القتل الإستباقي: هل هي استراتيجية الدولة الجديدة؟

القتل الإستباقي: هل هي استراتيجية الدولة الجديدة؟

هناك من اعتبرها  ناتجة عن اهمال من الاطار الطبي وشبه الطبي العامل بمركز التوليد والرضيع بمستشفى “وسيلة بورقيبة ” بالرابطة.. وهناك من أدرجها في خانة الأخطاء الطبية وهذا يحدث في جميع مشافي العالم. وهناك من حشرها في ساحة حرب الانتخابات المستعرة بين المتناحرين على غنائم الحكم, خاصة أن كل شيء مباح حسب تعريف السياسة في النظام الرأسمالي…

إذن الكل شجب ما حدث, والكل أدان, والكل طالب بالمحاسبة وعدم تكرار الفاجعة, و و.. وزير الصحة استقال من منصبه, ورئيس الحكومة قبل الاستقالة دون تردد, وكأن وزير الصحة المستقيل أراد أن يشفي غليل أولئك المنادين باستقالة كل وزير حدثت في مجال وزارته كارثة, وجعلها دليلا على تحمل الدولة لمسؤوليتها. ويعتبرون استقالة القائم على الوزارة المعنية تأسيا بالدول المتقدمة, ولا يهم حجم الذنب المرتكب المهم الاستقالة وفسح المجال لوزير آخر يشرف على كوارث جديدة ثم يقتدي بالوزراء الذين يحترمون أنفسهم ويحترمون الناس ويستقيل. وها قد جاء اليوم الذي يرون فيه وزيرا يستقيل من تلقاء نفسه ويثبت للجميع أن في تونس رجال دولة يتحملون مسؤوليتهم ولا يتشبثون بالكراسي من أجل الكراسي. لينتهي الأمر عند هذا الحد, إلى حين وقوع فاجعة جديدة وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.

بين هذا الرأي وذاك غابت الحقيقة عن الكثير أو بالأحرى تم تغييبها وحجبها عن الأعين رغم أنها أوضح من الشمس في رابعة النهار, ومفادها أن هذه الدولة منذ انبعاثها ومع مختلف القائمين عليها من “بورقيبة” إلى “بن علي” وصولا إلى الحكومات المتعاقبة بعد الثورة تتبع استراتيجية واحدة ومحددة, هي القتل ولا شيء غير القتل ماديا كان أو معنويا.. تمشيا مع طبيعة النظام الوضعي وهو نظام قاتل بطبعه..

تعددت الحالات والقاتل واحد

يخطئ من يقول أن هاته الدولة لم توفر شيئا لرعاياها وعجزت عن حل مشاكل الناس ومعالجتها. فدولة الحداثة منذ أن وضع “بورقيبة” لبنتها الأولى كانت شديدة الحرص على تقديم الحل المناسب لكل من تقطعت به الأسباب وضاقت به السبل. فالطريق مرسوم وبوضح شديد. واللوم على من رفض أن يسلكه, فهو متاح للجميع ولا يحتاج السير فيه الا الاستجابة لوسوسة الشيطان, وهو المتعاون الرسمي مع الدولة. فكل من ضاقت به الأرض بما رحبت ولم يجد ما يسد به رمقه ورمق من في كفالته ما عليه إلا أن يفاضل بين الحرق أو الشنق, وبمجرد أن يختار طريقة الانتحار ثم تنفيذه يكون قد تجاوب ايجابيا مع الدولة وطبق سياستها وقدم لنفسه ولها الحل. وبعدها سيتكفل الدجالون بتحبير الخطب العصماء في موكب تأبينه. وتحوز عائلته على تضامن وتعاطف الدولة معها. وربما ينالها رسميا شرف تلقيبها بعائلة الشهيد, كما يحصل دائما مع ضحايا الحرب المزعومة على الارهاب من رجال الأمن والجيش.. ومن لم يقدر الشيطان على اغوائه ولا يقدم على الانتحار, يبيع كل ما تملكه عائلته ويطرق جميع أبواب أقاربه وأصدقائه ليقترض معلوم هجرته القسرية عله يجد خلف البحار ما لم يجده في بلده. ويركب البحر فارا من الموت جوعا أو كمدا فيموت غرقا. وبذلك يكون كالذي مات انتحار دليلا على نجاح سياسة الدولة.. أما من تعنت ورفض الطريقة الأولى والثانية فقد أعدت له الدولة الخطة البديلة. فبمجرد أن يصاب بمرض يجد في انتظاره اما معدات طبية غير صالحة أو لا يجدها أصلا, او توفر له الدولة بنجا فاسدا, أو دواء فقد صلاحيته منذ زمن. والنتيجة يكون كالذي انتحر وكالذي حشر في قارب ما ليموت في عرض البحر. هذا دون الحديث عمن يكون حصادا للكوارث الطبيعية, والتي في الحقيقة لم ترتق إلى الكوارث لولا البنية التحتية التي عفا عنها الزمن نتيجة لا مبالات الدولة وتخليها عن رعاية شؤون الناس.

ومع ارتفاع عدد المقدمين على الانتحار, وتفاقم ظاهرة ” الحرقة” وتزايد عدد ضحاياها يبدو أن الدولة  أدخلتت تحويرا طفيفا على استراتيجيتها وهو الآن في طور التجريب.. وقدمت لنا مجزرة مستشفى “وسيلة بورقيبة” الذي راح ضحيتها احد عشر رضيعا.. كنموذج لتمشيها الجديد في القتل. فربما يغنيها عن اتباع الطرق والاساليب القديمة..

حسن نوير

CATEGORIES
TAGS
Share This