الشركات الأوروبيّة المنتصبة في تونس مستوطنات استعباد استعماريّة

الشركات الأوروبيّة المنتصبة في تونس مستوطنات استعباد استعماريّة

تغيير منوال التنمية، النموّ الاقتصادي، الاستثمار وتشجيع الاستثمار…كلمات صرنا نسمعها يوميّا وتقريبا في كلّ النقاشات السياسيّة والاقتصاديّة في تونس، وصار تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر دينا لأغلب السياسيين في تونس، فلا حديث لهم إلا عن جلب الاستثمار، وتحسين صورة تونس في الخارج لطمأنة المستثمر، والعمل على تحسين مناخ الاستثمار وهلمّ جرّا من هذا القاموس…ويبسّطون لك المسألة فالاستثمار الأجنبيّ المباشر يعني أن تنتصب شركات أجنبيّة في البلاد وتشغّل اليد العاملة فتنقص نسب البطالة وتزداد الثروة فترتفع نسبة النموّ…. وتُحلّ مشاكلنا (هكذا)….

وفي خضمّ هذا الصّراخ الذي لا ينتهي حول الاستثمار وفوائده لفت انتباهي تصريح مرّ سريعا في الإعلام ولم ينتبه إليه أحد. وهو تصريح للمحامي أصلان بن رجب المختصّ في قانون الأعمال يوم الثلاثاء 07 أفريل 2020 خلال تدخّله ببرنامج “إيكو ماغ” بإذاعة “اكسبريس أف أم” الخاصّة. تصريح مختصر أورده صاحبه كفتوى قانونيّة لبرنامج اقتصادي سياسيّ ليشرح مسألة تتعلّق بالمؤسسات المصدّرة كلّيا (والتي هي العمود الفقري للاستثمار الأجنبي المباشر في تونس).

  • قانونيا ليس من حق تونس تسخير الشركات المصدرة كليا للإنتاج لسوق التونسية:

أكّد محامي الأعمال في تدخّلهأنّ”الدّولة التّونسيّة لا يحقّ لها قانونيّا أن تسخر أو تفرض على المؤسسات المصدّرة كلّيّا، الإنتاج لفائدة تونس،لأنّ هذه الشركات تتعامل وتشتغل مع شركات الأم المنتصبة خارج تونس. وهذه الشركات الأمّ هي التي تقوم بإرسال المواد الأولية لمؤسساتها المنتصبة في تونس لتقوم هذه المصانع بإنتاج سلع تُرجعها إليها”اهـ.

وحين التمعّن في هذه الفتوى “القانونيّة” في زمن الوباء ينكشف لنا أنّ الشركات المنتصبة في تونس الموجّهة كلّيّا للتصدير هي مستوطنات استعماريّة في بلادنا، ذلك أنّها مرتبطة كلّيّا بالشركات الأمّ في أوروبا بل هي في الحقيقة جزء من تلك الشركات الأوروبيّة، وهي خاضعة كلّيّا لإرادة الشركات الأوروبيّة ولا يمكن للدّولة في تونس أن يكون لها من سلطة عليها. ففي حال كالّتي نعيشها هذه الأيّام، الدّول ذات السّيادة حوّلت اقتصادها بالكليّة إلى خدمة استراتيجيّة الدّولة في التصدّي للوباء، ففي أمريكا وأوروبا تحوّلت المصانع بأوامر سياديّة عليا لمساندة مجهود الدّولة في صناعة الكمّامات وأجهزة التنفّس الاصطناعي، وكذلك الأمر في فرنسا والصين وكوريا الجنوبيّة وغيرها…. أمّا في تونس ومثيلاتها من المستعمرات أنّى لها السيادة وأنّى لها أن تتخذ قرارات سياديّة، ففي تونسانتصبت منذ سبعينات القرن الماضي آلاف المصانع ولكنّ هذه المصانع لا يمكنها أن تكون تحت سلطة الدّولة لأنّها ليست مصانع تونسيّة إنّما هي مصانع أوروبيّة أي أن المتحكّم في إنتاجها نوعا وكمّا وتوجيها هي الشركات الأوروبيّة ومن ورائها الدّول الأوروبيّة وليس لتونس إلا تقديم اليد العاملة الرخيصة تشتغل لتنتفع أوروبا.

  • الشركات الأوروبيّة المنتصبة في تونس “على رأسها ريشة:

وفي زمن الحجر الصّحّي أُعلن إغلاق المناطق الصّناعيّة، هكذا أعلن رئيس الدّولة ورئيس الحكومة وخرج رئيس الحكومة متوعّدا لا يستثني أحدا (إلا من كان على رأسه ريشة)وبكى وزير الصّحّة … ولكنّ الذي سكت عنه الجميع أنّ المصانع الموجّهة كليّا للتّصدير (على رأسها ريشة) تُشغّل التونسيين في زمن الوباء لينتجوا لهم ما يحتاجونه هناك وراء البحار من موادّ صحيّة (كمّامات، وأجهزة تنفّس وغيرها…) تُصدّر لهم في الوقت الذي يتسوّل أشباه الحكّام عندنا على عتبات المرابين ليحصلوا على فتات مساعدات مسمومة،  فتلك المصانع لم تغلق أبوابها، يشغّلها آلاف العاملات والعمّال التونسيين ومن على تراب تونس.  في مشهد فضيحة بكلّ المقاييس،

  • الوجه القبيح لمستعمر يستعبد الشعوب، وأشباه حكّام لا يحسنون إلا التبعيّة والانصياع:

  • فهذا المشهد يفضح النّظام الاستعماريّ الأوروبي الذي يحلو له أن يسمّي نفسه صديقا لتونس، والحقيقة أنّه عدوّ مستعمر تلوّن بكلّ الألوان ليبدّل أساليبه الاستعماريّة فبعد أن ارتفعت تكاليف الاستعمار العسكري المباشر، سحب عساكره واستبدلهم بحفنة ” تونسيين” من ذوي الياقات البيضاء المتكوّنين في المدارس الأوروبيّة العليا جعلهم خدما له وبواسطتهم ظلّ يسيطر على تونس وطاقاتها. يملي عليهم البرامج والسياسات فيمتثلون، ويأمرهم فيأتمرون. وبواسطتهم جعل تراب تونس البلد الإسلامي العزيز حديقة خلفيّة له تؤمّن له إنتاجا لحاجاته بأدنى التّكاليف، فالكلّ يذكر خطاب الرئيس الفرنسي الذي خاطب الفرنسيين فطلب منهم المكوث في منازلهم وطمأنهم على مرتّباتهم وحاجياتهم بل ذهب إلى أكثر من ذلك حين أعلن أنّ الكهرباء والماء سيصلهم بالمجّان، وأن لا حاجة أن يخرجوا للعمل، نعم يستطيع رئيس فرنسا ذلك لأنّ العبيد من وراء البحار سيخرجون بالآلاف للعمل لينتجوا حاجات فرنسا والفرنسيين، تُخرجهم الحاجة والفقر، بل تُخرجهم خيانة الحكّام الذين سلّموا البلاد وجعلوها رصيفا من أرصفة أوروبا.

  • يفضح هذا المشهد أشباه الحكّام في بلدنا الذين يُحبّون أن يظهروا بمظهر الحكّام الأسياد ولكنّهم في الحقيقة مجرّد خدم وعملاء، فقد رضوا أن يتمّ تسخير الآلاف من تونس لخدمة الاقتصاد الأوروبي، وخدمة الدّول الأوروبيّة الاستعماريّة . وحتّى في زمن الوباء الذي هو زمن استثنائي لم يستطع لا رئيس الدّولة ولا رئيس الحكومة أن يقفوا موقف الرجال ويتّخذوا قرارات استثنائيّة تحمي أبناءنا من الوباء ومن الفقر. وتجعل لجهودهم وتضحياتهم معنى.

  • يفضح هذا المشهد المُخزي ما يُسمّى بالاستثمار الأجنبي المباشر الذي جعل منه السياسيّون عمدة النّهوض الاقتصادي لتونس، ليكشف أنّ الاستثمار الأجنبي المباشر هو تسخير لطاقات البلد بأكمله لخدمة المستعمر، فنوفّر له الأرض بالدّينار الرّمزي ليبني مصانعه ثمّ نوفّر له اليد العاملة الرّخيصة لتنتفخ جيوب حيتان المال، في مقابل ماذا؟ يدّعي السياسيّون و”خبراء” الاقتصاد أنّ الاستثمار الأجنبي المباشر هو قارب النّجاة وهو الذي سيخلق الثروة ويحسّن من النّموّ بل يزعمون أنّه سيجعلنا من البلدان المتقدّمة، ليكشف فيروس كورونا أباطيلهم، ليكشف أنّ ما يزعمونه من خلق الثروة إنّما هو زيادة لثروة الشركات العابرة للقارّات، وأنّ زيادة نسب النّموّ التي يلهثون وراءها إنّما هي في الحقيقة زيادة لاستعباد شبابنا وجعلهم خدما وعبيدا لدول ما وراء البحار.

وقبل الختام:

لا تفتقر تونس إلى الكفاءات الطّبيّة ولا إلى المهندسين القادرين، فقد أثبتت هذه الأزمة أنّ شبابنا قادر على الخلق والابتكار، قادر على البحث والاكتشاف في زمن قياسيّ يُضاهي ما عليه أكثر المختبرات حداثة في العالم، ولا تفتقر تونس أيضا إلى الأموال والثروة فمزارعونا بفضل الله وعونه أنتجوا صابات قياسيّة، وشبابنا الذي يتفجّر حيويّة مستعدّ للبذل والتّضحية.

فماذا ينقص تونس إذن؟

 لا ينقصها إلا نظام صحيح عادل يُحسن رعاية الشؤون الرعاية الكريمة، ويُحسن استثمار الطّاقات الكامنة في تونس وقيادة مخلصة لربّها ولدينها ولأمّتها واعية على المستعمر وألاعيبه، لها الجرأة لتقف موقف الرّجال لتقود رجال تونس إلى مراقي العزّ.

وختاما نذكّر أنّ تونس لم تكن يوما عزيزة منيعة إلا يوم دخلها الإسلام فتحوّلت من مطمور روما إلى قائدة للجناح الغربي لأقوى دولة في العالم، ولم يكن ذلك إلا بنظام الإسلام وبقيادة المخلصين الواعين الشجعان، ونظام الإسلام بيننا لا يزال غضّا طريّا كما أنزل على رسولنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم، وفينا رجال مخلصون صادقون واعون شجعان.

محمد الناصر شويخة

CATEGORIES
TAGS
Share This