الغارة “الإسرائيلية” على حمّام الشط : حمّام دم لتركيع المقاومة الفلسطينيّة وإدخالها بيت الطّاعة الإسرائيليّ  2/1

الغارة “الإسرائيلية” على حمّام الشط : حمّام دم لتركيع المقاومة الفلسطينيّة وإدخالها بيت الطّاعة الإسرائيليّ 2/1

حدّث أبو ذرّ التونسي قال: لطالما مثّل هذا الجزء العزيز من العالم الإسلامي ـ المسمّى (إفريقيّة) ابتداءً ثمّ تونس لاحقًا ـ حضن المسلمين الدّافئ وأرض الرّباط والجهاد، ناهيك وأن النّجدة والنّصرة من سجايا شعبه وطبائعه المتأصّلة فيه كابرًا عن كابر…فقد رحّب بطلائع الفاتحين وأخذ عنهم المشعل وأصبح منارة تشعّ بنور الإسلام على أوروبا وإفريقيا شمال الصّحراء وجنوبها …واعتُبِر طوال تاريخه ملجأً آمنًا لِمنكوبي العالم الإسلامي وأمًّا رَؤُومًا تغمرهم بفيض حنانها الدّفّاق وتخفض لهم جناح الذّل من الرّحمة وتواسيهم وتضمّد جراحهم: فاستقبل فلول الخوارج والفاطميّين والأمويّين الهاربين من اجتثاث السلطة المركزية في المشرق، واستضافهم بين ظهرانيه وأذابهم في نسيجه المذهبي…واحتضن مسلمي صقليّة ومالطا والأندلس والبلقان الفارّين بدينهم، وقاسمهم البلد والزّاد والمصيبة واستوعبهم في تركيبته السّكانية…أمّا في العصر الحديث فقد فتح قلبه وذراعيه لإخوته الجزائريّين والطّرابلسيّين والفلسطينيّين الناجين من المذابح الاستعمارية والفاشيّة والصّهيونية، وآزرهم في مصابهم الجلل وأمدّهم بالعتاد والعدّة والمال والرّجال،وسخّر أرضه قاعدة خلفيّة لفصائلهم المسلّحة ومقرًّا حصينًا لقياداتهم السّياسية والعسكريّة ،إيمانا منه بأنّ الجميع أعضاء في جسد الأمّة الإسلاميّة الواحد ،وأنّه إذا اشتكى منه عضو يجب أن يتداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى…

ضريبة ثقيلة

وقد احتمل الشّعب التونسي بصبرٍ وأناة صنوفا من الأذى تنوء بحملها الجبال في سبيل واجب النّصرة، وضحّى بالغالي والنّفيس، ودفع عن طيب خاطر فاتورة باهضة وضريبة ثقيلة من أمواله وأرواحه وفلذات أكباده وأمنه وراحته واستقراره: فاختطّ بدمائه الطّاهرة الممتزجة في ساحات الشّرف بدماء ضيوفه الزّكية ،صفحات مشرقة نيّرة من الجهاد المشترك ضدّ البيزنطيّين والصليبيّين والنّورمان والوندال والإسبان والطّليان والفرنسيّين والإسرائيليّين ،يباهي بها الشعوب ويحتسبها زادا بين يدي علاّم الغيوب (يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا) ودونك مثالاً مجزرة (ساقية سيدي يوسف) …أمّا آخر هذه الملاحم وألصقها بالذّاكرة التونسيّة المعاصرة فهي الغارة الإسرائيليّة على مقرّ قيادة الأركان الفلسطينيّة بضاحية حمّام الشطّ ،والتي تواطأ فيها ياسر عرفات وزمرته الخيانيّة مع النّظام البورقيبي العميل لتصفية الكوادر العسكريّة الفلسطينيّة وإسقاط الخيار العسكري للمقاومة وإدخال الشّعب الفلسطيني قسْرًا بيت الطّاعة الإسرائيلي…فأين تتموقع هذه الحادثة من السّيرورة التاريخيّة للقضيّة الفلسطينيّة وطريقها الدمويّ نحو التصفية ..؟؟

الترويض والتدجين

إنّ تاريخيّة الصراع “العربي ـ الصهيوني” يجب أن يُنظر إليها من زاوية ترويض الشعب الفلسطيني وتدجين الأمة الإسلامية وإجبارهم على القبول بذاك الورم السرطانيّ المزروع في أرض المسرى والمعراج باعتماد غطرسة القوة والأرض المحروقة المدعومة خارجيا بالشرعية الدولية العرجاء والمُزكّاة داخليا من طرف السماسرة والعملاء لتمرير الطبخات السياسية والعسكرية وشرعنتها وتسهيل هضمها…من هذا المنطلق فإنّ كلّ الخطوات التي تلت قرار الولادة القيصريّة سنة 1948 كانت تصبّ في اتّجاه انتزاع الاعتراف الثّمين من أفواه أصحاب الشّأن أنفسهم ،ثم إيجاد الغطاء القانونيّ التشريعيّ الذي يشرعن تلك الجريمة ويستر عورتها كي يتحقّق لليهود هاجس الأمن والأمان والاستقرار…أولى تلك الخطوات تمثّلت في بتر القضيّة الفلسطينيّة عن عمقها الإسلامي عبر مسار من الانحسار والتّضييق لتناسب اللّقمة أفواه اليهود: فقد تدحرجوا بها من المربّع الإسلامي إلى المربّع القومي العربي بعد سقوط الدّولة العثمانيّة، ثمّ إلى المربّع الإقليمي مُمثّلا في دول الطّوق بعد حرب 1956، ومنه إلى المربّع الوطني مع نشوء منظّمة التّحرير الفلسطينيّة سنة 1965 وخاصّة بعد معاهدة (كامب دايفد) 1978 التي فكّت الارتباط رسميّا وكليّا بين القضيّة الفلسطينيّة وسائرالعرب والمسلمين ،لتصبح قضيّة الشّعب الفلسطيني فحسب مُمثّلاً في منظّمة التحرير الفلسطينيّة وزعيمها ياسر عرفات الذي حوّلها بدوره إلى مجرّد (أزمة سكن) داخل كيان يهود باختزالها في مفاوضات حول أحياء داخل القدس الشّرقيّة وبعض المعابر والطّرق الالتفافيّة…

 

التيئيس والشّرعنة

ثاني هذه الخطوات إشاعة أجواء اليأس والإحباط وتثبيط العزائم عن طريق إبراز كيان يهود في مظهر القوّة السّاحقة والقضاء المُبرم، فلا مهرب منه ولا قدرة على مواجهته ـ لا فلسطينيًّا فحسب بل عربيًّا وإسلاميًّا ـ ، وذلك لكسر شوكة الأمّة وتبرير تنازلات الحكّام وخياناتهم: فقد انخرطت الدّول العربيّة في مسرحيّات عسكريّة سيّئة الإخراج مع كيان يهود سنوات (1948 ـ 1956 ـ 1967 ـ 1973 ـ 1982)…ورغم أنّها خاضت أغلبها متّحدةً في 6 أو 7 جيوش، إلاّ أنّها تعمّدت الانهزام في كلّ واحدة منها شرّ هزيمة ممّا نفخ في صورة اليهود…ومن المهازل أنّ كلّ حرب كانت تجرّ وراءها تنازلات أفظع من أختها (ضمّ غزّة ـ انفصال الضفّة ـ احتلال سيناء ـ ضمّ الجولان)…ثالث تلك الخطوات تمثّلت في ترجمة ثالوث الشرّ (التنطّع الإسرائيليّ ـ الخذلان العربي ـ التواطؤ الدّوليّ) تشريعيّا وقانونيّا :فقد أثمر ذلك دوليًّا القرار الأُمميّ 242 لسنة 1967 كأوّل اعتراف رسمي بكيان يهود على أراضي 1948 ، وقد رُكّز هذا المكسب فيما بعد بصدور القرارين الأُمميّين (338 ـ 339) لسنة 1973 اللّذين نصّا بشكل سافر أنّ ما كان يدعى (الكيان الصّهيوني) هو دولة إسرائيل القائمة على أراضي 1948 وأنّ أقصى ما يطمح إليه العرب هو أن تتكرّم وتنسحب ممّا احتلّتهُ في 1967 مقابل العيش معها في أمن وسلام…أمّا عربيًّا فقد أثمر ذلك معاهدة (كامب دايفد) 1978 التي حيّدت مصر مركز ثقل الأمّة وصدّعت الصّف العربي ودعّمت شرعيّة إسرائيل ومكّنتها من الاستفراد بالفلسطينيّين معزولين عن عمقهم العربي الإسلاميّ…

المسار الدّاخلي المحلّي

غير أنّ حساب البيدر يبدو أنّه لم يوافق حِساب السّوق، أي أنّ هذه الخطوات الإقليميّة الدوليّة والقانونيّة التشريعيّة لم تواكبها وتدعمها خطوات محلّية داخليّة فلسطينيّة: فهذا المَسار من البتر والتّضييق والاعتراف والتّفريط يجب أن يقبل به الشّعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية إن في كوادرها أو في سواد مقاتليها…لذلك فقد انتهج كيان يهود مسارًا آخر موازيًا للمسار الأوّل يهدف إلى تركيع المقاومة وكسر شوكتها وإسقاط البندقيّة من يدها وإقصاء الخيار العسكري من حساباتها وجرّها عُنوة إلى المربّع الإسرائيلي المفضّل ـ طاولة المفاوضات ـ وتلك لعبة اليهود المسلّية وميدانهم الذي لا يباريهم فيه أحد حيث يتمكّنون من استغلال (مواهبهم) في الصّلف والابتزاز والتّدويخ والإفراغ والاحتواء والالتفاف والانتقاء والنّكث…بما يؤسّس لتصفية القضيّة الفلسطينية برمّتها…من هذا المنطلق فإنّ كلّ الخطوات الدّاخليّة التي تلت قرار التّقسيم كانت تصُبّ في هذا الاتجاه، وأولاها: فكّ الارتباط بين المقاومة المسلّحة وحاضنتها الشّعبية بإجبارها على ترك الدّيار والانتقال إلى الشّتات والمُخيّمات عن طريق سياسة الأرض المحروقة أو (الحلاقة) كما يسمّيها شارون: الهرسلة العسكريّة المتواصلة والمجازر والمذابح المُروّعة (دير ياسين ـ كفر قاسم…) والتّهجير الجماعي القسري، ممّا اضطرّ المقاومة الفلسطينيّة وجزءا كبيرا من الشّعب الفلسطيني إلى التوجّه نحو الأردن لاسيّما وأنّ الضفة الغربيّة كانت تابعة إداريًّا لها…

تعنّت المقاومة

إلاّ أن الملاذ الجديد للمقاومة الفلسطينيّة أسقط الحسابات الصّهيونيّة في الماء وعمّق الأزمة الأمنيّة لكيان يهود ولم يحُلّها: فالشّعب الأردني مُتجانس عرقيًّا قبليًّا وعقائديًّا مذهبيًّا مع الشّعب الفلسطيني (عرب هاشميّون سُنّة) تربطه به وشائج حميمة من المصاهرة والنّسب قويّة ومنيعة وعصيّة على أقفاص (سايكس ـ بيكو)، ناهيك وأنّ نسبة كبيرة تقارب الثّلث من التّركيبة السكّانية للأردن من أصول فلسطينية (الملكة علياء إحدى زوجات الملك حسين فلسطينيّة)…كما أنّ الموقع الجغرافي للأردن حسّاس وخطير بالنّسبة إلى الكيان اليهودي: فحدوده الغربيّة مفتوحة بشكل طولي على ظهر إسرائيل تحتضنه وتجعله مكشوفًا وضعيفًا أمام الهجمات العسكريّة…وبالمحصّلة فقد انتقلت المقاومة الفلسطينيّة من حاضنة شعبيّة مُكبّلة كسيحة إلى أخرى حرّة فعّالة بعيدة عن أعين الصّهاينة، وتَوَفَّرَ لها مسرح عمليّات عسكريّة مفتوح ومُتّسع تصعب مراقبته وحمايته والسّيطرة عليه ممّا يفتح أمامها أبواب المناورة على مصراعيها…هذه الوضعيّة الانتحاريّة أدّت إلى الخطوة الإسرائيليّة الثّانية وتتمثّل في إخراج المقاومة من حضنها الأردني المنيع نحو الفخّ اللّبناني القاتل بتركيبته السّكانيّة المتنافرة عرقيًّا وعقائديَّا مع أهل الرّباط حدّ الشّطط (دروز ـ شيعة ـ عدّة طوائف مسيحيّة) بما يعزلهم عن حاضنتهم الشعبيّة، وبمنفذه الوحيد الضيّق نحو الأراضي المحتلّة الذي يُقيّد تحرّكات المقاومة ويحرمها من إمكانيّة المناورة العسكريّة ويجعلها تحت رحمة الجيش اليهودي..على هذا الأساس كانت مذبحة (أيلول الأسود) سنة 1970 التي اشترك في اقترافها الجيش الأردني والقوّات الصّهيونية من أجل القضاء على الوجود الفلسطيني بالأردن، وقد أسفرت عن قرابة 10 آلاف قتيل فلسطيني…

وإن عُدتم عدنا…

مرّة أخرى يخيب فأل اليهود وتَفشل مخطّطاتهم وينقلب سحرهم عليهم: فرغم ذلك الواقع اللّبناني المُعادي وظروفه المثبطة والمعرقلة لانتعاشة المقاومة الفلسطينيّة الجريحة، إلاّ أن الحركة الفدائيّة انتفضت من رمادها وخلقت من ضعفها قوّةً وفرضت نفسها على جميع مكوّنات المجتمع اللّبناني وعَظُم شأنها حتّى أصبحت دولةً داخل الدّولة، وتمكّنت من اختراق الطّوق اليهودي وسدّدت للصّهاينة ضربات موجعة حتّى أن الجليل الأعلى أصبح خاليًا من السكّان…إلى هذا الحدّ تأتي الخطوة الإسرائيليّة الثّالثة وتتمثّل في توظيف التّنافر العرقي والعقائدي والمذهبي في لبنان كوقود احتراب لِلجْم المقاومة والسّيطرة عليها…فكانت الحرب الأهليّة اللّبنانية (1975) التي تكتّلت فيها جميع مكوّنات الشّعب اللّبناني ضدّ الوجود الفلسطيني، وتلتها عمليّة (سلام الجليل) 1982 حيث اجتاحت إسرائيل لبنان بمباركة عربيّة وعالميّة، وتَوّجت تلك العمليّة بمذبحة صبرا وشاتيلا الرّهيبة وطرد المقاومة الفلسطينيّة مجدّدًا نحو الشّتات، ولكن هذه المرّة بعيدًا عن مسرح العمليّات (تونس ـ الجزائر ـ السّودان ـ اليمن…) فهل سيحول ذلك دون العمل الفدائي العسكري..؟؟ قطعًا لا ما دامت الكوادر العسكريّة الشّريفة وأبطال المقاومة الأفذاذ على قيد الحياة…لذلك كان لزامًا على كيان يهود أن يتجشّم مشقّة اللّحاق بهم في حمّام الشّط لتصفيتهم عساها توقف نزيف الدّم اليهودي… (يتبع)

بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This