الشركات الأهلية: السقف عالي والوفاض خالي
من البديهي ومن المعلوم بالضرورة, أن بعث أي مشروع مهما كان نوعه, ومهما كان حجمه, يجب أن تسبقه دراسة تحدد مدى جدواه ومدى نسبة نجاحه ونسبة فشله وبعدها من الضرورة الملحة توفير مستلزمات ومتطلبات ذلك المشروع, وعدم اعتماد هذا التمشي البديهي يعد ضربا من ضروب العبث والتفكير غير المسئول وغير الجاد, ولمعرفة المعنى الدقيق للعبث والتفكير غير المسئول وغير الجاد, علينا إلقاء نظرة خاطفة على أداء الدولة التي تأسست منذ ستة عقود ومازلنا نرزح تحت نير نظامها إلى حدّ الساعة. الأمثلة على عبث هذه الدولة واستهتار القائمين عليها عصية عن العد والحصر. ويكفينا التطرق إلى موضوع أولاه الرئيس “قيس سعيد” الاهتمام البالغ واعتبره طوق النجاة الوحيد من الغرق في يمّ الأزمة الاقتصادية الخانقة, وهو موضوع الشركات الأهلية.
لقد جئ بالرئيس في أجواء مشحونة تنذر بحدوث انفجار قد يأتي على الأخضر واليابس نتيجة الفشل الذريع الذي طبع أداء كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة. فمنسوب كل ما هو سلبي شهد ارتفاعا مفزعا, كالبطالة وتفشي الفقر وانهيار المقدرة الشرائية لمعظم الفئات والشرائح وعليه كانت الآمال المعلقة على الساكن الجديد لقصر قرطاج كبيرة وكبيرة جدا خاصة بعد قيامه بتلك الإجراءات والتدابير التي جعلت منه الماسك الوحيد بتلابيب السلطة.
بعد استتباب الأمر له, شرع الرئيس في تطبيق خطة إنقاذ البلاد وتخليصها من براثن الفقر. جادت قريحة الرئيس بحل سحري قال عنه بأنه سيخلق الثروة كما لم تخلق من قبل, وسيكون السبيل الوحيد إلى عدالة توزيعها, هذا الحل كما زعم “سعيد” سيقضي على البطالة ويجعل من تونس قطبا اقتصاديا عملاقا, هذا الحل تمثل في بعث ما أسماه الشركات أهلية, وفي هذا الغرض أصدر مرسوما رئاسيا حدد فيه طبيعة هذه الشركات, حيث ورد في الفصل الثاني من المرسوم “تعتبر كل شركة أهلية كل شخص معنوي تحدثه مجموعة من الأهالي الجهة, يكون الباعث على تأسيسها تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات من خلال ممارسة جماعية لنشاط اقتصادي انطلاقا من المنطقة الترابية المستقرين بها” كما جاء في المرسوم “بعث المشاريع الاقتصادية استجابة لاحتياجات المتساكنين وتماشيا مع خصوصية الجهة المعنية”. هناك العديد من الصول وردت في المرسوم وجميعها لا يخلو من الغموض والصعوبة في ترجمته بوضوح على أرض الواقع, رغم أن الغاية من إنشاء الشركات الأهلية واضحة وهي القضاء على البطالة والفقر وخلق الثروة مع العدالة في توزيعها. “قيس سعيد” كان مثله كمثل الذي يبيع السمك وهو في البحر لم يقم باصطياده, ورغم انه لا يملكه قبض ثمنه من الشاري, فالرئيس قضى على الفقر والبطالة بمجرد إصدار مرسوم هلامي وكلام حشاه بكلام فضفاض لا يغني ولا يسمن من جوع, فالدولة لم توفر ولو النزر القليل من الاعتمادات لإنجاح هذه الشركات والوصول إلى الهدف من بعثها, وكأننا بالرئيس قد تفطن إلى عجز دولته عن تقديم أي نفع للناس, جادت قريحته أو بالأحرى ابتكر خياله حلا وهميا أخر لتمويل تلك الشركات وهو قانون الصلح الجزائي الذي حسب ما أعلن الرئيس سيوفر آلاف المليارات بمجرد استرجاع الأموال المنهوبة, نعم أموال الشعب التي نهبها رجال الأعمال الفاسدين كفيلة حسب أوهام الرئيس بأن تمول الشركات الأهلية وبالتالي يتم القضاء على دابر الفقر بصفة نهائية.
والحال تلك, يكون “قيس سعيد” قد فاق بائع السمك قبل أن يصطاده وتجاوز كل البارعين في بيع الأوهام. وبما أن القائمين على هذه الدولة بارعون في رياضة الهروب إلى الأمام ويجيدون التملص من المسؤولية, وينزهون أنفسهم وكأنهم أرباب والعياذ بالله, حمّل مؤخرا “قيس سعيد” غيره وِزر تعثر بعث الشركات الأهلية, واتهم كعادته أشخاصا أشباح يفتعلون العقبات لتعطيل المشاريع التي من شأنها النهوض بالبلاد, ففي اجتماعه الأخير بوزري أملاك الدولة والتشغيل والتكوين المهني قال: “إن كل مسئول محمول عليه تطبيق القانون وتيسير كل السبل لكل من عبروا عن إرادتهم في بعث شركات أهلية. أما من مازال يمهد السبيل بشتى الطرق لإفشال المشاريع فقد ارتكب جريمة…”, يُصر الرئيس على أن كل المراسيم التي أصدرها والقوانين التي سنها قادرة على حل كل الأزمات وتحويلها أثرا بعد عين, ولما يظهر للعيان عدم جدواها, يخرج علينا عابسا مزمجرا متهما “هناك من” يعطل ويعرقل ويتآمر. وهو في الحقيقة لم ينفرد بهذا السلوك فهو يتقاسمه مع “بورقيبة” ومع “بن علي” ومن خلفهم, لأن المرافق لهذه السياقات التي جاء فيها هؤلاء الحكام بارع في احتواء الوضعيات, ولأن منتج هذه الأصناف من الحكام واحد ومع الفوارق في الأشكال الخارجية فقط…
أ, حسن نوير
CATEGORIES محلي