إن سبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها تونس تكمن في النظام الاقتصادي الرأسمالي وتشريعاته التي تجعل المال يتجمع في يد الأغنياء ويحرم منه الفقراء، وتجعل الدول الكبرى تسيطر على ثرواتنا ومقدراتنا تصادر قرارنا السياسي وخياراتنا التنموية.
ولا خلاص لنا إلا بتبني نظام الإقتصاد في الإسلام الذي ضمن من خلال سياسته الاقتصادية إشباع جميع الحاجات الأساسية لجميع أفراد المجتمع إشباعا كليا، ووضع الخطوط العريضة للسياسات المتعلقة بمصادر الاقتصاد الأربعة (الزراعة، الصناعة، التجارة، وجهد الإنسان)، بما يؤثر على التنمية الاقتصادية التي يمكن معالجتها على أساس زيادة الإنتاج الزراعي مقترنة بثورة في الإنتاج الصناعي بحيث تكون الصناعة رأس الحربة في النمو الاقتصادي, وهو ما يمكن معالجته في أربعة أبحاث: السياسة الزراعية، السياسة الصناعية، تمويل المشاريع، و إيجاد أسواق خارجية.
أما السياسة الزراعية فقد وقع تناولها في العدد السابق، وملخصها أن الأرض وجدت لتنتج وبأعلى مستوى، لذلك سن الإسلام في تشريعاته أحكاما تجعل الملكية متحققة إذا وجد الإنتاج، وباقية ما بقي الإنتاج، ويجعلها تزول إذا لم يتحقق الإنتاج بغض النظر عن سعة المساحات المملوكة أو قلتها، وبغض النظر عن مساواة الناس في ملكيتها وعدم مساواتهم.
تميز الإسلام في إنشاء المشاريع
وبالرغم من أن زيادة الثروة (التنمية الاقتصادية) بإيجاد المشاريع الاقتصادية غير متعلقة بوجهة النظر في الحياة، وإنما هي مبنية على الناحية الفنية والعلمية وهي واحدة بين جميع البشر، إلا أن وجهة النظر تؤثر على اتجاه السير في إنشاء تلك المشاريع أي من حيث الملكية.
من هنا جاء تميز الإسلام عن غيره من الأنظمة، فالأحكام الشرعية المتعلقة بالأراضي جعلت المشاريع الزراعية على كاهل الأفراد، أي جعلت الأرض ملكية فردية ليس غير وعالجت ملكية الأرض بما يضمن الإنتاج الزراعي، فكان الإحياء والتحجير والإقطاع سببا من أسباب تملك الأراضي، زيادة على ملكيتها بما يملك به أي مال آخر من شراء، وأرث، وهبة، كما جعل استغلالها جزءاً لا يتجزأ من ملكيتها، فإذا لم يحصل مدة ثلاث سنوات تسقط الملكية، وأجبرت مالك الأرض على استغلالها و منعته من تأجيرها للزراعة منعاً باتاً.
دور الدولة
أما دور الدولة فيظهر في الإشراف العام على تحقيق تلك السياسة الزراعية، بالتوسيع والتعميق والتوجيه نحو بعض الزراعات الإستراتيجية لتحقيق الأمن الغذائي والكسائي ولتوفير العملة الصعبة.
المراد ثورة صناعية لا زراعية
هذا من حيث زيادة الإنتاج. أما من حيث مشاريع العمران من مثل السدود والأقنية والآبار الارتوازية وما شاكل ذلك فإنه لا يصح أن يقام بهذه المشاريع في الوقت الحاضر إلا بما هو ضروري ولا يمكن الاستغناء عنه، وإلا إصلاح وترميم ما هو موجود. وذلك لأنه ليس المراد القيام بثورة زراعية في البلاد، بل المراد القيام بثورة صناعية والعناية بالثروة الزراعية عناية كافية لزيادة الإنتاج. لأن الهدف الاقتصادي هو إيجاد التقدم المادي، وهو لا يكون إلا بالثورة الصناعية، بحيث تكون الصناعة رأس الحربة في النمو الاقتصادي.
الصناعة تأخذ حكم ما تنتجه
جاء الإسلام فبيّن أحكام المصانع بأن الأصل فيها أنها ملكية فردية، حيث أقر الرسول صلى الله عليه وسلم الملكية الفردية للمصانع سواء أكانت مصانع معادن أم مصانع نجارة أم غيرها، فقد روي عنه أنه استصنع خاتماً، ومنبرا عند من يملك المصنع ملكية فردية.
غير أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد حرم عصر الخمر وهو صناعة، عن أنس قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخمرة عشرة: عاصرها ومعتصرها..» الحديث
فصناعة العصر مباحة سواء أكانت عصر عنب أو برتقال أو تفاح أو غير ذلك ولكن عصر الخمر هو الحرام، فجاءت حرمة هذه الصناعة من حرمة الإنتاج الذي تنتجه، وهذا دليل على أن الصناعة تأخذ حكم ما تنتج، والمصنع يأخذ حكم ما يصنع.
وبناء على هذه القاعدة قاعدة (الصناعة تأخذ حكم ما تنتجه) تكون صناعة الأشياء المحرمة كصناعة الصلبان والحشيش والأفيون ممنوعة، وتكون صناعة الأشياء الداخلة في الملكية العامة كاستخراج النفط مثلاً من الملكية العامة، بمعنى أن لا يملك الأفراد أن يباشروا صنع شيء محرم كالتماثيل ولا صنع شيء يدخل في الملكية العامة ليكون ملكية فردية لهم تسلب عنه خاصية كونه ملكية عامة كاستخراج الحديد مثلاً.
القطاع العام والقطاع الخاص مبتوت فيه شرعاً
وعلى ذلك ينظر في المصانع، فإن كانت المواد التي تصنع فيها ليست من المواد الداخلة في الملكية العامة تبقى المصانع على أصلها أملاكاً فردية كمصانع الحلويات ومصانع النسيج ومصانع السيارات وما شابه ذلك. أما إن كانت المصانع لصنع المواد الداخلة في الملكية العامة كمصانع استخراج النفط والغاز والفسفاط والمعادن بمختلف أنواعها وما شابهها فإنها تكون ملكاً عاماً ولا تدخل في الملكية الفردية، ويمنع الأفراد من ملكيتها، أي يكون حكمها حكم ما تصنعه، والمعادن التي لا تنقطع ملكية عامة فتكون مصانعها ملكية عامة.
السياسة الصناعية
تقوم السياسة الصناعية على جعل البلاد من البلاد الصناعية، ويسلك إلى ذلك طريق واحد هو إيجاد صناعة الآلات أولاً (من موتورات وغيرها)، ثم بعد توفر الآلات من صناعة البلاد تؤخذ هذه الآلات وتصنع منها باقي المصانع.
فالمطلوب إيجاد ثورة صناعية، والثورة الصناعية هي تسلم زمام رأس الصناعة ومنبعها وهي صناعة الآلات بعملية انقلابية في الصناعة، وهي عدم التلهي بأي صناعة بل بأي عمل اقتصادي قبل تسلم زمام رأس الصناعة وجعل الجهود الاقتصادية كلها موجهة لإيجاد صناعة الآلات، ولا يقام بأي شيء سوى الضروريات وسوى مالا بد منه لإيجاد صناعة الآلات.
فمثلاً توجد في البلاد منابع نفط، وتوجد فيها مناجم حديد، فإن الاشتغال بها عن إيجاد مصانع الآلات تعويق ومخالف للثورة الصناعية، فيجب أن يشترى الفحم الحجري والنفط من الغير، وأن يشترى الحديد الخام من الغير لتوجد مصانع الآلات أولاً، ومنها توجد مصانع استخراج النفط ومصانع استخراج الحديد. وعليه فإن الثورة الصناعية تقتضي أن يبدأ في الحال بإيجاد مصانع الآلات وأن لا يشتغل في صناعة غيرها على الإطلاق حتى توجد الآلات وتؤخذ منها آلات المصانع الأخرى.
التصنيع يعني التحرر، يعني استعادة السيادة وامتلاك القرار
إن الواقع الذي تعيشه البلاد يحتم عليها القيام بالثورة الصناعية في الحال فالانفصال عن الغرب الذي يبسط نفوذه على بلادنا لا يتم إلا إذا حصل الاستغناء عن الغرب، وما دمنا في حاجة لاستيراد الآلات والمصانع منه فإنه ستظل لدى الغرب الفرص لإعادة ربطنا به، بل لإعادة نفوذه وسيطرته. لذلك كان القيام بالثورة الصناعية أمراً حتمياً. وهذا يعني المبادرة إلى إقامة صناعة الآلات رأساً وبدون تدريج بل بشكل انقلابي حتى يكون العمل ثورة صناعية صحيحة.
تاريخيا: الثورة الصناعية لم تحصل إلا بصناعة الآلات
إن تاريخ الدول الصناعية يبين أن أوروبا حين حصلت فيها الثورة الصناعية إنما حصلت حين وجدت فيها صناعة الآلات، وإن أميركا وقد كانت مستعمرة لعدة دول إنما تقدمت مادياً حين حصلت فيها الثورة الصناعة بصناعة الآلات، وإن روسيا لم تكتمل ثورتها الشيوعية ضد القيصرية إلا بعد أن حصلت فيها الثورة الصناعية بصناعة الآلات.
مزايا التصنيع
إن صناعة الآلات في البلاد لها عدة أسباب تدعو للتعجيل بإيجادها، فمن الناحية التجارية يعتبر التعجيل بإيجاد مصانع الآلات أمراً ضرورياً لكسب السوق المفتوحة في إفريقيا و الشرق الأوسط التي لا مزاحم لنا فيها إذا ما وجدت عندنا صناعة الآلات، كما أن شراء المصانع والآلات من الخارج يكلفنا ثمناً غالياً وهي تباع لنا بأسعار عالية، ولكن إذا أوجدنا نحن مصانع الآلات والنفط متوفر في بلادنا فنحصل على المصانع والآلات بأرخص من 80% مما نشتريها من أوروبا وأميركا، بالإضافة إلى أن كثيراً من المصانع عندنا يصيبها عطب بكسر الآلة أو جزءٍ منها فنضطر لاستيرادها من الخارج أو تتعطل الآلة كلياً. وهذا يكلفنا نفقات طائلة، فتوفيراً لهذه النفقات يجب أن نقوم بإنشاء صناعة الآلات.
أما الخطوات العملية لتحقيق الثورة الصناعية في بلادنا، من خلال تمويل المشاريع وإيجاد الوسط الصناعي القادر على صناعة الآلات، فهو ما سنتناوله في العدد القادم بإذن الله.
قال تعالى: ومن أحسن من الله حكما.
د. الأسعد العجيلي، عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير– تونس