“كشف تقرير صدر مؤخرا عن الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري أن تونس تعتبر من الدول الحائزة على مرتبة متقدمة في نسبة عدم الإقبال على الزواج، مقارنة بنسب الدول العربية، حيث بلغت أعلى مستوياتها في الآونة الأخيرة لتصل إلى حدود 60 %، و بين التقرير، في هذا الإطار، ارتفاع عدد العازبات إلى أكثر من مليوني وربع مليون امرأة من مجموع نحو أربعة ملايين و 900 ألف أنثى في البلاد، مقارنة بنحو 990 ألف عازبة عام 1994، كما بلغت العنوسة أقصى معدلاتها بين الإناث في عمر الإخصاب الأقصى بين 25 و 34 سنة. هذا وأوضح الديوان أن تأخر سن الزواج في تونس يشمل الرجال أيضاً، حيث أظهر أن نسبة التونسيين غير المتزوجين، والذين تراوح أعمارهم بين 25 و 29 عاماً، ارتفعت من 71 % خلال عام 1994، إلى نسبة 81،1 % في نهاية العام الماضي، مؤكدا بلوغ نسبة العنوسة خلال سنة 2016 حوالي 60 % بعد أن كانت النسبة أقل بكثير في السنوات الماضية…”(عن موقع الصدى نت).
كلمة العَانِس لغة تطلق على المرأة: “التي بقيت في بيت أهلها وهي بكر لم تزوج” أو هي “التي تُعجِّز في بَيْت أبويها ولا تتزوَّج”، ويقال للرجل إذا طعن في السن ولم يتزوج: عانس أيضا. وفي لسان العرب: عنست المرأة تعنس، بالضم، عنوسا وعناسا وتأطرت، وهي عانس، من نسوة عنس وعوانس، وعنست، وهي معنس، وعنسها أهلها: حبسوها عن الأزواج حتى جازت فتاء السن ولما تعجز… العانس من الرجال والنساء: الذي يبقى زمانا بعد أن يدرك لا يتزوج، وأكثر ما يستعمل في النساء. يقال: عنست المرأة، فهي عانس، وعنست، فهي معنسة إذا كبرت وعجزت في بيت أبويها. قال الجوهري: عنست الجارية تعنس إذا طال مكثها في منزل أهلها بعد إدراكها حتى خرجت من عداد الأبكار، هذا ما لم تتزوج، فإن تزوجت مرة فلا يقال عنست…”.
فالعنوسة هي عدم تزوج الرجل أو المرأة بعد بلوغ سنّ معيّنة، وهي مسألة نسبية تختلف من مجتمع إلى آخر؛ فسنّ الزواج في اليمن مثلا يختلف عن سنّ الزواج في الجزائر. كما أنّ أسبابها نسبية تختلف من مجتمع إلى آخر. فما هي أسباب العنوسة في المجتمع التونسي؟
يذهب كثير من الناس إلى ربط العنوسة بالناحية الاقتصادية، فيقولون: إنّ البطالة، وغلاء المعيشة، وارتفاع تكاليف الزواج، هي أسباب العنوسة في تونس. فالرجل الذي يعيش حالة اقتصادية صعبة يصعب عليه التفكير في تحمّل مسؤولية عائلة وتكوين أسرة. وإذا فكّر هذا الرجل في الزواج وتشجّع لتحمل مسؤولية أسرة، فسيصطدم بعقبة ما قبل الزواج أي تكاليف العرس وشروطه الكثيرة التي لا يقدر كثير من الشباب على تحمّلها.
وهذا الكلام لا شكّ في صحّته، ولكنّه لا يشخّص أسباب الظاهرة تشخيصا صحيحا جامعا مانعا، فقد يصدق على بعض الحالات ولكنّه لا يصدق على كلّ الحالات. والسبب الحقيقي في نظري وراء ظاهرة العنوسة لا تعلّق له بالناحية المادية بل له علاقة بالعقلية السائدة في تونس. نعم، الناحية المادية مهمّة، ولكن اعتبارها العائق الأساسي غير صحيح بل هي أيضا نتاج العقلية.
ولكي لا نطيل الكلام، نقول: لقد هدمت الحداثة مؤسسة الزواج في تونس. ففلسفة الحداثة التي يروّج لها في تونس بخلفية علمانية إباحية تحت مسمّى الحرية خلخلت المنظومة الاجتماعية وضربت مفهوم الزواج في الصميم. فأصبح الشباب عندنا يرى الزواج سجنا يقضي على آمال الحرية والعيش المنفلت من كل قيد. وأصبح الشباب عندنا يرى الزواج من أجل تكوين أسرة مسألة ثانوية تأتي بعد الاستمتاع بالحياة وملذّاتها في سنّ الشبيبة. وإذا كان الزواج من أجل إشباع الغريزة فما الحاجة إليه إذا كان بالإمكان إشباع هذه الغريزة دون قيد ودون التزام وبتكاليف رخيصة.
لقد رسّخت فكرة الحداثة التي فرضها النظام التونسي بعد الاستقلال بالحديد والنار مفهوم الفردية والأنانية، باعتبار أن الفرد وحرّيته قيمة كونية، وضربت مفهوم الدين والحلال والحرام، وهدمت فكرة الزواج بمقاصدها الدينية والإنسانية، فنتج عن هذا جيل من الشباب فاقد الهويّة، لا يتحمّل المسؤولية، ويعيش حياة العدمية، ولا يعطي أيّ قيمة لمفهوم الزواج كميثاق غليظ ورباط اجتماعي محترم.
ولهذا، إذا أردنا أن ننقذ هذا المجتمع من الشيخوخة التي بدأت تهدّده، وإذا أردنا أن نعيد للزواج دوره، وإذا أردنا أن ننقذ شبابنا من الرذيلة، وإذ أردنا أن نعيد السكون والطمأنينة للعلاقة بين الذكر والأنثى، فما علينا سوى أن ننبذ هذه الحداثة العلمانية الإباحية التي ما جلبت لمجتمعنا إلّا الدمار والخراب. قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30)} (الشورى). وقال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون (41)} (الروم).