية لأنّها معطيات تولد معنا ولا نملك عنها فكاكًا, بينما الهويّة يجب أن تكون اختياريّة إراديّة لا قسريّة جبريّة على شاكلة شعب الله المختار…أمّا مقوّمات الهويّة وقواعدها الأساسيّة فهي فكريّة معنويّة بالأساس وتتلخّص في العقيدة والمبدأ والحضارة والثّقافة لأنّها وحدها تميّز وتجمع وتمنع، ومع كونها ثابتة فهي إراديّة يمكن أن تكتسب وتُعتنق…من هذا المنطلق فإنّ هويّة تونس والتّونسيّين قد تحدّدت سلفًا وبشكل نهائي منذ أن وطئتها سنابك خيل العبادلة السبعة في 27ه/648م ، وبفتح الأندلس في 92ه/711م خضعت إفريقيّة من المتوسّط إلى الأطلسي لسلطان الإسلام وتشكّلت هويّتها الإسلاميّة عقيدة وثقافةً وحضارة، فالإسلام طراز خاصّ من العيش ووجهة نظر متفرّدة مستندة أساسًا على العقيدة الإسلاميّة ومناقضة للحضارة الغربّية من حيث الأساس ومقياس الأعمال ومفهوم السّعادة: فالحضارة الإسلاميّة قائمة على أساس روحي هو العقيدة الإسلاميّة بينما الحضارة الغربيّة قائمة على أساس مادّي يتمثّل في فصل الدّين عن الحياة…والحضارة الإسلاميّة تتّخذ من الحلال والحرام مقياسًا لها وتصوّر الحياة على أنّها مزج المادّة بالرّوح، بينما الحضارة الغربيّة تجعل من النّفعيّة وحدها مقياسًا لجميع الأعمال…والحضارة الإسلاميّة تحدّد مفهومها للسّعادة بنيل رضوان الله تعالى، بينما تجد الحضارة الغربيّة سعادتها في الحصول على أكبر قدر من المتع الجسديّة…وباعتناقنا للعقيدة الإسلاميّة وتكييف سلوكنا ومشاعرنا بحسبها وعيشنا وفق طرازها الخاصّ نكون قد اكتسبنا الهويّة الإسلاميّة، وهي الهويّة الأصليّة التي من المفترض أن يكون عليها التونسيّون بمختلف شرائحهم…فهل تجسّدت في شبابنا اليوم شكلاُ ومضمونُا وممارسة…؟؟ هل عقدت قلوبهم على العقيدة الإسلاميّة وصدّقوا بها  تصديقًا جازمًا أم توارثوها وأخذوها بالظّن..؟؟ هل أضحت الأحكام الشرعية مفاهيم أم بقيت مجرّد معلومات..؟؟ هل يحكّمون في معاملاتهم الحلال والحرام أم المنفعة والرّبح المادّي..؟؟ هل يجدون سعادتهم في نوال رضوان الله أم في الإغراق في المتع والملذّات..؟؟ هل تركّزت فيهم الثقافة الإسلاميّة وألمّوا بالمعارف المنبثقة عن عقيدتهم أم أنّ أدمغتهم قد حشيت بقشور الغرب الزّائفة..؟؟ هل أنّ مثلهم العليا في الحياة مستقاة من التاريخ الإسلامي الزّاخر بالأبطال والأمجاد أم من تاريخ الغرب وحاضره المليء بنجوم الإثارة والغناء وكرة القدم..؟؟ هل هم في نهاية الأمر شخصيّات إسلاميّة راسخة في هويّتها أم شخصيّات غربية منبتّة أم شخصيّات ممسوخة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة…؟؟

في الشخصيّة الإسلامية

إن الشخصيّة في كلّ إنسان تتألّف من مكوّنين، العقليّة والنّفسيّة: فأما العقليّة فهي الكيفية التي يجري عليها عقل الأشياء أي فهمها وإدراكها وإصدار الحكم عليها، فإذا كان عقله للأشياء بناءً على العقيدة الإسلاميّة كانت عقليّته إسلاميّة…وأمّا النّفسيّة فهي الكيفية التي يجري عليها إشباع الغرائز والحاجات العضويّة من حيث المشاعر والميولات، فإذا تمّت عمليّة الإشباع بناءًا على العقيدة الإسلامية كانت النّفسيّة إسلاميّة…و إذا كانت القاعدة الفكريّة لكلّ من العقليّة والنّفسية واحدة متجانسة عند الإنسان كانت شخصيّته متميّزة منضبطة، فإذا انضبطت عقليّته ونفسيّته بالإسلام كانت شخصيّة إسلاميّة: فبمجرّد جعل الإنسان العقيدة الإسلاميّة مقياسًا لمفاهيمه وميوله أي أن يفكّر على أساس الإسلام ويجعل هواه تبعًا للإسلام يكون شخصيّة إسلاميّة بغض النظر عن كونه مثقّفًا أو أميُّا مكتفيًا بالفرائض أم مستغرقًا في الطّاعات، وبصرف النظر عن وجود بعض الثغرات في أسلوبه…بهذه الشخصيّة تنعكس الهويّة الإسلاميّة وتتجسّد في المسلم قلبًا وقالبًا: فهل أن شبابنا اليوم شخصيّات إسلاميّة عقلية ونفسية..؟؟ هل أن إدراكهم للأشياء وحكمهم عليها يجري وفق العقيدة الإسلاميّة..؟؟ هل أنّ إشباعهم لغرائزهم وحاجاتهم العضويّة يجري على أساس العقيدة الإسلاميّة..؟؟ من المؤسف فعلاً أن نعترف بأن شبابنا اليوم أبعد ما يكونون عن الشخصيّات الإسلاميّة، وهذا ليس تكفيرًا لهم: فرغم اعتناقهم للعقيدة الإسلاميّة إلاّ أنّهم لم يجعلوها أساسًا لتفكيرهم ويولهم، والذنب ليس ذنبهم، فهم ضحايا سياسة تربويّة وإعلاميّة مغرضة مدروسة ومقصودة مملاة من الكافر المستعمر ومطبّقة قسرًا من طرف أذنابه…إنّهم مسلمون إداريًّا بمضمون الولادة وجغرافيًّا بالتموقع على الخريطة، رأس مالهم (السميغ) الإسلامي أي العقيدة المتوارثة آليًّا…إنّهم في أفضل الحالات شخصيّات متباينة غي مميّزة بلون خاصّ متناقضة في تركيبتها مصابة بشبه انفصام: فأفكارها غير ميولاتها ومشاعرها منفصلة عن إدراكها…إنّهم خليط لا متجانس و(كوكتال) من العقليّات والنّفسيّات المفتقدة إلى قاعدة فكريّة موحّدة موحّدة يجري بحسبها إدراك الأشياء وإشباع الجوعات…إنّهم كائنات هلاميّة ممسوخة تجري في عروقها مياه صالحة للشراب بحيث يتعذّر تصنيفهم بشكل دقيق، فلا هم انبتّوا عن الإسلام صراحةً ولا وثّقوا عراهم بعقيدتهم وثقافتهم وحضارتهم، ولكن الأكيد أنّهم ليسوا شخصيّات إسلاميّة…

تشخيص العلّة

إنّ حالة الانفصام في الشخصيّة التي يعاني منها شبابنا اليوم أسبابها متعدّدة متداخلة متضافرة وتتمحور أساسًا حول الأسرة والسّلطة والإعلام والشارع والمؤسّسة التعليميّة: فالأسرة استقالت عن وظيفتها التربويّة بحكم نسق العصر وظروف الشغل…والسلطة تنتهج سياسة ثقافية تغريبيّة انبتاتيّة استئصاليّة محاربة للهويّة الإسلاميّة…ووسائل الإعلام متناغمة مع خطّ السلطة التّغريبي تبثّ السموم وتفتّت رواسب الحياء لإفساد عقول وسلوكيّات الشباب…والشاّرع إفراز طبيعي لما يعتمل في المجتمع ويحاك في الكواليس…أمّا معول الهدم الرّئيسي والأداة المنفّذة الفتّاكة فهي المؤسّسات التربويّة التي أضحت فعلاً تقوم بعكس وظيفتها المفترضة شكلاً ومضمونًا وأسلوبًا: فقد تحوّلت إلى بؤر فساد ومسخ وتغريب وتفسّخ أخلاقي وتسميم فكري، كما أضحت الجامعات منابر سافرة لمحاربة الهويّة الإسلاميّة وأبواق دعاية لتكريس التبعيّة الثقافيّة والسّياسية للغرب…وهذا ليس من قبيل الصّدفة، فالفعل التربوي ليس اعتباطيًّا بل مدروس ومبرمج وخاضع لبيداغوجيا الأهداف يروم تحقيق مواصفات دقيقة محدّدة سلفًا: فطينة التّلاميذ التي تصادفنا هذه الأيام ليست حدثًا شاذًّا معزولاً ولا مؤشّرًا على القصور والإخفاق في الفعل التربوي بقدر ما هي ثمرة عمل مدروس موجّه خاضع لضوابط صارمة نجحت المؤسّسة التربويّة في تحقيقه في مفارقة عجيبة وخطيرة: فالأصل في هذه المؤسّسة أن تضمن تواصل التلاميذ مع هويّتهم وموروثهم الثقافي والحضاري وأن تركّز فيهم الشخصيّة الإسلاميّة وتزوّدهم بسائر العلوم والمعارف، ولكنّ الحاصل هو العكس تمامًا: نيابة الكافر المستعمر في إنجاز مهامّه التغريبيّة الاستئصاليّة تجاه ناشئة المسلمين…هذا التشخيص للدّاء يفترض منّا مجموعة من التّساؤلات: كيف يمكن أن نعيد المؤسّسة التربويّة إلى حضن الإسلام وأن نصالح بينها وبين الهويّة الإسلاميّة..؟؟ كيف نجعلها مكرّسة للشخصيّات الإسلاميّة مواكبة للعلوم والصّناعات والتقنيات الحديثة..؟؟ هذه المعادلة الصّعبة يقتضي تحقيقها هيكلة كلّية للمؤسّسة التربويّة ترسي منظومة تعليم إسلاميّة وذلك بالتركيز على أربع نقاط: أوّلاً وضع سياسة تعليميّة أي قاعدة فكريّة تُعطى على أساسها المعلومات…ثانيًا: تحديد غاية شرعيّة واضحة من التعليم…ثالثًا: إرساء طرق ومناهج تدريس كفيلة بتحقيق تلك الغاية…رابعًا: توفير ظروف تلقّي مساعدة على إنجاح الفعل التّربوي…

منظومة التعليم الإسلاميّة

إنّ الأساس الذي يجب أن يقوم عليه منهج التعليم هو العقيدة الإسلاميّة فتوضع الموادّ المدرّسة وطرق التدريس على الوجه الذي يلزمها بذلك الأساس: فإنّ كل معرفة تتلقّاها ناشئة المسلمين لابدّ أن يكون أساسها العقيدة الإسلاميّة إمّا انبثاقًا أو انبناءً ولا يجوز أخذ ما يناقضها إلاّ على سبيل المعرفة والإطّلاع فلا يتقرّر في المنهج بشكل يؤدّي إلى الاعتقاد فيه…أمّا فيما يتعلّق بالغاية من التعليم فيجب أن تنصبّ على تكوين الشخصيّة الإسلاميّة عقليّة ونفسيّة وتزويدها بسائر العلوم والمعارف وذلك بالتركيز على الثقافة الإسلاميّة والمعارف الشّرعية لجعل المتلقّي يفهم ويعقل ويحكم وفق وجهة نظر الإسلام في الحياة، ثمّ بالتركيز على العبادات والقربات والطّاعات لشحذ الميولات الإسلاميّة وجعلها تتحكّم في الإشاعات…وحتّى تكون الشّخصية الإسلاميّة متوازنة لا بأس من تطعيمها بسائر المعارف  التي تمكّن المسلم من عمارة الأرض…فيما يتعلّق بطريقة التدريس تعمّدت المؤسّسات الحاليّة تدريس الإسلام بشكل يفضي إلى تشويهه وتحريفه وعدم الاعتقاد فيه: فقد استُهدف بالإهمال والمغالطة والتبسيط والتسطيح والتهميش من حيث الساعات والضّوارب والآفاق…وصارت دراسة الإسلام وسيلة للتّكسب وشأنًا نظريًّا نخبويًّا بعيدًا عن الوقائع الجارية ومجرّد مسائل روحيّة أخلاقيّة لا أحكاما تعالج مشاكل النّاس…أمّا الطّريقة الشرعية في تدريس الإسلام فيجب أن تقوم على التّلقي الفكري والتّعمق في البحث والاعتقاد في ما ندرس وأخذه بشكل عمليّ تطبيقي، وهذه الكيفية ساهمت في إيجاد الثقافة الإسلاميّة بشكل مؤثّر في النّفوس، وفي خلق أجواء إيمانيّة في لدى الدّارس تجعل منه طاقة جبّارة وتصله بالله في جميع تصرّفاته…أمّا فيما يتعلّق بظروف إنجاز العمليّة التربويّة فإنّ دور المؤسّسة التعليميّة يكمن في استثارة التعلّم والمتعلّم معًا، أي توفير وضعيّة ملائمة للتلقّي العلمي ولحركيّة ثقافيّة ثريّة وناجحة، وهذا لا يتحقّق إلاّ في إطار الضوابط الشّرعية من قبيل الفصل بين الجنسين والالتزام باللّباس الشرعي والانضباط في السّلوك والأخلاق وإشاعة أجواء الإحترام والتّوقير للعلم والعلماء حتّى تتمكّن المؤسّسة التربوية من أداء رسالتها النّبيلة وتصبح منارة ثقافيّة حضاريّة تكرّس الشخصيّات الإسلاميّة وتصالح الشّباب مع هويّته وأمّته وخالقه…إلاّ أنّ الإطار الوطني الكسيح التّابع يضيق عن هذا المطمح الجليل الذي لا يمكن عمليًّا أن يتحقّق إلاّ في إطار دولة إسلاميّة خلافة راشدة على منهاج النّبوّة…فهل نحن فاعلون؟

بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This