السؤال: (قال رئيس أذربيجان إلهام علييف في خطاب بثه التلفزيون الرسمي مساء الأحد 4/10/2020، إن على أرمينيا وضع جدول زمني للانسحاب من إقليم ناغورني قره باغ قبل وقف القتال الذي نشب فيه منذ نحو أسبوع… واعتبر علييف أن السيطرة على مدينة جبرائيل أمس الأحد درس لأرمينيا وداعميها، وعليها أن تتعظ منه، على حد تعبيره. الجزيرة، 05/10/2020م)، وكانت الاشتباكات العنيفة قد اندلعت بين أذربيجان وأرمينيا صباح يوم 27/9/2020 بضراوة لم يحدث مثلها منذ وقف إطلاق النار بين الطرفين عام 1994، وإن كانت تتجدد بين الفينة والأخرى في اشتباكات محدودة وواسعة أحيانا كما حصل عام 2016، ولم تقم تركيا بدعم أذربيجان عسكريا في كل هذه الاشتباكات السابقة. ولكن هذه المرة وقد أعلنت تركيا دعمها لأذربيجان يبدو أن لها أهدافاً معينة! فما هي هذه الأهداف؟ ولماذا تدخلت تركيا بهذا الزخم؟ وما موقف دول مجموعة مينسك، وخاصة قادتها الثلاثة: (الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا)؟ ولكم الشكر والتقدير.الجواب: للوقوف على حقيقة ما يجري نستعرض الأمور التالية:
1- أعلنت أذربيجان أن أرمينيا شنت هجوما واسعا على أراضيها صباح يوم 27/9/2020، فذكرت وزارة الدفاع الأذرية في بيان أن (“النيران الأرمينية أوقعت خسائر في الأرواح بين المدنيين، بجانب إلحاق دمار كبير في البنية التحتية المدنية في عدد من القرى التي تعرضت لقصف أرميني عنيف”. وذكرت أن “قواتها أطلقت هجوما مضادا وتمكنت فيه من تدمير عدد كبير من المرافق والمركبات العسكرية الأرمنية على عمق خط الجبهة، بينها 12 منظومة صواريخ مضادة للطائرات من طراز (أوسا)” الروسية… الجزيرة 27/9/2020)، وقد صادق البرلمان الأذري على إعلان حالة الحرب في بعض المدن والمناطق وفرض الأحكام العرفية في مناطق الاشتباكات. وعلى الجانب الآخر أعلنت أرمينيا حالة الحرب، حتى إنها وضعت على حسابها الرسمي صورة راهب يحمل بندقية آلية يتدلى من عنقه علامة الشرك الصليب، في إشارة إلى أنهم يخوضون حربا صليبية ضد المسلمين… وأعلن رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان موقف بلاده في خطاب له (“إن أذربيجان أعلنت الحرب على شعبه” وإنه “لا يستبعد أن يتجاوز التصعيد في الإقليم حدود المنطقة ويهدد الأمن الدولي. وإن سلوك تركيا محفوف بعواقب مدمرة على جنوب القوقاز وحث المجتمع الدولي على ضمان عدم تدخل تركيا في النزاع الدائر بين باكو ويريفان حول إقليم قرا باغ منذ عام 1991″… المصدر السابق).
2- وقد أظهرت أذربيجان أن المعارك هذه المرة جادة وأن الحرب حاسمة. فقال الرئيس الأذري إلهام علييف يوم 30/9/2020 (“إن المفاوضات بشأن قرا باغ لم تكن مجدية وليس هناك أي حاجة لدعوات جديدة إلى الحوار، مبديا عزم أذربيجان على استعادة وحدتها الترابية وإن جيش أذربيجان تمكن من إحراز نجاحات ميدانية خلال عملياته الأخيرة في المنطقة المتنازع عليها وإنه ليس بإمكان أحد إجبار القوات الأذرية على الانسحاب من المواقع التي سيطرت عليها. وإن انسحاب القوات الأرمنية هو الشرط الوحيد المطروح من قبل أذربيجان وإذا طبقته يريفان فإن القتال سيتوقف” وقال: “لدينا شرط واحد: انسحاب كامل وغير مشروط ودون تأخير لقوات أرمينيا المسلحة من أرضنا. إذا قبلت الحكومة الأرمنية… فإن المعارك ستتوقف وسفك الدماء سيتوقف… الجزيرة، روسيا اليوم، 30/9/2020). فيظهر أنه واثق بالدعم التركي ظاناً أن هذا الدعم صادق وأنه سيحرر له الأرض…
3- كانت قد تجددت الاشتباكات هذا العام يوم 12/7/2020 واستمرت 3 أيام وتوقفت مع وقوع خسائر في الأرواح بين الطرفين. ومن ثم ولأول مرة تقوم تركيا وترسل قوات برية وجوية إلى أذربيجان للمشاركة في مناورات عسكرية واسعة النطاق بين البلدين بدأت يوم 29/7/2020 واستمرت نحو أسبوعين. وبدأت تركيا تظهر أنها تتبنى قضية أذربيجان وأراضيها المحتلة من قبل الأرمن. ولم يحدث مثل ذلك من قبل، وإن كانت تحدث اشتباكات متقطعة بين الطرفين من حين لآخر منذ إعلان وقف إطلاق النار عام 1994، وكانت آخر اشتباكات تعتبر شديدة من ذلك التاريخ قد حصلت من بداية شهر نيسان حتى 26 نيسان عام 2016، ولكن تركيا لم تتدخل بجانب أذربيجان سوى تقديم رئيسها أردوغان تعازيه بالذين فقدوا أرواحهم في الاشتباكات واستعداده لمساندة أذربيجان من دون أن يقدم شيئا! وكانت الظروف تقتضي تفاهم تركيا مع روسيا وليس التصادم كما خططت أمريكا من أجل وقوف الدولتين معا لتثبيت النظام السوري الموالي لأمريكا وضرب أهل سوريا الثائرين على هذا النظام ومنع عودة الإسلام إلى الحكم. لا سيما وأن تمرد الأرمن ضد أذربيجان قد بدأ في شهر شباط عام 1988 بدعم من روسيا، وأعلنوا سيطرتهم على منطقة قرا باغ الجبلية عام 1991، كما أعلنوا فيها جمهورية مستقلة لهم واستمرت الحرب حتى عام 1994، ففقدت أذربيجان أكثر من 20% حتى 24% من أراضيها التي تضم إقليم قرا باغ الذي يتكون من 5 محافظات، بجانب 5 محافظات أخرى غربي البلاد، بالإضافة إلى أجزاء واسعة من محافظتي آغدام وفضولي، وقد هجّروا نحو مليون من أهالي هذه المناطق المسلمين. فقد تدخل الجيش الروسي مباشرة، وما زالت روسيا تقف وراء أرمينيا البلد صغير المساحة والسكان والقوى والمقدرات بالنسبة لأذربيجان.
4- إن تركيا تلعب بقضية أذربيجان حسب دورانها في فلك أمريكا وتنفيذ أوامرها، فقد قامت تركيا بتوقيع اتفاق سلام شامل مع أرمينيا في زيورخ بسويسرا يوم 10/10/2009 يقضي بالاعتراف بالحدود الحالية بين البلدين وفتح هذه الحدود وإقامة علاقات دبلوماسية وتبادل السفراء وفتح القنصليات وتطوير العلاقات في كافة المجالات والتعاون الإقليمي والدولي وحل النزاعات الإقليمية والدولية بالطرق السلمية حسب القواعد والقوانين الدولية ومحاربة الإرهاب وتطوير الديمقراطية في المنطقة وإيجاد وتطوير الحوار للتدقيق العلمي في الوثائق والمصادر التاريخية، في إشارة لحل إشكالية الادعاء بالإبادة الجماعية للإرمن… علما بأن أردوغان كان قبل ذلك يرفض التفاهم مع أرمينيا قبل أن تسحب قواتها من أراضي أذربيجان المحتلة في قرا باغ وما حولها. وقد جاء عقد الاتفاق هذا بطلب مباشر من الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما إذ دعا في زيارته لتركيا يوم 6/4/2009 لحل الخلاف بين تركيا وأرمينيا وإيجاد السلام بينهما بعدما قطعت العلاقات بين الطرفين وأغلقت الحدود عام 1993. فانصاع أردوغان ووقع اتفاقية سلام شاملة مع أرمينيا من دون التطرق لأذربيجان واحتلال الأرمن للأراضي الأذرية ولا لقضية المهجرين الذين يبلغ تعدادهم نحو مليون من أهل أذربيجان المسلمين… وأعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أن التوقيع حدث تاريخي وأنها شاركت فيه!
5- لقد انتقدت أذربيجان آنذاك توقيع الاتفاق قبل أن يتحقق انسحاب الأرمن من الأراضي الأذرية المحتلة، وطالبت أذربيجان تركيا بالالتزام بوعودها السابقة التي قطعتها بعدم فتح الحدود وإقامة العلاقات مع أرمينيا قبل انسحاب الأخيرة من أراضيها المحتلة. وقد نشر موقع ايلاف في 10/10/2009: [زوريخ: وقع وزيرا خارجية تركيا وأرمينيا مساء السبت في زوريخ (سويسرا) اتفاقات ثنائية تهدف إلى تطبيع العلاقات بين الطرفين. وتصافح الوزيران إدوارد نالبنديان وأحمد داود أوغلو مطولا بعد التوقيع… وقال فيل غوردون، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الأوروبية والشؤون الأوروبية الأسيوية “هذا المساء (السبت) شاركنا في حدث تاريخي”… ويرافق غوردون وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون التي وصلت مساء السبت إلى لندن في إطار جولة لمدة خمسة أيام على ست مدن أوروبية. وقبل وصولها إلى لندن، شاركت كلينتون في زوريخ بسويسرا بحفل توقيع الاتفاقات التركية-الأرمنية… ومن ناحيته، قال مسؤول أمريكي كبير إن أوباما “متحمس” للاتفاق وهو يعتبره بأنه “خطوة كبرى إلى الأمام”… من جهتها، نددت أذربيجان الأحد باتفاق التطبيع بين أرمينيا وتركيا وحذرت في الوقت نفسه من أن فتح الحدود الأرمنية التركية قد يتسبب بزعزعة الاستقرار في جنوب القوقاز… وقالت وزارة الخارجية الأذربيجانية في بيان “إن تطبيع العلاقات بين تركيا وأرمينيا قبل انسحاب القوات الأرمنية من المنطقة الأذربيجانية المحتلة يتناقض بشكل مباشر مع مصالح أذربيجان ويلقي بظلاله على العلاقات الأخوية بين أذربيجان وتركيا المبنية على جذور تاريخية”… إيلاف، السبت 10 تشرين الأول/أكتوبر 2009) انتهى.
6- ولكن تركيا أردوغان حاولت خداع أذربيجان بمعسول الكلام دون الأفعال، فهي لم تضع أي شرط في الاتفاق لانسحاب أرمينيا من قرا باغ بل وافقت عليه كما هو! لكن بعد تسع سنوات؛ في آذار 2018، وبضغط من روسيا، فقد ألغت أرمينيا الاتفاق رسميا بسبب خضوعها للنفوذ الروسي. وبذلك ضاعت الفرصة على أمريكا بأخذ أرمينيا من روسيا بواسطة هذا الاتفاق مع تركيا، بل قامت روسيا بتعزيز نفوذها في أرمينيا فعززت ترسانتها الصاروخية في قاعدتها قاعدة غيومري الأرمينية، ومن ثم وقعت اتفاقية دفاع جوي مشترك في كانون الأول 2015 مع أرمينيا فنشرت سربا من طائرات ميج 29 وآلاف الجنود والمدرعات وأنظمة الدفاع الجوية والصاروخية بعيدة المدى من طراز إس300 إلى جانب دفاعات جوية متوسطة المدى من طراز إس إي-6. وقد أدخلتها روسيا في سوقها “الاتحاد الأوراسي الاقتصادي” الذي دخل حيز التنفيذ يوم 1/1/2015 بجانب بيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزستان. فأصبحت هذه الدول بما فيها أرمينيا سوقا لتصريف المنتوجات الروسية تحت مسمى حرية حركة السلع والخدمات في كافة المجالات ويعتبر الناتج المحلي الإجمالي لهذه السوق أكثر من 5 تريليون دولار أمريكي، وأغلبه لصالح روسيا.
7- بعد كل ذلك عادت أمريكا تبحث عن طرق أخرى لتعزيز نفوذها في أذربيجان وإضعاف النفوذ الروسي فيها ومن ثم الولوج إلى أرمينيا. فأوعزت لتركيا بتعزبز علاقاتها العسكرية بجانب العلاقات الاقتصادية والسياسية مع أذربيجان لتعزيز النفوذ الأمريكي وللضغط على أرمينيا حتى تفتح الأبواب للنفوذ الأمريكي، إلى أن حصلت الاشتباكات الأخيرة في تموز الماضي وكأنها عمل مقصود ليتخذ ذريعة لتركيا لتتدخل عسكريا وترسل قوات للتدريب وللمناورات المشتركة، ومن ثم تعقبها الاشتباكات الأخيرة العنيفة وإعلان حالة الحرب لدى الطرفين. فكتب الرئيس التركي أردوغان عقب هذه الاشتباكات مباشرة يوم 27/9/2020 على حسابه في موقع تويتر (“إن المجتمع الدولي يتعامل بازدواجية ولم يستطع أن يظهر ردة فعل كافية ومطلوبة تجاه الهجمات الاستفزازية الأرمينية. وإن الثلاثي في مجموعة مينسك بعيد جدا مع الأسف عن التصرف نحو الحل فهو مستمر في موقفه الذي يهمل القضية منذ 30 سنة تقريبا”، وقال: “إن إحلال السلام في المنطقة يكون بخروج القوات الأرمينية من الأراضي الأذرية المحتلة عام 1992. وإن تركيا ستواصل الوقوف إلى جانب أذربيجان الصديقة والشقيقة… وكالة الأنباء التركية، 28/9/2020) ولكنه ظن أن الناس ينسون! فتناسى أنه قد أهمل كل ذلك وغض الطرف عنه عندما وقع ذلك الاتفاق، اتفاق السلام مع أرمينيا عام 2009 لخدمة أمريكا من دون أن يطالب بانسحاب القوات الأرمنية من الأراضي الأذرية، ولم يجر التطرق إلى ذلك ولو بكلمة واحدة!
8- وعندما ألغت أرمينيا هذا الاتفاق بعد تسع سنوات من توقيعه، ومن ثم لم تستطع أمريكا الولوج إلى أرمينيا، عاد أردوغان مرة أخرى يطالب بانسحاب القوات الأرمنية من هذه الأراضي المحتلة. وانتقد صديقه العزيز بوتين كما يصفه، كما انتقد ماكرون فقال (“تحدثت في هذا الأمر مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لكن دون نتيجة”… وكالة الأنباء التركية 1/10/2020)، ولم ينتقد صديقه وحليفه ترامب كما يصفه أيضا، وكيف ينتقده وهو المحرك من وراء ستار بل من أمامه؟! حتى وإن تلاعبت أمريكا بالأساليب الدبلوماسية فأمرها مكشوف لكل صاحب بصر وبصيرة… ومن ذلك إعلان الرئيس الأمريكي ترامب في مؤتمر صحفي مساء يوم 27/9/2020 أن (“أمريكا ستسعى إلى وقف أعمال العنف التي اندلعت بين أرمينيا وأذربيجان”. ولكنه قال: “لدينا قدر كبير من العلاقات الجدية في هذا المجال، سنرى ما إذا كان بإمكاننا وقفه”… الجزيرة 27/9/2020)، أي أنه سيوقفها عندما يرى ضرورة في إيقافها، ولم يقل إنه سيمارس الضغوطات ويضع كل ثقل أمريكا للضغط على الطرفين لإيجاد حل، وإنما خفف ذلك بقوله “إذا كان بإمكاننا وقفه” وهي الدولة التي إذا أرادت تنفيذ شيء ما تضع كل ثقلها وتمارس ضغوطاتها! وجاء في بيان وزارة الخارجية الأمريكية أنها (“تدين بأشد العبارات هذا التصعيد وأن نائب وزير الخارجية ستيفن بيجون حث وزيري خارجية أذربيجان وأرمينيا على وقف الأعمال العدائية وعلى التعاون مع الرؤساء المشاركين في مجموعة مينسك بهدف العودة إلى المفاوضات الموضوعية في أقرب وقت وأكد التزام واشنطن بمساعدة الجانبين على تحقيق تسوية سلمية ومستدامة للنزاع”… الجزيرة القطرية والعالم الإيرانية، 27/9/2020) فقد سوى بين الطرفين الأذري والأرمني في المطالبة بوقف الأعمال العدائية، لأن الموقف الأمريكي يستهدف البلدين لتعزيز النفوذ فيهما وإضعاف أو إزالة النفوذ الروسي منهما. وكل ذلك يدل على أن أمريكا راضية ضمنيا عن تحركات تركيا وأنها تحركت نحو أذربيجان بإيعازات أمريكية، وإلا فما الداعي لاتصال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالين يوم 29/9/2020 مع مستشار الأمن القومي الأمريكي روبرت أوبراين كما نقلتها وكالة الأناضول حول موضع الصراع بين أذربيجان وأرمينيا لولا أن أمريكا هي التي تحرك الأمور؟
9- ثم إن تأكيد أردوغان والمسئولين عنده بالتفاوض لتطبيق قرارات مجلس الأمن الجائرة وقرارات مجموعة مينسك التي انبثقت عن منظمة الأمن والتعاون الأوروبي عام 1992 وقادتها هم أمريكا وروسيا وفرنسا… مع أن هذه القرارات هي لحساب الأرمن وتأمين وقف إطلاق النار لصالحهم. كل هذا يؤكد أن هناك عملا مقصودا لتسخين الأجواء حتى تأخذ الأعمال السياسية والدبلوماسية طريقها لممارسة الضغوط كما تريدها أمريكا، فكثيرا ما تكون الحروب وسيلة لتحريك الأعمال السياسية والدبلوماسية وهي مرتبطة بإيعازات أمريكية، وقد بدأت المناداة من كافة الأطراف بوجوب التفاوض وإيجاد حل سياسي للقضية وتطبيق قرارات مجلس الأمن. وقد توالت التصريحات من المسؤولين في تركيا بدعم أذربيجان على أساس حل المسألة استنادا لقرارات مجلس الأمن. فقال وزير الخارجية جاويش أوغلو خلال زيارته السفارة الأذرية في أنقرة (“إن قرارات الأمم المتحدة والمجلس الأوروبي ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبية حول وحدة التراب الأذربيجاني واضحة وإن لم تنسحب أرمينيا فإن المسألة لن تحل”… الجزيرة 29/9/2020). مع العلم أن هذه القرارات لم تتطرق إلى مرتفعات قرا باغ نهائيا وإنما للأراضي الأخرى مما يشير إلى التواطؤ على قضية أذربيجان.
10- إن روسيا تقف وراء أرمينيا البلد صغير المساحة والسكان والقوى والمقدرات بالنسبة لأذربيجان. فروسيا هي التي تمول وتدعم أرمينيا بالسلاح والعتاد وكل ما يلزم للبقاء، وهي عضو في منظمة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا ولها وجود عسكري كبير هناك فمن الصعب أن تتخلى عنها وإلا يصبح ظهرها من هذه الجهة مكشوفا ويمهد للوصول إلى شمال القوقاز الذي هو جزء من روسيا الفدرالية. فقد أعرب وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف خلال حديث تلفوني مع نظيره الأرمني زوهراب مناتساكانيان عن “قلقه إزاء الأعمال العدائية في قرا باغ مشددا على ضرورة وقف إطلاق النار” (سبوتنيك، 27/9/2020) مما يشير إلى الدعم الروسي لأرمينيا ضد أذربيجان. فعندما تدين تركيا أرمينيا يجب أن تدين روسيا الداعم الرئيس الذي يفرض نفوذه هناك ويحمي أرمينيا، حيث لا تجرؤ أرمينيا على العدوان إلا بدعم روسي. فالذي يدعم العدو هو أيضا عدو. ولكن تركيا أردوغان تقيم أفضل العلاقات مع العدو الروسي وتتحالف معه في سوريا ضد أهلها المسلمين الثائرين على نظام الإجرام برئاسة بشار أسد. وهي في الوقت نفسه آلة أمريكية للتلاعب بروسيا واستخدامها لحساب المصالح الأمريكية. ولكن روسيا ليس من السهل أن تتنازل في منطقتها الحيوية كما حصل في أوكرانيا وجورجيا. ولهذا فإن الصراع لن يحسم في هذه المعركة وستأخذ الأعمال السياسية والدبلوماسية طريقها فهي أنجع في خداع روسيا.
11- وأما وجود فرنسا هناك فهو مختلف، فلا يوجد لها هناك أي نفوذ، وتحاول أن تبرز نفسها كدولة كبرى، وتريد أن تحافظ على عضويتها في مجموعة مينسك التي تشكلت عام 1992 حسب قرار من مجلس الأمن والتعاون الأوروبي للنظر في حل قضية النزاع الأذري الأرمني وتأمين وقف إطلاق النار بشكل دائم. وهي تقف في وجه تركيا التي تعرقل النفوذ الأوروبي ومنه الفرنسي، لكون تركيا تدور في فلك أمريكا. فقد ذكر ماكرون في مؤتمر صحفي في لاتفيا يوم 30/9/2020 (علمت بالإعلانات التركية “المؤيدة لأذربيجان” والتي أعتقد أنها متهورة وخطيرة. لا تزال فرنسا تشعر بقلق بالغ من الرسائل المولعة بالحرب التي بعثت بها تركيا في الساعات الماضية، والتي تزيل أي عقبات أمام أذربيجان لغزو ناغورنو كرا باغ مجددا، ونحن لن نقبل هذا” (رويترز، 30/9/2020) ورد عليه وزير خارجية تركيا جاويش أوغلو يوم 30/9/2020 قائلا “إن تضامن فرنسا مع أرمينيا يصل إلى حد دعم الاحتلال الأرميني في أذربيجان” (الأناضول، 30/9/2020) وتحاول فرنسا أن تظهر بمظهر الوسيط (النزيه) في موقف متناقض وهي الدولة التي لا تتقن المناورات السياسية فموقفها دائما مكشوف وإذا حاولت إخفاءه فيظهر فيه التناقض. ففي بيان أصدرته عقب الاشتباكات قالت المتحدثة باسم الخارجية الفرنسية فون دير مول: “فرنسا تشعر بقلق عميق إزاء الاشتباكات واسعة النطاق في قرا باغ والتقارير عن سقوط ضحايا، لا سيما في صفوف المدنيين وتدعو إلى وقف فوري للأعمال العدائية واستئناف الحوار” وقالت: “إن فرنسا وبصفتها تتشارك برئاسة مينسك تؤكد مع شركائها الروس والأمريكيين على التزامها للتوصل لحل تفاوضي للصراع في إطار القانون الدولي” (سبوتنيك، 27/9/2020). وفي الوقت نفسه فإنها تندفع بحقد ظاهر على الإسلام والمسلمين دائما، سواء أكان في داخلها إذ تدّعي إطلاق الحريات ومن ثم تضيقها على المسلمين في موقف متناقض مفضوح، أم كان في خارجها، وهي تتبنى قضايا الأرمن وغيرهم من النصارى لتستغلهم في إيجاد نفوذ لها، وهم من السهل خداعهم، فقد خدعتهم أثناء الحرب العالمية الأولى وحرضتهم على الدولة العثمانية التي رعتهم رعاية حسنة طوال قرون، فوعدتهم فرنسا بوطن في الأناضول فخانوا الدولة العثمانية وقتلوا الكثير من المسلمين بتحريض من فرنسا. وكانت مصلحتهم لو يعقلون أن يبقوا أهل ذمة آمنين في ظل دولة الإسلام التي تنصفهم ولا تستغلهم كما تفعل فرنسا وغيرها من الدول الاستعمارية.
12- وبالنسبة لقرارات مجلس الأمن التي تطالب الدول بتطبيقها ومنها تركيا نفسها فإنها لم تتطرق لإقليم قرا باغ الذي سيطر عليه الأرمن وأعلنوا جمهورية فيه، فأول قرار صدر يوم 30 نيسان عام 1993 تحت رقم 822 طالب بوقف الاشتباكات والأعمال القتالية فورا، وطالب بوقف دائم لإطلاق النار. وطالب قوات الاحتلال الأرمنية بالانسحاب من منطقة زانغيلان ومدينة غوراديز كيليجدار وغيرها من المناطق الأذرية، ولم يتطرق لإقليم قرا باغ المحتل. وهناك قرارات أخرى صدرت في السنة نفسها تؤكد هذا القرار، فصدر قرار رقم 853 يوم 29 تموز 1993، أكد القرار السابق وأدان الاستيلاء على مقاطعة آغدام والمناطق الأخرى من أذربيجان مطالبا بالانسحاب الكامل من هذه المناطق من قبل الأرمن وطالب حكومة أرمينيا أن تضغط على إقليم قرا باغ للامتثال لقرار 822. وفي هذه السنة نفسها يوم 14 تشرين الأول صدر قرار رقم 874 وكرر دعمه لعملية السلام بين الجانبين ودعا إلى قبول الجدول الزمني المعدل للخطوات العاجلة. فرفضته أذربيجان لأنه ربط انسحاب القوات الأرمينية في قرا باغ من الأراضي الأذربيجانية المحتلة برفع الحظر المفروض على أرمينيا، فاشتكت الحكومة الأذربيجانية من معاملتها مثل الجانب المهزوم، وتضمن الجدول الزمني المعدل مقترحات تتعلق بسحب القوات من الأراضي المحتلة حديثا وإزالة جميع العقبات أمام الاتصالات والنقل وجميع القضايا الأخرى التي لم يتم تناولها بحسب المجلس، فيجب تسويتها من خلال المفاوضات السلمية. وفي يوم 12 تشرين الثاني من السنة نفسها، سنة 1993، صدر قرار رقم 884 وأكد القرارات السابقة وأدان انتهاكات وقف إطلاق النار بين الطرفين ولا سيما في زنغيلان ومدينة هورادز. ودعا قوات الاحتلال الأرمينية إلى الانسحاب من منطقة زانغيلان ومدينة غوراديز وانسحاب قوات الاحتلال من الأراضي التي احتلتها من أذربيجان… ولم تشر قرارات مجلس الأمن كلها إلى الانسحاب من قرا باغ. فصيغت القرارات بشكل مدروس يركز على أراض أذربيجانية خارج منطقة قرا باغ واعتبار هذه المنطقة ضمنيا ليست أراضي أذربيجانية. ومعنى ذلك إذا صارت مفاوضات ومن ثم اتفاق فسوف تبقى هذه المنطقة، منطقة قرا باغ بشكل معين، تحت سيطرة الأرمن مقابل أن ينسحبوا من الأراضي الأذرية. وتركيا تطالب بتطبيق هذه القرارات التي لا تطالب بانسحاب الأرمن من إقليم قرا باغ، كما طالبت بتطبيق قرارات مجلس الأمن في سوريا والتي لا تمس النظام بل تؤكد بقاءه والحفاظ على هويته العلمانية، وكما طالبت بتطبيق حل الدولتين في فلسطين الذي يقر اغتصاب يهود لنحو 80% من فلسطين… وهكذا أصبحت قضية قرا باغ تراوح مكانها فكان وقف إطلاق النار بمثابة نصر للأرمن. ولم تعلن مجموعة مينسك عن كيفية الحل وعما يجري عليه التفاوض سوى استخراجها لقرارات مجلس الأمن تلك، ولكن يفهم من السياق ومن الأوضاع والملابسات أنهم يريدون أن ينتزعوا اعترافا من أذربيجان للاحتلال الأرمني لمحافظات إقليم قرا باغ الخمس حيث أفرغت من أهلها المسلمين بالكامل وحل محلهم كفار من النصارى الأرمن، حتى تنسحب أرمينيا من المحافظات الخمس الأخرى والمناطق المحتلة من محافظتي آغدام وفضولي، وهكذا تصفى القضية. كما حصل في فلسطين؛ حيث انتزع اليهود ومن ورائهم أمريكا اعترافا من منظمة التحرير الفلسطينية والأنظمة القائمة في البلاد العربية والإسلامية باغتصاب يهود لنحو 80% من فلسطين وصار يجري التفاوض على نحو 20% من الأراضي التي يحتلها يهود منذ عام 1967 بل التي سلمت لهم من قبل الحكام الخونة، وذلك عندما قبلوا بوقف إطلاق النار وقبول قراري 242 و243 الصادرين من مجلس الأمن واللذين يقضيان بانسحاب كيان يهود فقط من أراضٍ احتلها بل سلمت له يوم 5 حزيران من تلك السنة.
13- فهذا الاهتمام التركي لا يبشر بخير، فكلما تدخلت تركيا أردوغان في قضية يكون ذلك على حساب أهلها ولصالح أمريكا كما حصل في سوريا، إذ مارست تركيا ضغوطاتها على الفصائل المسلحة حتى تقبل باتفاقية خفض التصعيد ووقف إطلاق النار والذي لم يلتزم بها النظام السوري ولا من يدعمه مباشرة من النظام الإيراني وأشياعها وروسيا حتى أخرجت هذه الفصائل منها وسُلمت للنظام، وكذلك ما حصل في ليبيا إذ قدمت الدعم لحكومة السراج حتى إذا تقدمت قوات السراج نحو سرت والجفرة فقامت تركيا وأوقفت الدعم وطالبت السراج بقف إطلاق نار دائم والتفاوض مع الطرف الآخر طرف حفتر الذي تعتبره تركيا غير شرعي! فلا يستبعد أن يكون الدعم التركي لممارسة الضغوطات على أذربيجان لتليين موقفها، وهذا ما تشير إليه تصريحات المسؤولين الأتراك، حيث إنه لم يتم كسر الجمود في المفاوضات التي تقودها مجموعة مينسك وخاصة أمريكا، حتى تقدم أذربيجان تنازلات في موضوع قرا باغ، بينما تكرر تعهدها باستعادة قرا باغ بالقوة من المحتلين، وتعتبره أمريكا وروسيا وفرنسا كأنه أقليم أرمني حسب لهجة خطابهم ووسائل إعلامهم المؤيدة للأرمن دائما وقرارات مجلس الأمن التي تصدرها هذه الدول الثلاث وتوافق عليها الدول الأخرى في المجلس. وقد شكلت في الإقليم جمهورية خاصة به وكأنها مستقلة عن أرمينيا، حتى تصعّب المفاوضات فلا يتنازل هذا الإقليم عن كيانه المستقل! وحتى لا تكون أرمينيا مسؤولة مباشرة وتتملص من الضغوطات إذا مورست عليها. إن موقف تركيا أردوغان لا يعول عليه في هذه القضية وفي غيرها، حيث لم يقدم الدعم منذ الحرب التي اندلعت بين الطرفين قبل ثلاثين عاما وبقيت أذربيجان وحدها، فلم تنتصر لها، ولهذا يخشى أن يكون الدعم الأخير بمثابة فرض هيمنة على القرار الأذري ومن ثم التنازل!
14- إن أذربيجان بلد إسلامي وأغلبية أهله هم مسلمون، إلا أن نظامه علماني، وهو امتداد للنظام الشيوعي السابق في إبعاد الدين عن الدولة وعن المجتمع. ولقد فتح هذا البلد مع أرمينيا على عهد الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه. فلا يعول على تركيا ولا على إيران لإنقاذ بلاد الإسلام وتحريرها من قبضة أمريكا أو روسيا بل إنهما يتعاونان معهما. ولا خلاص للمسلمين إلا بعودة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة التي بشر بها رسول الله ﷺ: «إِنَّكُمْ فِي النُّبُوَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً عَاضّاً، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ»، صدق رسول الله ﷺ.