القدس ومأزق التاريخ: ( …ثمّ تكون خلافة على منهاج النبوّة)

القدس ومأزق التاريخ: ( …ثمّ تكون خلافة على منهاج النبوّة)

انطلق كيان يهود مؤخّرا في إخضاع القدس لمخرجات صفقة القرن بوصفها ـ يهوديّة خالصة ـ عاصمته الأبديّة، معتمدا في ذلك أسلوب الأرضة والسّوس والنّمل الأبيض :النّخر من الدّاخل والقضم وفرض الأمر الواقع في محاولة لإخضاع الجغرافيا لهواجس التّاريخ..إلاّ أنّ مغامرة حيّ الشّيخ جرّاح الفاشلة جعلته يتراجع خاسئا وهو حسير على وقع هدير الشّارع العربيّ والإسلاميّ :فكلّما احتدم الصّراع حول القدس ـ تلك المدينة التي تعبق برائحة الماضي وتتأرّج بأنفاسه الرّوحانيّة ـ إلاّ وسقطت الأقنعة واتّضح أنّ أي محاولة للدّخول من بوّابة السياسة تفضي بأطراف الصّراع حتمًا إلى بهو التّاريخ أسرى مكبّلين بأغلاله.. والمعضلة أنّ هذا التّاريخ ليس فردًا بل هو تواريخ ورؤى مختلفة وقراءات شتّى يروم كلّ منها أن يتجسّد في الحاضر، وكلّما كان الإنسان كائنا تاريخيًّا انكمش هامش الحرّية وانحسر، لأنّ التاريخ باب مشرع على الحضارة واستحضار التاريخ يكبّل الفعل السياسي بالمفهوم المكيافلّي للسياسة نتيجة الحضور المكثّف للمرجعيّات الرّوحية المفضي بدوره إلى ضمور مجالات المناورة، فليس هناك فعل حرّ إذا ما التقى التاريخ بالنّواحي العقائديّة التي تشكّل جوهر الحضارة..وبالمحصّلة فإنّ الصراع حول القدس انحشر في مأزق أخطر مظهر من مظاهر التاريخ، المظهر الروحي العقائدي الديني: مدينة مقدّسة للدّيانات السّماوية الثلاثة تتشابك فيها معالمهم الدّينية وتتداخل مشاعر عباداتهم بل يتشاركون بعضها بما يُقصي أي إمكانيّة للتعايش السياديّ، إنّه باختصار ملفّ يحرّك في أصحابه غريزة من أخطر الغرائز البشريّة ألا وهي غريزة التديّن وما يرتبط بها من النّواحي الرّوحية.. هذا هو الوجه الحقيقي للصراع حول القدس: ليُّ أذرع بين ثلاثة تواريخ (اليهودي والمسيحيّ والعربيّ الإسلاميّ)، فلِأيّهم سيُكتب النّصر والتجسُّد على أرض الواقع، لأورشليم أم لجيروزالام أم للقدس..؟؟

اغتراب وانبتات

ممّا لا شكّ فيه أنّ إسرائيل مستوطنة توراتيّة خارجة عن الزّمان والمكان متنافرة حدّ الشطط مع محيطها الجغرافي والدّيموغرافي والإثني والعرقي، تقطنها كائنات تاريخيّة بامتياز تقتات في وجودها وكينونتها على الملحمة التي اختطّها أنبياء بني إسرائيل منذ أكثر من أربعة آلاف عام..فاليهود اليوم ـ ديانةً وقوميّةً ودولةً وفكرًا ومشروعًا ـ عالة على الفترة الزّمنية الممتدّة من سيّدنا إبراهيم عليه السّلام إلى سقوط الهيكل الثاني على يدي الرّومان، إليها يستندون في قيامهم ومنها يستمدّون مبرّرات وجودهم..

أمّا الحاضر فهو بكلّ مكوّناته يُنكرهم ويزدريهم ويرفضهم ويلفظهم، لذلك وحتّى نفهم الممارسات الصّهيونيّة المغرقة في العنف والشّذوذ والدّمويّة والإجرام والسّادية، يجب أن نستعين بعلم النّفس التاريخي: فالشّخصية اليهوديّة تعيش اليوم حالة انفصام واغتراب وانبتات مردّها الاختلال الحادّ بين القمقم التّاريخي الذي حشرت نفسها فيه والمعطيات الميدانيّة المعاصرة في (أرض الميعاد)، فهذه الأخيرة تُسفّه أحلام اليهود وأمانيهم وتكذّب تاريخهم المزيّف وإلاهَهُم المزعوم وكتابهم المحرّف ونبيّهم المُدَّعَى.. إنّهم يرون رأي العين أنّ هذيان الحاخامات في (التّلمود) وتخاريف حكماء صهيون في بروتوكولاتهم لا محلّ لها على أرض الواقع، وأنّ عقدة (الهولوكوست) التي كبّلوا بها العالم يخبو بريقها ويضعف تأثيرها أمام المجازر والمذابح التي يقترفونها يوميًّا ضدّ أهل الرباط..لقد تبيّن لهم بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ كيانهم الإسرائيلي ورم خبيث اجتُثّ من فوق الأرض فما له من قرار، وأنّ كلّ مؤشّرات المستقبل في صالح الإسلام والمسلمين، وأنّهم حالة شاذّة طارئة زائلة لا محالة لا ترقى إلى مستوى شعب فضْلاً عن أن تكون (شعب الله المختار).. إنّهم لمسوا بالحجّة والبرهان أنّ ربّهم ونبيّهم وكتابهم وأساطيرهم قد انهزمت أمام الله تعالى ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن الكريم وحقائق التّاريخ الإسلامي..باختصار، لقد رفضتهم الجغرافيا لافتقادهم السّند الشّرعي والتاريخي، ألا يكفي كلّ هذا ليفقدوا أعصابهم..؟؟

سِلاح التّاريخ

من هذا المنطلق آن لنا نحن المسلمين أن نتصالح مع تاريخنا ومع ذاكرتنا التي ران عليها الصّدأ: فممّا يُدمي القلب فعلاً ويمثّل مفارقة عجيبة ما نلاحظه من ضمور في الإحساس بالتاريخ في الشارع العربي والإسلامي في مقابل توهّج هذا الإحساس لدى أعداء الأمة..فإلى جانب العالم الأسطوري الخرافي الذي يسمّيه اليهود تاريخًا ويحاولون حشر المنطقة في بوتقته، فإنّ الغرب قد اعتصر تاريخه مدادًا وانبرى يحبّر به حاضره وحاضر المسلمين أيضًا، وإنّك لتشتمّ دون عناء رائحة التّاريخ وهي تفوح من كلّ فعل يقومون به ومن كلّ قرار يتّخذونه، فلا يخامرك أدنى شكّ في أنّ ساستهم ينطقون بألسنة الأب أوربانوس الثّاني والقدّيس لويس التاسع وريتشارد قلب الأسد وفرسان مالطا..بينما نحن أضحينا كائنات لا تاريخيّة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، انفصلنا عن ماضينا وانطبع في أذهاننا أنّ التاريخ هو روما وقرطاج والفراعنة..وبحثنا عن موقع لهذه الحضارات في قلوبنا وعقولنا فلم نجد لها مكانًا، فاعترانا إحساس بأنّنا كائنات هلاميّة بلا هويّة ولا جذور،وأصبحنا لا نعي بما يدور حولنا لأننا بكلّ بساطة مغيّبون عن تاريخنا مقتلعون من تربتنا عُزّل في معركة غير متكافئة رغم أنّنا نمتلك زخمًا تاريخيًّا يمثّل بلا منازع أقوى سلاح في معركة القدس ومعركة التحرّر عمومًا، لذلك سعى الاستعمار جاهدًا إلى تجريدنا من هذا السّلاح عبر الطّمس والتزييف والمغالطة والتّحييد، وقد نجح في مسعاه أيّما نجاح بما بثّه من سموم أثناء الحقبة الاستعماريّة وبعدها ممّا عكّر صفو الساحة الفكريّة والثقافية بكلّ ما هو معادٍ للأصالة وللإسلام..وها نحن نرى اليهود وأذنابهم يروّجون لتحييد العامل التّاريخي في الصّراع العربي الصهيوني وبتر القضيّة عن مسارها الحضاري في المحافل الدّولية كلّما سنحت لهم الفرصة: فهذا (كورت فالدهايم) الأمين العام الأسبق للأمم المتّحدة يعلّق عن الصراع في الشرق الأوسط (في هذه المنطقة بالذات ينبغي أن نعطي التاريخ كميّة أكبر من الأقراص المهدّئة)، وكذلك وزير الخارجيّة الأمريكيّة السابق (جيمس بيكر) حيث قال (ينبغي تحطيم التاريخ أو على الأقلّ نزع صلاحيّاته في الشرق الأوسط لأنّ الأبالسة تأوي إليه عادةً) وبطبيعة الحال فإنّ التاريخ المقصود بالتهدئة والتّحطيم هو التاريخ الإسلامي لانّ التسوية قائمة على حسابه كما أنّ صلاحيّاته لا تخدم طموحات الإمبريالية الأمريكية كما يخدمها المشروع الصّهيوني..

تسمية ماكرة

إزاء هذا المأزق التاريخي الحادّ تفتّقت الذّهنيّة اليهوديّة الماكرة عن جملة من الإجراءات الميدانيّة والعسكريّة والثقافيّة والسّياسية لوضع اليد على أرض المسرى والمعراج وشرعنة اغتصابها وتهويدها، وقد تمكّنوا عبرها من إذابة هويّتها التاريخيّة والثقافيّة والحضاريّة بأحماض عبريّة إسرائيليّة وإخضاعها للميثولوجيا اليهوديّة في كلّ كبيرة منها وصغيرة: أوّل تلك الإجراءات تمثّل في إخراج تلك الأرض المباركة من دائرة التاريخ العربي والإسلامي لغاية في نفس (أحفاد يعقوب)..فقد اقتُطع سنجق القدس من ولاية الشام العثمانيّة، وهو مطابق لدولة يهودا والسّامرة التّوراتيّة، واختير لهُ ـ بدهاء وخبث ـ اسمٌ يُحيل على الحضور المكثّف للتاريخ، فهو ينفي أيّ علاقة له بالعرب والمسلمين ويُهيّئه بامتياز لاحتضان المشروع الصّهيوني..فتلك البقعة المباركة سمّاها الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أرض الرّباط وأرض المسرى والمعراج وبيت المقدس وأكنافها، وعُرفت في العهد العثماني بسنجق القدس، وكانت تعتبر جزءًا من بلاد الشّام..ولمّا وصلت إلى الحكم جمعيّة الاتّحاد والترقّي الماسونيّة التي تمترس خلفها يهود الدّونمة، فصلوها إداريًّا عن ولاية الشّام واختاروا لها اسم (فلسطين) الذي ينفي عنها عروبتها وإسلامها معًا: فمن الثّابت تاريخيًّا أنّ المنطقة مثّلت منذ الألف العاشرة قبل الميلاد مستقرًّا للقبائل العربيّة على غرار الكنعانيّين والأموريّين والمؤابيّين والأشدوديّين واليبوسيّين (الذين أسّسوا يبوس أي القدس)..وفي نهاية الألف الثالثة أي بعد سبعة آلاف عام من الحضور العربي، ظهر شعب البحر (البلستو) مُهاجرًا من غرب المتوسّط، فاصطدم بدايةً بالفراعنة الذين تصدّوا له وأبادوه وأجبروا بقاياه على التّراجع إلى الأرض المباركة حيث ذابوا في القبائل العربيّة ولم يحفظ التاريخ لهم إلاّ اسم منطقة ساحليّة شمال غزّة (فلسطين)..إلاّ أنّ المنطق الإقصائي العنصري للاستعمار والصّهيونية أبى إلاّ أن يُسند أرض الرّباط والمسرى والمعراج إلى ذلك الشّعب البائد حتّى ينطبق عليها وصف (أرض بلا شعب) فعمّم تلك التّسمية على سنجق القدس بأكمله ليُخرجه من الدّائرة العربيّة والإسلاميّة معًا كمحطّة أولى نحو اغتصابه وتهويده..

المسيحيّة الصّهيونيّة

ثاني تلك الإجراءات يتمثّل في إبرام تحالف عضوي مقدّس بين اليهود والمسيحيّين ضدّ الإسلام والمسلمين: فبشكل لا يصدّق استطاع اليهود تحييد الطّرف الثالث في الصّراع على القدس ـ أي المسيحيّين ـ للاستفراد بالمسلمين، بل إنّهم كرّسوا الميثولوجيا المسيحيّة ووظّفوها لخدمة الميثولوجيا اليهوديّة والمشروع الصّهيوني، وهذا ليس غريبًا ولا جديدًا على اليهود فقد أحدثوا شرْخًا في العقيدة المسيحيّة نفسها ودسُّوا مذهبًا كاملاً فيها (البروتستانت) خضدوا به شوكة الكاثوليكيّة التي تُعاديهم وتُحمّلهم دم المسيح، وانتعشوا في ظلّه واستباحُوا باسمه بريطانيا ثمّ أمريكا فيما بعد..ولإحكام قبضتهم على (أورشليم) وأرض الميعاد أوجد اليهود تفريعًا آخر داخل المذهب البروتستانتي أكثر التصاقًا بالدّيانة اليهوديّة وببني إسرائيل وهو المسيحيّة الصهيونيّة التي تؤمن بالتوراة اليهوديّة (العهد القديم) وبالإنجيل المسيحي (العهد الجديد) معًا..وكما يوحي بذلك اسمُها فإنّ العقيدة المسيحيّة الصهيونيّة متماهية مع نظيرتها اليهوديّة تشاركها في جملة من النّقاط تجعل من التّرابط بينهما عُضويًّا حيويًّا بحيث يتداخلان ويتكاملان ويتمّمان بعضهما ومن هنا يأتي التسخير والتوظيف: فالمسيحيّة الصّهيونية تعتبر أنّ المسيح لن يظهر ثانيةً قبل أن يتمّ تهويد القدس كلّها وأن يُعاد بناء الهيكل فيها، وعندئذٍ يقترب العالم من (يوم الدّينونة) أي من نهايته حيث يظهر المسيح الدجّال أوّلاً ثمّ المسيح الحقيقي ويهلك اليهود جميعًا إلاّ قلّة منهم وتعود القدس مسيحيّة، كما أنّ عودة المسيح الحقيقي إلى الأرض لن تكون إلاّ بعد سبع سنوات من إبرام معاهدة سلام بين اليهود وجيرانهم..على هذا الأساس لا نستغرب الانخراط الكلّي والدّعم العلني لكيان يهود ولتهويد القدس من طرف المسيحيّين الصهاينة القابضين على السلطة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، فإنّ جذوره عقائديّة بالأساس..

مسار الانحسار

ورغم هذا الحلف المقدّس بين اليهود والمسيحيّين في الصّراع ضدّ المسلمين على القدس، إلاّ أنّ مشروع الاغتصاب والتهويد وطمس الهويّة الإسلاميّة لأرض المسرى والمعراج المباركة يبقى فوق طاقة بني إسرائيل وكيانهم المسخ: فنزاع الأمّة الإسلاميّة في مقدّساتها وقتالها مجتمعة تحت راية الإسلام عمَلٌ مُخفق ابتداءً وإن تحالفت عليه أمم الأرض..وهنا يأتي الإجراء الثالث المتمثّل في بتر القضيّة عن سياقها الحضاريّ لتصبح مناسبة لحجم اليهود: فالمتتبّع للسيرورة التاريخيّة للقضيّة الفلسطينيّة يلاحظ دون عناء مسار الانحسار والتضييق الذي اتّبعته نُزولاً حتّى تصبح لقمة سائغة في أفواه اليهود..فبعد أن كانت قضيّة المسلمين كافّةً في شخص كيانهم السياسي ـ الخلافة العثمانيّة ـ تحوّلت بعد تراجع النّفوذ العثماني والقضاء على نظام الخلافة سنة 1924 إلى قضيّة قوميّة أي قضيّة العرب دون سائر الشّعوب الإسلاميّة..ثمّ ما لبثت أن تدحرجت إلى المربّع الوطني بعد إفشال مشروع الدّولة العربيّة الكبرى، فأضحت قضيّة مليوني فلسطيني وبعض دول الطّوق بصفة غير مباشرة..ولم يتوقّف مسار التضييق عند هذا الحدّ فقد استحالت بعد مدريد وأوسلو وأخواتهما إلى قضيّة سكان الضفّة والقطاع ثمّ إلى قضيّة حماس والجهاد دون فتح، ويبدو أنّ اللّقمة ما زالت أكبر من أفواه يهود وأنّها باتّجاه أن تصبح قضيّة معابر ومياه وأسرى ومساجين وتنسيق أمني أي عبارة عن (أزمة سكن) داخل بلديّة تلّ أبيب الكبرى.. (يتبع)

بسام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This