القروض الأجنبية وبداية الحصاد المر: الكومسيون المالي في تونس من جديد..

القروض الأجنبية وبداية الحصاد المر: الكومسيون المالي في تونس من جديد..

من أبرز ما يجب أن يتصف به رجل الدولة إلمامه العميق بالتاريخ، تاريخ الشعوب وقادتها في حال القوة والضعف، للإعتبار والعظة واستخلاص الدروس. إلا أن تونس العقود الأخيرة ابتليت بحكام لا يعني لهم تاريخ بلدهم الملتصق بهم شيئا ولا يمثل لهم الجرح الغائر والمتعفن، الذي أحدثه أسلافهم من حكام القرنين الماضيين بجسم الأمة، سبة وجب محو آثرها والثأر ممن تسبب فيها، بخضوعهم لنظرائهم من حكام وقادة الدول الأوروبية ووقوعهم تحت سطوتهم حتى عادوا لا يشعرون بوقع الذل عليهم ولا يرون غضاضة في الخضوع لما يدبرونه لهم ويمكرون بهم وبأهلهم.

    فلا ما سمي بعهد الأمان الذي فرضه قناصل الدول الأوروبية على حاكم هذه البلاد ذات سنة 1857 والذي فتح أرضنا وديارنا للأغراب الأعداء المتربصين بنا شرا والمتحفزين لاحتلال أرضنا بعد أن دنسوا شرف أهلنا في الجزائر باحتلال أرضهم، مثل لهم سبة وعارا وجب محوه وإزالة آثاره بل عدوا ذلك مأثرة لهم وفخرا يباهون به إخوانا لنا في الدين والملة ويتعالون عليهم أن كنّا سباقين إلى الذل والهوان.

   ولا مثلت ” مسودة الدستور” التي لم يستح سلفهم، سنة 1860، أن يحملها إلى قدوته إمبراطور فرنسا نابوليون الثالث محتل الجزائر الشهباء ليمهرها بختم رضاه عنه دليلا على تمدننا والتحاقنا بركب الحضارة، وصمة خزي تنأى عنها كرامة الأحرار بل صرنا نتيه تعاليا عن إخواننا في الدين والملة أننا أول من اتخذ دستورا…

   ولا كان للكومسيون المالي تلك اللجنة المالية الدولية المشكلة من ممثلي أهم الدول الدائنة لبلادنا، وهي إيطاليا وإنجلترا وفرنسا، عام 1869، حين اشتدت أزمة البلاد المالية التي جرتها السياسة الخرقاء لحكام سفهاء خونة واستحال حينها على الدولة تسديد ديونها الخارجية حتى لم يعد بإمكان الباي يومها أن يمنح أي امتياز أو يعقد أي اتفاقية قرض إلا بموافقة ذاك الكومسيون المالي الذي اشتغل وكأنه وزارة للمالية. والذي لم يقع إلغاؤه، طبعا، إلا سنة 1884 أي بعد انتصاب الحماية الفرنسية بتونس، الدرس الكافي لحكام ما بعد الثورة ليجنبوا البلاد الوقوع فيما أوقعها فيه أسلافهم, بل نكاد نجزم أنهم يتعمدون ذلك ولا يبالون إرضاء لأولياء نعمتهم وسندهم في سلطانهم، فلا التاريخ ينفعهم ولا الإتعاظ بغيرهم مقصدهم.

سبعون ألف كيلومتر مربع من جنوب البلاد مكافأة لبريطانيا مازال ريعها يدر إلى اليوم

فالوضع السياسي الذي حشرت فيه القوى الغربية الكافرة المستعمرة الطبقة السياسية في بلادنا، بأن قيدتها باتفاقيات وعهود يعود عهدها إلى ما قبل الفترة الإستعمارية المباشرة أو التي اتفقت عليها هذه القوى المهيمنة على بلادنا فيما يجب أن يكون عليه وضعنا وما تقاسمته من امتيازات لها بيننا، كالإتفاقية المبرمة سنة في عهد المقيم العام ” جان مونس ” 1948 والتي تمنح بموجبها فرنسا المستعمرة لبلدنا بريطانيا الإمتياز الحصري لاستغلال الطاقة المنجمية على امتداد سبعين ألف كيلومتر مربع من جنوب البلاد كمكافأة لها على مناصرتها لدحر الإحتلال الألماني لفرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى، أو الإمتياز الحصر ي الذي منحته فرنسا لنفسها سنة 1949 لاستغلال ثروة الملح والتي كفّت هذه القوى الباغية أيدي الحكام عنها حتى أصبحت لا تعدها من ثروتها التي تستطيع أن تستثمرها في النهوض باقتصاد البلاد بل وصل الأمر بأحد العلوج أن يتجرّأ على القول أن الطاقة في تونس خط أحمر أي أننا ممنوعون من أن نرنو بأبصارنا إلى ما أكرمنا الله به من نعمة ثروات هذه الأرض الطيبة المباركة. وهو الوضع الذي لم يترك لأغرار السياسة هؤلاء إلا يولوا وجوههم قبلة المنظمات الإستعمرية والمؤسسات الدولية الربوية حتى يرتووا مومكرها ويسقونا من سمها ازعاف فلم تدلهم إلا على القروض الخارجي والإستثمار الأجنبي أو نهش ما تبقى من فتات في جيوب الناس المسحوقين بطاحونة الرأسمالية العفنة التي وقعوا تحت كلكلها ما يزيد عن قرن ونصف مما جعلهم لا يخجلون من التصريح بحجم أرقام الديون التي كبلوا البلاد واقتصادها بها حتى بلغت نفقات خدمة الدين سنة 2018 ما مقداره 19% من ميزانية الدولة و 71.45% من الناتج المحلي الإجمالي.

وهو الوضع التي أصبحت تونس بموجبه مُطالبة بدفع نحو 9 مليارات دينار هذا العام، أو الإلتجاء إلى الاقتطاع من ميزانية التنمية في حال عدم القدرة على الإيفاء بالتزاماتها، أو طلب إعادة جدولة الديون.

” مؤسسة التمويل الدولية ” الفارس الأبيض لنجدة البلاد

   إن الوصول إلى هذه الوضعية الموضوعية لتسليم رقبة البلاد خيانة لها وغباء يستدعي طبيعيا قدوم الفارس الأبيض النبيل للنجدة وهو المتمثل اليوم في ” كوميسيون المال العصري”  وهو المسمى اليوم ب” مؤسسة التمويل الدولية ” التي حل ركبها الميمون بيننا بعد عام واحد من الثورة، في جانفي 2012، استعدادا لمزمزة الفريسة بعد أن فتحت مؤسسة التمويل الدولية هذه مكتبا لها للمرة الأولى في تونس.

هذا القرش المفترس المسمى” مؤسسة التمويل الدولية “، والعضو بمجموعة البنك الدولي، متخصص في استرداد القروض غير المنتجة (هكذا)، جاء إلى بلادنا لإدارة الديون المتعثرة للبنوك التونسية (هكذا) وهي خطوة من جزء من برنامج استعادة الأصول الخاص بمؤسسة التمويل الدولية (نعم استعادة الأصول )، بعد عجز المدين عن الوفاء بتعهداته كحال تونس اليوم. فالذي أقرض ساستنا “الميامين” كان قد أعد سلفا هيئة إنقاذ لديونه التي يعلم سلفا أنه ألقمها سفهاء وهو يعلم أنه سيسترد بشماله ما قدمت يمينه مع عمولة زائدة من”سيادة سادة حمقى” وضنك شعوب وشقائها.

    وهذا ما يرشدنا به مدير مكتب مؤسسة التمويل الدولية في تونس كناصح أمين للخروج من أزمتنا كتبسيط الإجراءات الإدارية ورفع المنافسة في القطاعات الإستراتجية ـ تمكينهم من مؤسساتنا الحيوية بعد أن تمت لهم الهيمنة على ثرواتنا الباطنية حتى عدنا حرسا لهم عليها ـ دون الاستحياء من ذكر أن ما يعنيه من مجالات الإستثمار كالقطاعات التي لديها إمكانات واسعة لخلق فرص العمل، ومنها على سبيل الذكر قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الذي ينمو بسرعة, أو بالصناعات الخفيفة، من قبيل الصناعات الغذائية الفلاحية وكذلك التعليم والصحة, كما يرى أنه لابد من تشجيع الشراكة بين القطاعين الخاص والعام في قطاعات الطاقات المتجددة أو البنية التحتية بوصفها مشاريع جاذبة لرأس مال الخواص.

إلا أن التاريخ لم يفد ولا الواقع أدّب، ولكن يبقى السؤال الحارق هل هؤلاء منا وهل يسوؤهم حالنا…؟

عبد الرؤوف العامري

CATEGORIES
TAGS
Share This