الغلول: الفساد المالي والإداري، وتغليظ الشرع فيه

الغلول: الفساد المالي والإداري، وتغليظ الشرع فيه

محمد زروق

لا يزال الحِرْصُ على المال وجَمعه حتَّى يُطْلَب المالُ من وُجوهِه المحرَّمة، فتتشوَّق النفس إلى ما حرَّم الله من المال، ولا تقْتنع بِما أحلَّه الله، فلا تُبالي حينئذٍ أحَلال ما تكْسبه أم حرام؟ فيكون المال غايةً، والحلال ما وقع في اليد .

ومن أكثر ما تساهل الناس فيه في هذا العصر مع أنه من كبائر الذنوب: “غلول الحكّام والولاّة وموظّفي الدولة “، وهو أن يأخذ الإنسان من الأموال العامة ما ليس له، أو يُسخِّر أدوات وظيفته أو نفوذه لنفع نفسه وقرابته لا لخدمة الناس، وهذا من الظلم العظيم، الذي يجرّ المجتمع إلى فساد عريض، وصاحبه متوعد بالعقوبة الشديدة في الكتاب والسنة. فمن غلّ شيئًا لا حق له فيه دون المسلمين جاء يحمله على ظهره يوم القيامة ليحاسب عليه كما قال الله تعالى :{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَة} [آل عمران من الآية:161].

“الغلول” وهو أخذ المال وحقوق الناس بغير حقٍ ولا موجب . ومن يغلل يأتي بما غل يوم القيامة أي من يأخذ ُ الأموال بغير ِحقها يأتي بها يوم القيامة مهما كثرت وتعددت. يأتي بها يحملها على رقبته إن كانت إبلا ً أو كانت بقرا ً أو كانت أموالا ًأو غير ذلك كُل ما غله يأتي به يوم القيامة يحمله على رقبته خزيا ً بين العباد وفضيحة على رؤوس الأشهاد.

جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ:

قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَذَكَرَ الغلول فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ ثُمَّ قَالَ لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ.. واللفظ عند مسلم.

فالحجة ُعلى العباد قامت ببيان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونصحه وإعذاره وإنذاره. فليحذر الإنسان من الخزي والفضيحة يوم القيامة ولا يستهين من الغلول بشيء ٍ ولا يحتقر من أموال الناس شيئا ً فإن من أخذ من أموال الناس ولو كان قليلا ً آتى يوم القيامة يحمله على رقبته فضيحة وخزيا ً على روؤس الأشهاد.

 أنواع من الفساد المالي والإداري

وإنّ هذا  الفساد المالي والإداري المسمّى عند الفقهاء بالغلول أنواع ٌكثيرة ٌوصنوف ٌعديدة يجب علينا أن نحذرها أشد الحذر.

فمن الغلول الأخذ من الزكاة أخذ عمال الزكاة, ففي سنن أبي داود عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعِيًا ثُمَّ قَالَ انْطَلِقْ أَبَا مَسْعُودٍ وَلَا أُلْفِيَنَّكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَجِيءُ وَعَلَى ظَهْرِكَ بَعِيرٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ لَهُ رُغَاءٌ قَدْ غَلَلْتَهُ.

ومن الغلول الاختلاس من الاموال العامة, فعن عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمْنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.” رواه مسلم”.

ومِنَ الغُلول هدايا العمَّال

وهم الموظَّفون الذين يأخذون مرتَّبًا من بيت المال، ويتولَّون مناصبَ وولاياتٍ، سواءٌ كانت صغيرةً أم كبيرة، فما يُهْدَى لهم بسبب هذه الأعمال – ولو لم يكونوا بهذا العمل لم يُهْدَ إليهم – فهو غلول، يَحرُم عليهم قبولُه، ولو قبلوه وجب عليهم أن يردُّوه على معطيه، أو يدخلوه في بيت مال المسلمين كما يقول الفقهاء إن كان للمسلمين بيت للمال ؛ فعن بريدة عن النَّبيِّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: ((منِ استعْملناه على عملٍ فرزقناه رِزْقًا، فما أخذ بعد ذلك، فهو غلول))؛ رواه أبو داود

ومن الغلول اغتصاب الأراضي والعقارات ونحو ذلك بغير ِحق

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا طَوَّقَهُ اللَّهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ “متفق ٌ عليه”

 حتّى المجاهد لا تنفعه الشهادة

 وروى الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: “افتتحنا خيبر ولم نغنم ذهبًا ولا فضة إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط، ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القُرى ومعه عبدٌ له يقال له مِدْعَم أهداه له أحد بني الِضباب، فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه سهم عائر حتى أصاب ذلك العبد فقال الناس: “هنيئا له الشهادة”؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا» فجاء رجل حين سمِع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين فقال: “هذا شيء كنت أصبته” فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم” «شِراك أو شِراكان من نار»

والشِراك سير النعل على ظهر القدم، فإذا كان الغال يؤاخذ بسير النعل الذي لا يساوي شيئًا فكيف بما فوقه من المال والمتاع العظيم؟! فيا ويل من استحلوا الأموال العظيمة بمجرد وصولهم إليها، وائتمانهم عليها، ويلهم، ماذا سيحملون يوم القيامة على رقابهم؟ وما جوابهم لربهم حين يسألهم؛ إذا كان سبحانه قد عذب أشخاصًا في قبورهم في شملة وعباءة، وسير نعل، فما أعظم الأمر وقد تساهل  فيه الكثير الناس، وما أكثر الواقعين فيه،

الاستخدام الشخصي للممتلكات العامة:

وذلك كالاستخدام الشخصي للسيارات، والآلات، والعدة  المملوكة للإدارة، والتلفونات، وأجهزة الحاسوب، وآلات التصوير، والطباعة، وأي استخدام شخصيٍّ آخر لا يكون لصالح العمل الرسمي. وفي صحيح البخاري عن خَوْلَةَ الأنْصاريّةِ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:(إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ الله بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

تخفيض الرُّسوم والمستحقّات على بعض الجهات من باب المحاباة والمحسوبية:

وفي هذا ضياع أموال مستحقّة ، وفوات العدل بالمعاملة بين الناس. وبالجملة؛ يحرُم الأخذ من مال المسلمين(أو ما يُسمّى بالمال العام) بغير حقٍّ، على أيِّ وجه كان، ويحرم أيُّ كسب يأتي على حساب الوظيفة العامة استغلالاً، وتحرم المحاباة بإعطاء الامتيازات أو الحقوق لغير مستحقيها بناء على المحسوبية في العطاءات أو الوظائف أو المنح أو في إعطاء كلِّ من لا يستحق في أيِّ مجال كان، فهي تدخل كلها في الغلول.

وجوب أداء الكثير والقليل

أكّد عليه الصلاة والسلام على وجوب أداء الكثير والقليل، وعدم احتقار الشيء مهما كانت قلته ووضاعته في نفس آخذه ما دام أن لغيره فيه حقاً، فقد روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم، فلما سلَّم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول وَبَرَة بين أنملتيه فقال: «إِنَّ هَذِهِ مِنْ غَنَائِمِكُمْ وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي فِيهَا إِلَّا نَصِيبِي مَعَكُمْ إِلَّا الْخُمُسَ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ، وَأَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ وَأَصْغَرَ وَلَا تَغُلُّوا فَإِنَّ الْغُلُولَ نَارٌ وَعَارٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»” رواه أحمد.

CATEGORIES
TAGS
Share This