استضافت مدينة باليرمو الإيطالية يومي 12 و13 نوفمبر الحالي مؤتمرا دوليا بمشاركة أطراف ليبية ودولية، في أحدث حلقات الصراع الدولي على النفوذ في ليبيا، التي لا تزال تغرق في فوضى سياسية بالرغم من مرور سبع سنوات على سقوط نظام معمر القذافي.
ولا يمكن فهم تعقيدات المشهد قبل أن نلقي نبذة تاريخية قصيرة تحيلنا إلى الأطراف الدولية وأدواتها المحلية التي تتصارع على السيطرة و النفوذ في ليبيا.
لما قامت الحرب العالمية الثانية في عام 1939 عقد الأمير إدريس السنوسي اتفاقا مع البريطانيين. ودخل إلى ليبيا بجيش أسسه في المنفى في أغسطس 1949 متحالفاً مع البريطانيين لطرد الغزاة الإيطاليين. ولما انتهت الحرب بهزيمة إيطاليا، وخروجها من ليبيا، عاد إدريس السنوسي إلى ليبيا في 1944 وأصبحت ليبيا منذ ذلك التاريخ تحت حكم الإدارة البريطانيّة والفرنسية ، أي الحلفاء، ثم انتقلت سلطات الإدارة العسكريّة البريطانية إلى حكومة برقة في أكتوب 1949، مع بقاء القوات البريطانية في ليبيا التي كانت تشرف على تدريب الجيش الليبي.
لفتت شخصية معمر القذافي الذي التحق بالجيش سنة 1964 انتباه أحد الضباط البريطانيين اللذين كانوا يشرفون على تدريب الجيش الليبي زمن الملك السنوسي، حيث كان القذافي ضابطا ذو ميول قومية ويتملكه حب الزعامة وذو شخصية تميزه عن أقرانه. فوجدت بريطانيا فيه ضالتها لمواجهة جمال عبد الناصر عميل أمريكا في المنطقة، فانتدبته المملكة المتحدة للمزيد من التدريب في بريطانيا، ليصنع على عين بصيرة، حيث أجرى دورات تدريبية طيلة تسعة أشهر في سلاح الجو الملكي البريطاني و سلاح المشاة في في هايث، كينت، ثم رجع إلى ليبيا أواخر 1967 و قام بانقلابه على السنوسي وهو برتبة ملازم في الفاتح من سبتمبر من سنة 1969 و طرد القوات البريطانية و أزال قواعدها العسكرية من ليبيا، في مسرحية تلميعية مفضوحة تذكرنا بانسحاب الأسطول البريطاني من قونية سنة 1919 دون اشتباكات أمام مائة جندي عثماني يقودهم مصطفى كمال أتاتورك، الذي صنعته بريطانيا لإسقاط الخلافة العثمانية.
ولم يكن وصول القذافي للحكم إلا بترتيب بريطاني مسبق وفقا لتوصيات السفير البريطاني في بنغازي سنة 1964 في(الوثيقة رقم 8) التي رفعها لحكومته يحثها فيه على “وجوب إعادة النظر في مخططاتها بعيدة المدى في ليبيا”، وهو بذلك يعلن صراحة ببداية العد التنازلي لنظام الحكم الملكي في البلاد.
عندما اندلعت الثورات العربية و هرب المخلوع بن على إلى السعودية و أطيح بمبارك في مصر، أدركت بريطانيا أن ثورة فبراير 2011 للشعب الليبي يمكن أن تطيح بعميلها القذافي فأرادت امتصاص غضب الجماهير الثائرة ببعض الإصلاحات السياسية، حيث أكد إدوين صمويل، المتحدث باسم الخارجية البريطانية فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تصريح له على قناة الجزيرة القطرية، أن بريطانيا اتصلت بسيف الإسلام القذافي و طلبت منه أن يتفاوض مع الشرق الليبي الثائر، إلا أن سيف الإسلام تمرد على ولية أمره بريطانيا و قال في خطابه الشهير، فبراير 2011، بأن معمر القذافي خط أحمر و أن من يخرج عليه فسيداس بالأقدام.
عندها قررت بريطانيا الإطاحة بالقذافي، فتوجه السفير البريطاني من طرابلس العاصمة إلى مدينة بنغازي بطائرة عمودية، رفقة فرقة من الكموندوس البريطاني والتقوا بقادة الثوار من بينهم مصطفى عبد الجليل و عبد الفتاح يونس و غيرهم ثم غادروا إلى أروبا.
منذ ذلك الحين بدأت المخابرات البريطانية -ام اي 5- تعمل على تشجيع المحيطين بالقذافي بالانشقاق عنه، فضلا عن الدعم اللوجستي و العسكري، تحت مضلة حلف الناتو.
ولأن بريطانيا أصابها الضعف و الهزال و لم تعد تستطيع الحفاظ بمفردها على نفوذها أمام أمريكا التي تتحين الفرص لتصفية الاستعمار الأوروبي لتحل محله، فقد أشركت بريطانيا فرنسا لانقاذ ما يمكن إنقاذه في ليبيا، فتم اللقاء الشهير بين مسؤولي البلدين كامرون وساركوزي، اللذان أعلنا استجابتهم لمناشدة الليبين لمساعدتهم في الإطاحة بنظام القذافي، حيث قال الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي حينها: ” يجب أن يرحل القذافي!”.، وهذا طبعا شريطة أن تحصل فرنسا على جزء من النفط الليبي في المستقبل. ثم وقع تشكيل المجلس الوطني الانتقالي السابق والاعتراف الفوري به من طرف بريطانيا و فرنسا و بدأت الأموال و الأسلحة تتدفق للثوار.
وكل متابع انذاك يدرك أن حلف الناتو لم يكن كتلة واحدة، ففي الوقت الذي كانت بريطانيا و فرنسا تجتهدان في حسم المعركة بسرعة من خلال توجيه الثوار ومدهم بالسلاح والعتاد والأموال، و بقصف قوات القذافي، كانت أمريكا بالمقابل تسعى لإطالة زمن الحرب لكسب الوقت و خلق أوضاع تمكنها من النفاذ إلى ليبيا ذات النفوذ البريطاني العريق، إلا أن فرنسا وبريطانيا حسما المعركة لصالح الثوار بأعمالهم الفردية و بدون تنسيق مع الولايات المتحدة قائدة حلف الناتو، وأطيح بنظام القذافي و قتل زعيمه.
مرت السنة الأولى من الثورة الليبية كما بقية الثورات في المنطقة دون تأثير أجنبي قوي وربما يعود ذلك لان النفس الثوري ما زال قويا و أي محاولة غير محسوبة يمكن أن يخرج الأوضاع عن السيطرة، فضلا عن كون النفوذ أحاديا و لم يكن الصراع على النفوذ من القوى المضادة متاحا.
في بداية 2013.بدأت الثورة المضادة تتتشكل بعدما أمن أصحاب الدولة العميقة العقاب، فكانت الباكورة الأولي بقطف الثورة المصرية بتواطئ أمريكي مفضوح، ثم امتدت لتونس وليبيا واليمن، حيث أن قوى الردة وغياب الوعي السياسي عند المسلمين ساهما بشكل كبير في تغلغل القوى الأجنبية التي أثخنت في جسم الربيع العربي.
بدأت أمريكا بالتحرك في ليبيا عن طريق عميلها اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي أطلق في منتصف مايو/ أيار 2014 عملية عسكرية تدعى “كرامة ليبيا” ضد مجموعات وصفها بـ “الإرهابية” في بنغازي، وانتقلت العملية لاحقا إلى العاصمة طربلس، فأسفرت عن مقتل العشرات وجرح المئات، وقدم حفتر نفسه باعتباره قائد “الجيش الوطني” و”منقذ” ليبيا من الجماعات الإسلامية التي يتهمها بـ “الإرهاب” وزرع الفوضى، وقد دعمته أمريكا بالمال والسلاح عن طريق عميلها الرخيص السيسي، ثم انتخب مجلس النواب في 25 يونيو/حزيران 2014 ليتسلم السلطة التشريعية في مدينة طبرق من المؤتمر الوطني العام المنتخب في يوليو/تموز 2012 والمدعوم من طرف قوات “فجر ليبيا”، إلا أن المحكمة العليا بطرابلس نزعت عنه الشرعية واعتبرت كل قراراته ومنها تشكيل حكومة الثني لاغيا، ثم شهدت مدينة الصخيرات المغربية يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2015 توقيع اتفاق بين أطراف ليبية تحت رعاية بريطانيا و عملائها، نصّ على تشكيل حكومة وحدة وطنية، غير أن الاتفاق لم يحظ بموافقة عملاء أمريكا وعلى رأسهم حفتر والبرلمان والحكومة الموازية المنبثقة منه.
وهكذا أصبح المشهد السياسي في ليبيا منقسما بين حكومة الوفاق الوطني المنبثقة من اتفاق الصخيرات والمدعومة من بريطانيا، وتسيطر على بعض مناطق الغرب الليبي بما فيها العاصمة طرابلس، يقودها فائز السراج، ومن جهة ثانية الحكومة المؤقتة المنبثقة عن برلمان طبرق، وتوجد بمدينة البيضاء شرقي البلاد، ويترأسها عبد الله الثني، و يدعمها حفترعميل أمريكا، و هكذا منذ سنة 2014 إلى اليوم و الصراع الدولي مشتد بين قطبين رئيسيين هما أمريكا و بريطانيا مع وجود دول أخرى تتقلب بين القطبين حسب مصالحهم.
ففرنسا التي كان لها دور بارز في إسقاط نظام القذافي، كانت في المرحلة الأولى إلى جانب بريطانيا تدعم المؤتمر الوطني و حكومة السراج، ثم راهنت في وقت لاحق على عملية الكرامة ورأت في عميل أمريكا خليفة حفتر الحليف القادر على تحقيق أهدافها الإستراتيجية، فدعمته بقوة لوجستيا واستخباريا عبر مجموعات عسكرية فرنسية في الشرق الليبي تعمل على تدريب ودعم ميليشيات الكرامة في حربها ضد مجلس شورى ثوار بنغازي وثوار درنة . وكذلك دعمت الجنرال في السيطرة على الهلال النفطي لتجعل من الكرامة رقما في المعادلة الليبية لا يمكن تجاوزه.
وكانت فرنسا تدعم عميل أمريكا لتغذية الصراع بين عملاء أمريكا و بريطانيا أي بين شرق ليبيا وغربها لتتفرغ في السيطرة على جنوب ليبيا عن طريق دعم قبائل التبو، هذا بالإضافة لما سيكون لها من نصيب في نفط ليبيا إذا ما بسط خليفة حفتر نفوذه على ليبيا، وانتصرت قواته على الإسلاميين، خصومها التقليديين.
ولكن مع تطور الأحداث أدركت فرنسا أن السير مع بريطانيا أسلم، فبريطانيا تقبل بالشراكة في حين أن أمريكا تتبع سياسة التفرد، خاصة بعدما تم تكليف القائمة بأعمال السفارة الأمريكية لدى ليبيا ستيفاني ويليامز نائبًا للمبعوث الأممي في ليبيا، التي بدأت عملها بلقاء حفتر و أمرته بإيقاف أعماله العسكرية، لأنها أدركت أن فرض حفتر من خلال السيطرة العسكرية على البلاد بات أمرا في حكم المستحيل سواء من خلال المعادلة الداخلية أو من خلال التوجه الدولي الذي تمثله أجندة الأمم المتحدة التي تستغلها بريطانيا لتركيز عملائها، وهو ما جعلها تركز لاحقا على الحل السياسي وفق تصورها، لتوسيع نفوذ أمريكا من خلال توافقات تجري في البلاد عبر مشاورات برعاية أمريكية تحت غطاء توحيد مؤسسات الدولة السياسية، بما فيها الحكومة والبنك المركزي والجيش، ويكون لعميلها حفتر نفوذ في المشهد الليبي يمكن البناء عليه، ثم الوصول إلى مرحلة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ويشمل أيضًا إعادة تشكيل المجلس الرئاسي مع احتفاظ فايز السراج بمنصبه كرئيس له، وتشكيل حكومة تسيير أعمال.
أما فرنسا فتعارض هذا السير الأمريكي و واجهته من خلال المؤتمر الدولي الذي عقدته في باريس في ماي الماضي والذي رسمت فيه خارطة طريق للحل في ليبيا، حيث حصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الأطراف الرئيسية في الأزمة الليبية، على رأسها رئيس المجلس الرئاسي الليبي فائز السراج وقائد قوات الكرامة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، على اتفاق شفهي دون توقيع في الـ29 من مايو/أيار في باريس، لإجراء انتخابات في الـ10 من ديسمبر/كانون الأول بهدف إخراج البلاد من الأزمة السياسية والأمنية التي تتخبط فيها منذ 2011.
ولا شك أن مشروع الانتخابات يتوافق مع مصالح بريطانيا التي تسعى لإيجاد شرعية محلية و دولية لحكومة الوفاق تحت غطاء الأمم المتحدة ما يمكنها من الصمود في وجه المخططات الأمريكية، وهو ما دفع أمريكا من إظهار عدم الرضا، حيث اعتبرت المبعوثة الأمريكية إلى ليبيا ” ستيفاني ويليامز” نائبة رئيس البعثة الأممية في ليبيا غسان سلامة أن إجراء الانتخابات نهاية هذا العام أمر متعذر بسبب الأوضاع في البلاد، أما ديفيد هايل الرجل الثالث في وزارة الخارجية الأميركية فقد قال أمام معهد الشرق الأدنى في واشنطن، “نؤيد الانتخابات في أقرب وقت ممكن، لكن مواعيد نهائية مصطنعة مع عملية متسرعة ستأتي بنتائج عكسية”.
وقد استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية من كسب الموقف الايطالي إلى جانبها، الذي تبلور أثناء الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء الإيطالي إلى البيت الأبيض والاتفاق على عقد مؤتمر دولي حول ليبيا في العاصمة الإيطالية روما كرد على المؤتمر الدولي الذي عقد في باريس، وهو ما تم مؤخرا في المدينة الايطالية باليرمو.
وكانت إيطاليا التي أحست بنوع من التهميش خلال تدخل حلف الناتو الذي تسبب في سقوط نظام القذافي، قد اتهمت فرنسا عقب اجتماع باريس بأنها تريد أن تكون وحيدة في ليبيا، حيث ينتهج كل من الدولتين نهجا مختلفا في مقاربة الصراع الليبي والحلول المقترحة لتجاوز الأزمة، فإيطاليا ترى أن الانتخابات التشريعية والرئاسية التي سترسي مؤسسات السلطة الشرعية في إطار الوضع النهائي الذي سيقطع مع المراحل الانتقالية ويرسي الوضع الدائم لا يمكن أن تتم قبل إجراء مصالحة وطنية شاملة وإرساء دستور للبلاد ينظم علاقة السلطة بالمجتمع وعلاقة مؤسسات الدولة مع بعضها بعضا، وهي نفس الخطى التي تتبعها المبعوثة الأمريكية لتركيز نفوذها من خلال التوافقات أو بالأحرى المصالحات، وقد نجحت أمريكا وإيطاليا في تأجيل الانتخابات إلى السنة المقبلة من خلال تعنت حفتر فيما يخص إنهاء الانقسام وإلغاء الحكومة الموازية، و الأعمال القتالية التي مزقت طرابلس.
وبالرغم من هذا النجاح الجزئي، سيبقى الصراع محتدما بين القوى الدولية للسيطرة على ليبيا وثرواتها، ولن تتخلص ليبيا من هذا الصراع المحموم إلا إذا تحرك الشعب الليبي وتصدي لهذه المخططات. فالشعب الليبي بقواه الحية وحده القادر على إفشال مساعي الدول الكبرى في السيطرة على ليبيا و مقدراتها، وذلك إذا ما تحركت سريعا في عملية تجميع للقوى تحت قيادة سياسية مخلصة وواعية تملك مشروعا حضاريا إسلاميا تحرريا من كل القوى الاستعمارية، فالدول الكبرى تنجز مشاريعها على أكتاف العملاء والأغبياء من أبنائنا! ونحن نستصرخهم أن الوقت أصبح مناسبا لقلع النفوذ الأجنبي وأدواته المحلية.
قال تعالى: و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.
د. الأسعد العجيلي عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في تونس