الصداق القيرواني ومنع تعدّد الزوجات
يعدّ كثير من العلمانيين ما يسمى بالصداق القيرواني بمثابة “النبراس الذي تهتدي به نساء تونس اليوم وهو الذي أسس لما نالته المرأة التونسية من خصوصية في قوانين الأحوال الشخصية. وتبرز أهمية الصداق القيرواني في حمايته للمرأة من تعدد الزوجات عبر تمكينها من الطلاق في حال زواج ثان”(1). يقول الدكتور أحمد الطويلي: “ومن فصول مجلة الأحوال الشخصية منع تعدد الزوجات منعا باتا…وهذه المجلة هي في الحقيقة امتداد للروح الاجتماعية التاريخية التي كانت سائدة في بلادنا منذ القدم، وامتداد للعرف الذي كان جاريا بالقيروان وعرف الصداق القيرواني، إذ لم يكن تعدد الزوجات مقبولا عامة في مجتمعنا التونسي الإسلامي…”(2).
والصداق القيرواني من عقود الزواج التي قيل إنها كانت شائعة في مدينة القيروان، و”يتضمن شروطا تشترطها المرأة أو وليها على الزوج، مضمنة في جملة نجدها في كل صداق قيرواني وهي: “طاع الزوج المذكور لزوجه المذكورة بالجعل التحريمي على عادة نساء القيروان”. فلم يكن يخلو صداق قيرواني من هذه الجملة التي تفرض على الزوج قبول هذا الشرط والالتزام بالتقيّد به ازاء زوجته… وقد سمي هذا الشرط بالجعل التحريمي ومعناه أن مخالفة هذا الشرط ينتج عنه بطلان الزواج وتحريم العلاقة الزوجية…إنه يعني أن لا يتزوج الزوج ولا يتسرى على زوجته كما نجد هذا الجعل مفصلا في صداق آخر كما يلي: “طاع الزوج المذكور لزوجه المذكورة تضمنا لمسرتها واستجلابا لمودتها أن لا يتزوج عليها، ولا يتسرى ولا يتّخذ أم ولد… فإن فعل ذلك أو شيئا منه بغير إذنها ودون رضاها فهي طالق وأشهد على نفسه بذلك”…”(3). و تجد في صفحة مصالح الموفق الإداري التابعة لرئاسة الجمهورية هكذا توصيف: “وقد شاع هذا الشكل من الزواج بالبلاد التونسية وأصبحت النساء والعائلات في أغلب ربوع هذه البلاد تشترط وتتمسك بالزواج على منهج أهل القيروان، وهو السند الذي يسّر في ما بعد عند صدور مجلة الأحوال الشخصية تقنين منع وتجريم تعدد الزوجات.(الفصل 18 م.أ.ش)…”(4).
كما تبيّن فإنّ العلمانيين في تونس يستندون على ما يسمى بالصداق القيرواني من أجل إضفاء الصبغة الشرعية على قانون وضعي يمنع ويجرّم تعدد الزوجات، ويعتبرون “أن مجلة الأحوال الشخصية التي صدرت سنة 1957 قد بلورت كل مكاسب المرأة التونسية التي تحصلت عليها عبر قرون طويلة لتجمعها في مدونة كاملة جامعة. وإن ربط مدونة الأحوال الشخصية بالإرث الفقهي المستنير لمدرستي القيروان والزيتونة خير دليل على أن التمشي التونسي في مجلة الأحوال الشخصية نابع من المبادئ السمحة للدين الإسلامي الحنيف”(5). هذا زعمهم، ألا ساء ما يزعمون. فهم يخلطون الحقّ بالباطل، ويلبسون على الناس أمر دينهم ويجرونهم إلى تعطيل الشرع بحجة الاجتهاد النيّر المتمشي مع العصر. وسنبيّن لك بطلان زعمهم كما يلي:
يجب أن يعلم أولا أنّ الاجتهاد الذي جاء به الإسلام هو بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، أو بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي، بطريق الاستنباط. والقصد من الاجتهاد هو العمل بالنصوص لا ابطالها، وتفعيلها لا تعطيلها. وبناء عليه، فإن كلّ جهد يبذل لإبطال النص وتعطيله وإلغائه استدلالا وعملا، يعدّ باطلا لا قيمة له، ويدخل ضمن نطاق الإفساد والإلحاد لا الاجتهاد بمعناه الشرعي. والصداق القيرواني -كعقد زواج جرى به العمل في بلد ما- يتضمن اشتراط الزوجة على زوجها عدم التزوج بثانية، هو من العقود الشرعية التي لا خلاف في شرعيتها لاستنادها على أدلة شرعية وآراء اجتهادية معتبرة قال بها علماء فقهاء. قال ابن قدامة في المغني: “الشروط في النكاح تنقسم أقساما ثلاثة، أحدها ما يلزم الوفاء به، وهو ما يعود إليها نفعه وفائدته، مثل أن يشترط لها أن لا يخرجها من دارها أو بلدها أو لا يسافر بها، أو لا يتزوج عليها، ولا يتسرى عليها، فهذا يلزمه الوفاء لها به، فإن لم يفعل فلها فسخ النكاح. يروى هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسعد بن أبي وقاص، ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم وبه قال شريح، وعمر بن عبد العزيز، وجابر بن زيد، وطاوس، والأوزاعي، وإسحاق. وأبطل هذه الشروط الزهري، وقتادة وهشام بن عروة ومالك، والليث، والثوري، والشافعي، وابن المنذر، وأصحاب الرأي. قال أبو حنيفة، والشافعي: ويفسد المهر دون العقد، ولها مهر المثل. واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم «كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط» وهذا ليس في كتاب الله لأن الشرع لا يقتضيه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «المسلمون على شروطهم، إلا شرطا أحل حراما، أو حرم حلالا» وهذا يحرم الحلال، وهو التزويج والتسري والسفر؛ ولأن هذا شرط ليس من مصلحة العقد ولا مقتضاه، ولم يبن على التغليب والسراية، فكان فاسدا، كما لو شرطت أن لا تسلم نفسها. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج» رواه سعيد وفي لفظ: «إن أحق الشروط أن توفوا بها، ما استحللتم به الفروج» متفق عليه. وأيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم «المسلمون على شروطهم» ولأنه قول من سمينا من الصحابة، ولا نعلم لهم مخالفا في عصرهم، فكان إجماعا…”.
بناء عليه، فلا إشكال في الصداق القيرواني المتضمن لشرط عدم التزوج بثانية، ولا خلاف في شرعيته، وليس هو محلّ البحث. وإنما محل البحث هو: هل يجوز لدولة علمانية أو مدنية – كما يقال – أن تعتمد فكرة الشرط في العقد (الفقهية الشرعية) لتقنّن منع وتجريم تعدد الزوجات؟ والجواب هو: لا يجوز ذلك من منظورين: من منظور العلمانية نفسها، ومن منظور الشرع الإسلامي.
أما من منظور الشرع الإسلامي، فالشروط الجعلية الجائزة في العقود تأخذ صبغة فردية خاصة متعلّقة بتحقيق مصلحة خاصة لأحد المتعاقدين بشرط عدم منافاتها لمقتضى العقد نفسه، وبشرط عدم تعارضها مع أصل أو نص شرعي. وشرط عدم التزوج بثانية كما ينص عليه الصداق القيرواني لا إشكال فيه رغم اختلاف العلماء في صحته، وإنما الإشكال في تعميمه وتقنينه وإلزام الناس به بقوة السلطان وترتيب عقوبة زجرية على مخالفته. وبعبارة أخرى، اشتراط الزوجة على زوجها عدم التزوج عليها مسألة فردية خاصة متعلّقة بمصلحة خاصة، فيمكن للزوج أن يقبل الشرط ويمكن له أن يرفضه، كما أنه لا يلغي حكم التعدد مطلقا بل للزوج أن يعدّد إذا تنازلت الزوجة عن شرطها أو إذا طلّقها، ولغيره من الرجال أن يعدّدوا، وأمّا تقنين الشرط وتعميمه فيلغي حكم التعدّد مطلقا ويجرّمه، وهذا يناقض النص القرآني المبيح ويبطل حكما شرعيا ثابتا بالدليل القطعي الثبوت والدلالة. ولهذا فإن اعتماد مسألة شرط عدم التعدّد الوارد في بعض العقود لتقنين تجريم التعدد ككل حيلة علمانية لإلغاء الاحكام الشرعية وابطال العمل بها.
وأما العلمانية، فهي عقيدة تفصل الدين عن الدولة، وهذا يعني عدم تدخل الدين وعدم اعتماده في شؤون الحياة المختلفة، وإنما للبشر أن يعالجوا أمورهم بأنفسهم ويتدبروا شؤونهم بمفردهم وفق ما تقتضيه رغباتهم ومصالحهم. فمن منظور علماني لا يجوز أن تبنى قوانين الدولة على نصوص دينية، ولا يحقّ للسياسي أن يعتمد نص القرآن أو الانجيل أو التوراة في التشريع والتقنين. نعم، تتيح بعض العلمانيات الاعتماد على المرجعيات الدينية في مجالات معيّنة، ولكن بشرط عدم الافصاح عنها كأن يقول السياسي مثلا: هذا ممنوع لأن الله يقول أو لأن الدين يمنعه، وإنما يقدّم الفكرة باعتبارها فكرة شخصية، ويدافع عنها باعتبارها مدنية لا دينية. وبحكم أن تونس دولة علمانية عمليا ومدنية وفق دستورها، وبحكم عدم تنصيص دستورها على اعتماد الشريعة الإسلامية كمصدر تشريع وتقنين، فلا يحقّ لساستها إقحام الاستدلال الشرعي الفقهي في عملية تقنين القوانين الوضعية، وإنما يجب فصل الدين عن الناحية التقنينية حتى لا يتحول القانون إلى ديني ولا تتحول الدولة المدنية إلى دينية. فمحاولة إقحام الدين في تشريعات الدولة المدنية، والسعي إلى تبرير القوانين الوضعية بمبررات فقهية، والاعتماد على فكرة الاجتهاد الإسلامية لإقناع الشعب بقوانين وضعية مناقضة للأحكام الشرعية القطعية، كل هذا يدلّ على أنّ الدولة لا هوية لها ولا شخصية، والدول فاقدة الهوية دول لا قيمة سياسية لها ولا يمكن لها أن تنهض أو تتقدم في أي مجال من المجالات. ولهذا نقول: إنّ مفهوم الدولة العلمانية المدنية مفهوم فاشل في بيئة إسلامية، وآن للدولة أن تتصالح مع ذاتها وموروثها الحضاري والثقافي وتسترجع هويتها الحقيقية وشخصيتها المتميّزة فتكون دولة إسلامية لشعب مسلم وإن كرهت ذلك شرذمة من العلمانيين واليساريين.
ياسين بن علي