الطفولة بين اليونيسف ومدرسة الرقاب

الطفولة بين اليونيسف ومدرسة الرقاب

بعيدا عن سجال أحداث مدرسة الرقاب وما ترشح منها من أخبار وتسريبات، فان أهم ما يمكن الإشارة اليه في ذات السياق موضوع الحقوق والحريات في علاقة بموضوع الأطفال

ولن نُقدّم تعريفا لمفهوم الحقوق والحريات فهو متعدد وغير مستقر، وذلك لاختلاف المذاهب والرؤى والأنواع وعلاقة الحقوق بالحريات ,وحدود السلطة في علاقتها بالحقوق الطبيعية للأفراد, وغيرها من التفريعات والمفاهيم والمواثيق الدولية التي أُعلنت, المصادق عليها وما ينتظر المصادقة، والقوانين الجاري بها العمل وما شملها من تنقيحات حين الضرورة او حين الطلب…وإذا تجاوزنا مناقشة ما هو مفاهيمي (وليس عجزا (وإنما يكفي الإشارة لسؤال أوّلي قبل التفريع: ماهي الحقوق الطبيعية؟ لنجد ان جواب السؤال المناسب سيتعدّد وسيُختلف فيه… وسنجد عند عباقرة مثقفينا وحقوقيينا سوى مجهود نقل الاجابة وفي أقسى الحالات الترجمة… وهكذا يصبح التساؤل المناسب الأصح عنه هو: كيف فهِمها مفكر معيّن مثل هوبز أو لوك أو روسو؟ وما هو الناظم الفكري لهاته الفكرة؟وما هي المهمّات التي كُلف بالقيام بها في نظامه السياسي؟ وهل نجحت في القيام بهذه المهمّات نظريًا على الأقل؟

ويبقى للأتباع سؤال الاستنكار: هل لعاشقي هذه المفاهيم عندنا من حظّ إلّا الحفظ والنقل بدون تفكير فيها !!ناهيك عن التفكير بها؟؟

وللإجابة على هاته الأسئلة بما هو واقعي والذي تُصدّقه الأحداث والوقائع والأرقام والإحصائيات، حيث أنّ فكرة الحقوق والحريات) منها حقوق الطفل (وإن ضُمّنت في أدبيات النظام التي يتمثل في الدستور سواء عند الدول الكبرى الصائغة للاتفاقات، او غيرها من الدول المُستوردة والموقعة على الاتفاقات الدولية والمعاهدات إلاّ أنها بقيت حبرًا على ورق.

ولم تكتفي بعض الدول بتضمين قوانينها موادا تحمي حقوق الطفل بل حرصت على وضع مواد في دساتيرها لنفس الغرض رغم كل هذه القوانين تبقى حقوق الأطفال نظرية في كثير من الدول، بل إن منظمة اليونيسيف المختصة بالأمومة والطفولة تقف عاجزة تماماً ولا تملك آليات محددة لوقف معاناة ملايين الأطفال والأمهات حول العالم خصوصاً في الدول التي تعصف بها النزاعات والحروب والاقتتال الداخلي… وتقف عاجزة تماما خاصة أمام همجية وتوحش الرأسمالية التي لا تراعي لا الكبير ولا الصغير إلّا من يملك المال فقط.

فاتفاقية اليونسكو تعتبر اتفاقية حقوق الطفل الصك القانوني الدولي الأول الذي يلزم الدول الأطراف من ناحية قانونية بدمج السلسلة الكاملة لحقوق الإنسان، أي الحقوق المدنية والسياسية، إضافة إلى الحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية…ففي عام 1989 أقرّ زعماء العالم بحاجة أطفال العالم إلى اتفاقية خاصة بهم، تتمثل مهمة اليونيسف في حماية حقوق الأطفال ومناصرتها لمساعدتهم في تلبية احتياجاتهم الأساسية وتوسيع الفرص المتاحة لهم لبلوغ الحد الأقصى من طاقاتهم وقدراتهم. وتتضمن الاتفاقية 54 مادة، وبروتوكولين اختياريين. وهي توضّح حقوق الإنسان الأساسية التي يجب أن يتمتع بها الأطفال وهذه الحقوق هي: حق الطفل في البقاء، والتطور والنمو إلى أقصى حد، والحماية من التأثيرات المضرة، وسوء المعاملة والاستغلال، والمشاركة الكاملة في الأسرة، وفي الحياة الثقافية والاجتماعية.

هذه النصوص الورديّة على اختلاف نصوصها ومواضعها تجعل المسؤولية رأساعلى الوالدين وتجعل مهمة الدولة كما هو في النظام الرأسمالي دور الرقابة والاشراف العام،فتتخلى عن دورها الرعوي وترمي بالعائلة في ماكينة الرأسمالية تدبّر أمرها، فإن عجزت وهو الحال الأغلب أو حافت عن دورها اضطرارا حين الخصاصة او حين الجهل، تدخلت الدولة بوجه تُسميه تدخلا اجتماعيا أو سياسةاجتماعية. فيكون التعليم الإلزامي بدون معنى أو هدف، وفي أحسن الحالات يكون تحضيرًا لمورد بشريّ يصلُح للإنتاج،ويكون منع التعدي المادي مهما كان نوعه لاحقا للكارثة التي تحصل وليس معالجة، أما حق التعبير والمشاركة وغيره من الكلام الأجوف فتجيب عليه الديمقراطية ” قل ما شئت ونحن الرأسماليون نفعل ما نريد” !!

وبذلك الدولة الرأسمالية تتخلى عن دورها بالأصالة وتتدخل ترقيعا … فتخسر العائلة ابتداء حتى النهاية ويضيع الطفل بينهما،وتنأى الرأسمالية بنفسها، وتأتي أرقام الأمم المتحدة عبر اليونيسف لتشير لهاته النتائج:

ففي التعليم تشير المعطيات الى أنّ 63مليون طفل في سنّ المرحلة الابتدائية (بين 6 و11 عاماً) غير ملتحقين بمدارس…و61 مليون مراهق في المرحلة المتوسطة (بين 12 و14 عاماً) غير ملتحقين بمدارس… وحوالي 139 مليون في سن المرحلة الثانوية (من 15 إلى 17 عاماً) غير ملتحقين بمقاعد الدراسة… و50في المائة من الأطفال غير الملتحقين بالمدارس هم من الفتيات (موقع اليونيسف)

لتتحوّل الطفولة الى يد عاملة تخدم الرأسمالية،حيث ان عدد الأطفال في العالَم (ممَّن تتراوح أعمارهم بين 5 سنواتو17 سنة) نحو 218 مليون طفل، منهم 152 مليون طفل مُلتحِقون بالعمل73 مليون طفل منهم يشتغلون بالأعمال الخَطِرة… ويعمل حوالي 72.1 مليون طفل في قارّة أفريقيا وحدها، ونحو 62.1 مليون في آسيا، والمحيط الهادئ، و10.7 مليون طفل في القارَّتَين الأمريكيتين، و1.2 مليون طفل في الدُّول العربيّة، و5.5 مليون طفل في أوروبّا، وآسيا الوُسطى… ويعمل حوالي 71% من الأطفال في قطاع الزراعة المُتمثِّل بتربية الماشية، والأحياء المائيّة، وصيد الأسماك، وزراعة المحاصيل، ويعمل نحو 17% منهم في قطاع الخدمات، و12% في قطاع الصناعة، والتعدين.

اما عن حق البقاء والنماء ومنع الاعتداء، فيشكّل الأطفال حوالي نصف عدد الأشخاص الذين يعيشون على أقل من 1.90 دولار يوميا في جميع أنحاء العالم والذين يبلغ عددهم حوالي 900 مليون شخص. وتعاني أسرهم لتغطية كلفة التغذية والعناية الصحية الأساسية اللازمة لتوفير انطلاقة قوية لهؤلاء الأطفال وتترك أوجه الحرمان هذه تأثيراً مستمراً ففي عام 2014 عانى حوالي 160 مليون طفل من توقف النمو… (موقع اليونيسف)وقد كشفت منظمة الصحة العالمية في 2013 أن أكثر من 18 مليون طفل في أوروبا دون سن الخامسة عشرة يعانون من سوء المعاملة كل عام وأن 852 طفلاً يموتون سنوياً جراء سوء المعاملة، وشبّه التقرير حوادث الوفيات بقمة جبل الجليد، لأن ما خفي كان أعظم، إذ تبلغ نسبة الأطفال المعرضين للقسوة العاطفية 29.1 % والشاكين من تحرش بدني2.9%.

لقد قطع العالم وعداً قبلأكثر من25 عاماً بأن يقوم بكل ما بوسعه لحماية الأطفال ونشر حقوقهم، ورغم فشل اعلان الالفية للتنمية منذ 2000 الذي تناول الأطفال وحقوقهم، ومع اعتماد أهداف التنمية المستدامة عام 2015، تعهد قادة العالم مرة أخرى لإنهاء الفقر بحلول عام 2030!!ولكن تشير التحذيرات الأممية إلى انه ما لم تبذل جهودا متسارعة بحلول عام 2030:

فقد يموت ما يقرب من 70 مليونطفلقبلبلوغهمالخامسة3.6مليونفيعام 2030 وحده… وسيكون الأطفال في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى 10 مرات أكثر عرضة للوفاة قبل بلوغهم سن الخامسة مقارنة مع الأطفال في البلدان ذات الدخل المرتفع، وأنّ تسعة من كل 10 أطفال سيعيشون في فقر مدقع، وسيكون أكثر من 60 مليون طفل في سن التعليم الابتدائي خارج المدارس. (موقع الأمم المتحدة)

فهل ننتظر عدد سنين لنقف على حقيقة هذه الرأسمالية وتستُرها بلبوس الحقوق والحريات.

وبالنظر إلى هذه التشريعات التي صدر معظمها في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، تجد العالم النامي ومنه العربي في إتباع وتقليد أعمى، فيُصادقون على المعاهدات دون إمعان نظر وإنما تزلّفا وطمعا، ويسنُّون التشريعات من فصول دساتير وقوانين دون مراعاة خصوصية ولا اعتماد منهجية.  وان مان قلٌ، فوقه جهلٌ، فوقه خنوع، ظلمات بعضها فوق بعض… ولئن لم يختلف واقع الطفولة عندهم كما هو عند أسيادهم فإنهم لا يفوتون فرصة للتباهي بالريادة والتسابق لنيل ثنايا وعطايا من الغرب واعتبارها مكسبا تشريعيا رائدا انفردت به تونس في محيطها العربي والإسلامي والإفريقي !!

والعجيب في الأمر أنّ تونس قد احتلت “المرتبة الأولى عربيا والعاشرة عالميا، في مؤشر حقوق الأطفال لعام 2016، الذي أصدرته منظمة حقوق الأطفال وشمل 163 دولة، من بينها 17 دولة عربية… ويصنف المؤشر جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، التي صادقت على اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 حيث استندت المنظمة في التقرير إلى مؤشرات كالحق في الحياة، والحق في الصحة، والحق في التعليم، والحق في الحماية، والبيئة الملائمة لحقوق الأطفال” وهنا يرد سؤال: كيف لتونس التي احتلت رتبة عالمية متقدمة في مجال حقوق الأطفال أن يكون الوضع الحقيقي والواقعي فيها على خلاف ما تفترضه رتبتها العالمية؟
والجواب: أنّ التصنيفات العالمية التابعة لمنظمة اليونيسف تخضع لمقاييس نظرية غير عمليّة، فتونس التي تمتلك مجلة حماية الطفل الصادرة سنة 1995 ملأت مجلتها بقوانين تتماشى مع رؤية الغرب ونظرته إلى الطفولة، الأمر الذي يجعل الغرب بمؤسساته يميل إلى الثناء عليها وإبرازها كمجلة رائدة.

أما واقع الحال فيختلف كلّيا رغم ترسانة التشريعات

فيتعرض أكثر من 92 بالمائة من الأطفال التونسيين للعنف بمختلف أشكاله، وفق ما كشفته وزيرة المرأة والأسرة والطفولة نزيهة العبيدي، في تصريحات صحفية سنة 2016. وأضافت وزيرة المرأة والأسرة والطفولة التونسية أن 32 بالمائة من مجموع الأطفال الذين يتعرضون للعنف يعانون من العنف الجسدي داخل الإطار الأسري وخارجه،ولقد سبق وأن كشفت قضايا فاضحة متعلقة بالاستغلال الجنسي للأطفال في تونس كقضية الفرنسي الذي اغتصب 41 طفلا تونسيا، حيث تم الحكم على المتهم الفرنسي الذي اغتصب 66 طفلا بالسجن لمدة 16 سنة وقد صدر الحكم عن محكمة الجنايات بفرساي – باريس في الوقت الذي أوردت فيه الصحف الفرنسية تجاهل السلطات التونسية لهذه الحادثة وعدم مساعدتها للمحققين الفرنسيين في الكشف عن الضحايا… ومرّ الأمر بدون ضجيج إعلامي واستفاقة حقوقية ( كما شهدناه في حادثة الرقاب) ولا تفاعل رسمي !!

كما أكد التقرير السنوي لمندوبي حماية الطفولة لسنة 2014 والصادر في فيفري 2015 أن نسبة حالات التحرش الجنسي بالأطفال بلغت 52 بالمائة من مجموع 331 إشعارا في إطار الاستغلال الجنسي للطفل خلال سنة 2014 في حين بلغت نسبة حالات ممارسة الجنس مع الطفل حدود 35 بالمائة. وقد شهدت سنة 2014 ارتفاعا مقارنة بالسنوات السابقة من خلال 289 وضعية متعلقة بمظاهر الاستغلال الجنسي للأطفال… هذا على مستوى حال الحادثة.

هذا حول العنف، أما بقية المؤشرات فبالرغم من اعتماد تونس على قوانين تدّعي حماية حقوق الطفولة وتحدّد السن القانونية للعمل وتم تعزيزها العام الماضي بقانون يعتبر الوساطة وتشغيل الأطفال من بين جرائم الاتجار بالبشر، إلا أن الواقع الراهن يظهر استفحال ظاهرة استغلال القاصرات للعمل كمعينات منزليات ،حيث كشفت العديد من الإحصائيات الرسمية والتقارير الإعلامية أن زيادة نسب البطالة والفقر ساهمت في تفاقم الظاهرة وأن هؤلاء القاصرات يتعرضن للعنف وسوء المعاملة وأحيانا للتحرش الجنسي.

أما عن التعليم فقد أكد مدير عام التخطيط ونظم المعلومات بوزارة التربية بوزيد النصيري انه لم يقع القطع مع ظاهرة الانقطاع المبكر عن الدراسة في تونس منذ الاستقلال وحتى اليوم مبينا انه يسجل سنويا انقطاع أكثر من 100 ألف تلميذ بالإضافة إلى مغادرة أكثر من 4 ملايين تونسي للمؤسسات التربوية في مراحل ما قبل التعليم الجامعي مضيفا ان 2 ملايين من التونسيين المندمجين اليوم في سوق الشغل قد بلغوا مستوى التعليم الابتدائى فقط.

وأمام الوضعية الاقتصادية وتردي المقدرة الشرائية نتيجة فشل الحكومات المتعاقبة فان كل المؤشرات تطرح التساؤلات حول المصير المجهول للفئات الفقيرة المهددة بسوء التغذية (ومنهم الأطفال) حيث باتت الأرقام تثير الفزع في ظل وجود مليون و287 ألف تونسي يعانون من سوء التغذية بينما يعجز مليون و900 ألف على تحصيل قوتهم اليومي !!

وهكذا تكون النتائج تباعا وضعية اقتصادية صعبة(بين عجز العائلة وتخلّي الدولة)، فانقطاع عن التعليم، فالتحاقٌ بعمل هشّ، فتحرّشٌ أو عنف.

وأمام هذا الواقع المستفزّ لإعادة التفكير والنظر،وفي ظل هذا المجتمع القائم على مفاهيم الانتهازية والاستغلال والخادم للفكر الرأسمالي المتوحش فلن يتغيّر حال الطفل، وما لم يُطبق النظام ذو الأهداف الراقية، وضمن الأسس السليمة الذي يعتمد الوحي تنزيلا والتطبيق عدلا وتكليفا… فلن تهنئ البشرية وستُحرم من السعادة والحياة الطيبة.

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ)

أو

(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةًۖ ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)

محمد على البسكري

CATEGORIES
TAGS
Share This