اعلن رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم 25 جويلية 2021 عن اتخاذ تدابير استثنائية عملا باحكام الفصل 80 من الدستور التونسي لسنة 2014 وقدم تفسيرين لهذه التدابير احدها تفسير سياسي والأخر قانوني, فالتفسير السياسي يقول بان هناك من استغل نفوذه في السلطة التشريعية وظروف جائحة كورونا لينهب اموال الشعب التونسي وهو ما اعتبره خطرا جاثما وليس فقط داهما حسب نص الدستور ولذلك فمن واجبه كرئيس ان يتخذ هذه التدابير الاستثنائية ومن أهمها تجميد عمل البرلمان باعتبار ان الدستور لا يسمح بحله, كما قدم تفسيرا قانونيا لهذه التدابير, حيث قال أن البرلمان صاحب السلطة التشريعية لا يمكن ان تكون سلطته مشروعة الا اذا كانت احكامه شرعية فالبرلمان فقد مشروعيته عندما خالف مقتضيات الشرعية.. ورد عليه بعض فقهاء القانون الدستوري بأنه -الرئيس- خرج على أحكام الدستور وخروجه يعتبر انقلابا على الشرعية (أي فصول الدستور) باعتبار ان الدستور يقضي بان يبقى البرلمان في حالة انعقاد دائم وكذلك عمل الحكومة.
ولأن مفهوم الشرعية والمشروعية له علاقة مباشرة بقضية المسلمين المعاصرة وهي حقهم في دولة تمثل قناعاتهم وقيمهم الحضارية وأحكام دينهم, فكان لا بد من تسليط الضوء على هذين المصطلحين لتحديد حقيقة الإشكال الحالي في بلاد المسلمين وتسليط الضوء على الحل المطروح على طاولة النقاش ما يقرب عن القرن من الزمن وهو مازال يمثل أرضا خصبة لم ترتوي بعد من النقاش الجاد والهادف.
الشرعية والمشروعية إشكالية المصطلح والتعريف
ان كلمتي شرعية ومشروعية تم وضعهما عند فقهاء القانون الوضعي العرب لتقابل كلمتي “Légitimité” و”Légalité”.
– “Légitimité” الشرعي هو ما يتوافق مع العدالة كمعيار قانوني.
– “Légalité” المشروع هو ما يتوافق مع القانون الوضعي.
بالرغم وان الموروث التشريعي الإسلامي لدى المسلمين حدد معنى هذين المصطلحين بأن الشرعي هو حكم مصدره الوحي أي الكتاب والسنة بينما المشروع هو سلوك متوافق مع الشرع أي الحكم الشرعي ويشمل أفعال الحاكم والمحكوم.
ولكن زاوية تناول الموضوع عند فقهاء القانون الوضعي تختلف عن الزاوية التي تناول بها فقهاء الإسلام هذا الموضوع وذلك راجع الى الاختلاف الحاصل عند الفريقين في النظر إلى موضوع التشريع.
إشكالية المصطلح والتعريف تاريخيا:
فالفلاسفة استعملوا هذين المصطلحين اثناء الثورة للإطاحة بحكم الكنيسة وذلك أن الشرعي أو الشرعية هو ما يتوافق مع العدالة، فكانت الكنيسة تحتكر التشريع تحت عنوان “الحق الإلهي” وهو ما يسمى في فلسفة القرون الوسطى “القانون الطبيعي”، والذين بدورهم اقتبسوه من الفلسفة اليونانية والحضارة الرومانية، ذلك القانون الطبيعي الذي يعبر عنه القساوسة والرهبان المسيحيين باعتبارهم يعبرون عن الإرادة الالاهية كحق الهي وتشريعهم هو القانون الطبيعي (أي أن حق التشريع يستمدونه من الله) ولذلك يجب أن يخضع الملوك والشعب لسلطان الكنيسة بينما يرى فلاسفة الثورة الأروبية ان القانون الطبيعي هو قانون يستطيع كل إنسان أن يدركه, وليس من حق الكنيسة احتكار حق التشريع تحت عنوان الحق الهي بل إن أي انسان له عقل سليم يستطيع ادراك هذا القانون الطبيعي ولذلك يجب التحرر من سلطة الكنيسة وتمكين الشعب من ممارسة إرادته (الإرادة العامة) وكانت النتيجة أن نجحت هذه الثورات في افتكاك السلطة من الكنيسة وأرجعت السلطة التشريعية إلى عقل الانسان بما اضفى قدسية على العقل البشري بعد ان كانت القدسية ترجع الى أشخاص معينين (القساوسة والرهبان) نصبوا أنفسهم أصحاب الحق الالهي في التشريع.
اشكالية المصطلح والتعريف عند فقهاء الغرب:
اذا هذه الفكرة تتناول العلاقة بين الحاكم والمحكوم متى تكون شرعية أي متى تكون السلطة التي يمارسها الحاكم شرعية ومتى تكون مشروعة فالزاوية التي ينظر بها فقهاء الغرب لهذا الموضوع هو ان الحاكم يستمد شرعيته متى كانت القوانين عادلة أي متوافقة مع القانون الطبيعي وهو قانون غير مكتوب ولذلك فللشعب الحكم على القانون انه عادل او غير عادل لان القانون الطبيعي تتفق عليه جميع البشرية وإذا خرج هذا الحاكم عن القوانين المنظمة للدولة والمنضبطة بقواعد القانون الطبيعي (الغير مكتوب)، فقد مشروعيته أي لم يعد يستحق الطاعة والخضوع.
وهذا البحث في القانون الطبيعي عند الفقهاء الغربيين يرجع الى البحث عن قواعد تضمن عدالة التشريع وعدم تناقضه فيما بينه واستمراريته في الزمان أي انه لا يمكن لقانون ان يصدر بتحسين سلوك ثم يأتي قانون بعده فيقبح ذلك السلوك وذلك لأنه يمكن أن تتدخل نزعات الانسان الحيوانية فيجعل من سلطة التشريع سلطة يستبد بها على الشعب. فالربط بين الشرعية والمشروعية وبين القانون الطبيعي الهدف منها وضع ضمانات لعدم استبداد الحاكم وعدم تعديه على الحقوق والحريات المكتسبة للأفراد في المجتمع.
والحقيقة أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك الحسن والقبح في الأشياء ولذلك تأتي أحكامه متناقضة أثناء الحكم على الأشياء بالحسن والقبح والتشريع تحسين وتقبيح وجزاء يترتب على هذين الأمرين فأنى للإنسان أن يشرع أي أن يحسن ويقبح الأفعال فهو يحتاج إلى جهة تعين الحسن والقبح والجزاء على الأفعال البشرية.
التعريف والمصطلح في الإسلام:
فالاسلام جاء ليعالج إشكالية الإنسان وعدم قدرته على إدراك ماهية الحسن والقبح والجزاء على الأفعال, فكانت رسالة الإسلام هدفها توضيح السلوك الحسن والقبيح والجزاء والعقاب على هذه الافعال في الدنيا ثم الآخرة, وضمان استمرارية هذه الأحكام باعتبارها تخضع إلى نصوص لا تتغير بتغير الزمان والمكان فكانت الضمانة في الاسلام هي النصوص التشريعية المكتوبة التي تبين علاقة الإنسان بالإنسان ومنها الإنسان الحاكم, وعلاقة الإنسان بنفسه وعلاقة الإنسان بالأشياء وعلاقة الإنسان بالخالق.
اذا فزاوية النظر إلى موضوع الشرعية والمشروعية تختلف في الإسلام عنها في القانون الوضعي, فالإسلام يرى أن الضمانة لعدالة الحاكم هي النصوص التشريعية الثابتة المكتوبة التي نص عليها الوحي, بينما يرى فقهاء الغرب ان الضمانة لعدالة الحاكم هي القانون الطبيعي الثابت وغير المكتوب والتي يقدرها العقل البشري.
إشكالية التعريف والاصطلاح عند الفقهاء العرب:
للأسف نقولها وبكل مرارة أن أغلب فقهاء العرب المعاصرين يفكرون وفق أسس القانون الوضعي والقواعد التي قررها فقهاء ذلك القانون ولا يفكرون فيه إطلاقا, فهمهم الوحيد هو استنساخ تجارب الغرب ومحاولة محاكاة طريقتهم في التفكير التشريعي دون التفكير الى حد الآن في هذه الأسس ومدى علاقتها بحضارتنا الإسلامية مع ان هذه الحضارة خلفت إرثا تشريعيا عظيما يستحق عناء التفكير ومشقة الوصول للمعرفة, بينما ترى بعض المضبوعين منهم يُشَرِّحونَ نظام الإسلام تشريحا وينتقدونه نقدا متجنيا, مجانبين الصواب في أغب الأحيان ولا تصدع الحناجر بالرد المجزأ أو النقد اللازم لهذه الاراء المجانبة للصواب من فقهاء العرب المنغمسين في وحل التفكير القانوني الغربي ولا ينبسون ببنت كلمة عن القانون الوضعي ابن نظرية الالتزام.
فقد جعل الفقهاء العرب مصدر تفكيرهم فقهاء الغرب وتبنوا تعريف الشرعية والمشروعية من زاوية هؤلاء الفقهاء بالرغم من ان إشكالية القانون الطبيعي وعلاقتها بالشرعية والمشروعية لم تكن مطروحة لا تاريخا ولا حضارة عند المسلمين بل كان الاشكالية عند المسلمين بالنظر الى الشرعية والمشروعية هي في مدى التزام الحاكم بهذين المدلولين باعتبار وان الضمانة لقياس اعمال الحاكم مكتوبة في النصوص التشريعية ويسهل قياس أعمال الحاكم على ضوئها, فكان الاولى بهم تفعيل ضمانة عدم جور الحاكم باخضاع سلوكه للنصوص التشريعية المكتوبة والثابتة ومحاولة استثمار هذه الطاقة الفقهية في الاسلام حتى تكون نقطة قوة وإثراء وازدهار الفقه في العصر الحديث.
ولكن تراهم اذا رجعوا الى احكام الاسلام يقولون بقول المستشرق “قولد تسيهر” بأن “الاحكام تتغير بتغيير الزمان والمكان” بحسب فهمه هو لهذه القاعدة والتي تجعل من أحكام الاسلام متغيرة غير ثابتة وهو ما يفقدها قوتها وحجيتها وكونها ضمانة لعدم جور الحاكم باعتبارها تقيد سلوكه, وهو ما يبحث عنه اساتذتهم في الغرب.
والحال أن أصل استنباط هذه القاعدة كان بغاية فهم الواقع المنطبقة عليه الأحكام، فهما صحيحا، باعتبار انه لدينا احكاما ثابتة تستوجب فهم الواقع المنطبق عليها وليس تغيير الأحكام التشريعية حتى تتماشى وتتماهى مع الواقع حسب ما أراده “جولد تسيهر” ومن سار خلف فهمه من هؤلاء الفقهاء. ولذلك فقد فقد الإسلام فرصة كان يمكن ان تكون بمثابة الضربة القاضية لسيادة التشريع الغربي في بلادنا كما فعل الفلاسفة بفكرة القانون الطبيعي واسقطوا سلطة الكنيسة في القرون الوسطى.
إشكالية المصطلح والتعريف عند نقاش قرار 25 جويلية 2021
ان الناظر لقرار 25 جويلية 2021 والجدل القانوني الذي دار بين الجهة المؤيدة لقرار الرئيس قيس سعيد وبين الجهة التي انتقدت هذا القرار سواء من رجال القانون او من السياسيين كانت على اسس القانون الوضعي وزاويته في التفكير. ولان مفهوم القانون الطبيعي ليس له اساس في المجتمع ولا يمكن البناء عليه لدى الجمهور عند مناقشة قرار رئيس الجمهورية، فكانت الغلبة لمن يملك القوة أي قوة الجيش والسلاح، فاستقر الوضع على ما هو عليه وظلت كل جهة على رأيها بسبب ان ذلك الوهم الذي يقولون عنه “قانونا طبيعيا” عاجز عن حسم هذه المسألة، بل القوة هي التي حسمته، وحتى الأصوات التي تعالت من الغرب تدرك جيدا أن جدل الشرعية والمشروعية جدل عقيم لن يفضي الى نتائج بالرغم من إصرارها على استعمال الشرعية الدستورية, والحال أن الرئيس وضعهم في مأزق عندما برر تدابيره الاستثنائية بأنها تدابير تكتسي شرعية دستورية مصدرها دستور 2014 والفصل 80 منه، فكان أن جادلهم بالتي كانت هي الداءُ..
في الختام:
فالحل كان يجب ان يتوجه إلى أصل مشكل وليس إلى فرعه، وهو الخروج من شرعية الغرب ومشروعيته إلى شرعية الإسلام ومشروعيته، فالإسلام يقدم الحل لضمانة حقيقية لعدم جور الحاكم المتمثلة في النصوص المكتوبة والثابتة كمرجع لسائر القوانين وبها يتحقق العدل “وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” (الأنعام 115) بدل البحث عن العدل في قانون يدعي فقهاء الغرب أنه طبيعي وهو في الواقع غير موجود, فلا يضمن عدم جور الحاكم للمحكوم بقدر خضوع المحكوم للحاكم وإن فصلوا السلطات عن بعضها، فالقضية ليست تركز السلطة في يد الحاكم بل هي قضية العلم بالاحكام العادلة حتى يتم تقييم أفعال الحاكم على أساسها. ولذلك كان الأصل أن تُجعل المنظومة الغربية موضع التفكير لا مصدر التفكير, وان لا نجعل أي أساس منها منهجا للتفكير حتى يتحقق النقد بشمولية، والتثبت من القواعد التي تبرر الأخذ من الغرب ما هو تشريع وخلطه بالإسلام لتجنب ما دُسّ في الإسلام سما في الدسم في كتابات المستشرقين وخاصة منهم كتابات “جولد تسيهر”، والرجوع إلى الإسلام وفهمه فهما عميقا بقصد الوصول إلى الحقيقة، وتفعيل آلية الاجتهاد بما يقتضيه من بذل للوسع واستفراغ للجهد طلبا للظن من أحكام شرعية عملية مستنبطة من الأدلة التفصيلية.