الكرامة… لن تُنال إلا باستعادة الإرادة
هل يدرك سدنة الدولة الوطنية القائمين على الشأن العام، وكل من تولى يوما أمرا من أمور الناس في ظل هذا النظام الذي فرض عليهم، حدود الفضيحة التي أوقعوا البلاد فيها، والعالم يشهد هذه السلسلة من حالات الهجرة الجماعية التي لا تكاد تنتهي، رغم تكرار حالات المآسي التي تصاحبها؟ ورغم صور وأنباء الإهانات التي يتعرض لها أبناؤنا من قبل رجال الأمن والحدود في البلاد المقصودة، أو الظروف التي تفرض عليهم في تلك البلدان من أجل تحقيق بعض الحلم الذي سكن عقولهم، صار القول الشائع على ألسنة المتهافتين على الهجرة إلى خارج البلاد أن الموت بين أمواج البحار واقتحام مجاهيل الحياة أهون عليهم من تحمل حياة البؤس التي يحيونها في بلادهم، أو معايشة من لا يرعى فيهم إلا ولا ذمة، وهم يشاهدون ذوي المناصب ومن شايعهم يستأثرون دونهم بكل المنافع.
إلا أنه وإن كانت الهجرات البشرية أمرا شائعا بين كثير من الشعوب لدوافع مختلفة فإن أغلبها كانت لأسباب عرقية أو لحروب أهلية، فإنها في تونس، ومع تميزها بالتجانس العرقي والمذهبي، فإن حمى الهروب تكاد لا توفر طبقة ولا شريحة إلا ولحقتها، إذ لم يعد الأمر قاصرا على من عضته الأيام بنابها، أم قعد به ضيق ذات اليد عن إدراك أهون الحاجات،
وبعد أن أصبحت الهجرة غير القانونية، والتي لا نعني بها إلا المهمشين من غير ذوي الكفاءات، شغل النواطير المنصبة على رقابنا، لأن الاتحاد الأوروبي فرض عليهم حماية حدوده من “خطر هؤلاء “المجذومين” خدمة لمصالح دوله وشعوبه، فإن الملاحظ أن كثيرا ممن لم يعرف للفقر المادي سبيلا أو أزرت به مكانته في المجتمع، قد أصابتهم عدوى الفرار من البلاد، بعد أن طالعتنا الأنباء أن وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي، أو عميدا لكلية طبّ تونس العاصمة أو رئيس جامعة سوسة قد ترك كل منهم منصبه أثناء مباشرته عمله، واتجه للعمل خارج البلاد، والقائمة طويلة بمسئولي الصف الأول الذين تركوا مناصبهم ليلحقوا بحلم عشّش في عقول كانوا هم ضمن بُناتها.
ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا أن أخطر ما في موضوع الهجرة ونزيف هدر طاقات بلادنا، هو هذا التوجيه المقنع، من قبل القائمين على الشأن العام، لناشئتنا بوجود فرص تحسين الأوضاع و مجال تفجير الطاقات المتوفرة خارج الحدود في جامعات الدول الكبرى لتلامذتنا ولطلبتنا، حتى صار من المألوف، تقديم جرد بأسماء المتفوقين منهم لسفارات الدول الاستعمارية كل سنة دراسية. وكذلك توفير الفرص لكبرى المؤسسات والشركات الدولية لاستقطاب خيرة إطاراتنا، تحت عنوان التعاون الفني وأمام انعدام وجود حوافز محلية تغريهم بالبقاء ببلدهم وتفجير طاقاتهم فيها، حتى صار أسمى أهداف نخبة أبنائنا تحقيق الخروج ومغادرة البلاد.
إلا أن حدود الفضيحة لدى هؤلاء غير مدركة أمام حال من بقي في تونس سواء باختياره، أو لم يجد بابا لمغادرتها، فإن أفق حلمه لم يعد يتجاوز الحصول على أبسط الحاجات الأساسية، بعد أن أصبح مهددا في قوته اليومي وبعد أن صار معهودا أن نرى طوابير الانتظار أمام محلات بيع الخبز وشدة التدافع على نيل ما تيسر منه، أم انشغال ربات البيوت بالحصول على شيء من السميد أو البيض، ولعل في سعر الزيت الذي قارب الثمانية دنانير للتر الواحد الذي لم يكن يتجاوز الدينار الواحد قبل سنوات قليلة، وغيره من الحاجات الحيوية التي تضاعفت أثمانها بشكل سرطاني، ما أدخل التونسي في متاهة البحث عن تحقيق أقل الحاجات اليومية، وإعراضه عن الخوض في الشأن العام بقعوده عن اتخاذ موقف من الصراع “الدونكيشوتي” بين أطراف الوسط السياسي، حكما ومعارضة، لا يعنيه من هموم الناس إلا موضعه من السلطة ويقربه منها، ورئيسا كلما تكلم انحط بالوعي العام دركا أسفل، حين يقصر أزمة فقدان المواد الأساسية في تونس على الاحتكار، حجّة جاهزة يكررها في كلّ مرة مشيرا إلى شخصيات وهمية تقوم بالمضاربة، معرضا عن تحديدها، في تعارض تام، مع كافة المُعطيات والتحاليل والوقائع- حول الأزمة الحالية، في تونس والعالم، وفاتحا في سور حصننا ثلمات يستثمرها أعداؤنا في كل مرّة ليقتحم علينا حمانا ويقوم فينا مقام الناصح الأمين الحامل همنا، ليفرض رؤاه ومعالجاته التي لا تخدم إلا مصالحه.
هكذا قصر هؤلاء النواطير همّ أهل تونس، بالثقافة الهجينة التي لوثوا عقولهم بها، بأدنى الحاجات: هم العيش اليومي أو الفرار من البلاد وإخلائها من طاقاتها، في حين أن الصراع على المستوى العالمي يشتد يوما بعد يوم، إثر الزلزال الذي هزّ أركانه وخلخل هيكله الذي رسمته هيمنة الدول الغربية وسيطرتها عليه، يوم أن اهتزت الأمة هزة أبانت فيها عن أصيل معدنها، وكشفت عن بعض قدرتها، فارتبكت ضباع الظلمة وثعالبها، وتسارعوا إلى إعادة حساباتهم، وصار كل يبحث عن موقعه في عالم ينذر بتغيير جذري في كيانه وتسابق الأعداء لإعداد الفخاخ لبعضهم البعض، وكان لأمريكا قصب السبق في ذلك فأشعلت الحرائق في كثير من النواحي لإكراه الجميع على القبول بقيادتها والتسليم لها بالأدوار التي تحددها لكل طرف، في سعيها لهذه الثورة التي توشك أن تقتلعها من سدة ريادتها للعالم وهيمنتها عليه. إلا “حكامنا” وقد تأصلت الخيانة فيهم وأوغلوا في تضليل الناس بإلهائهم بسفساف الأمور واشغلوهم عن المعالي بتزيين الآمال الكاذبة.
إلا أن أمة الخير التي أكرمها المولى سبحانه وتعالى بأن شرفها بوراثة رسالة خاتم الرسل والكرام، عليها اليوم أن تقطع الرجاء من من باع ذمته لعدوها، وخانها بعد أن خبرتهم لعقود طويلة، وأن تدرك أن حصر همة المرء في شهواته الدنيوية وحاجاته العضوية، وإن كانت مباحة له ميسرة عليه، تحط من كرامته وتقعد به عن تبوء مراتب الريادة فلا هو أكرم نفسه ولا هو نال رغبته. فهذا السبيل الذي يسلكه حكام اليوم بالناس لن ينيلهم مرغوبا مهما صغُر، ولن يرفع عنهم ضيما ناءت به كواهلهم. فما تواجهه اليوم هذه الأمة من عدوان شامل في الأرض يبغي استئصالها بصفتها الكيانية، وحرفها عما يميزها عن كل الكيانات، لهو نفس ما كانت تواجهه الثلة المؤمنة في مكة المكرمة قبل الهجرة بأنها لا تشهد مع الله آلهة أخرى وأن الله له وحده الخلق والأمر. فعلى الأمة أن تحدد على ضوء هذا المفهوم موقفها، وأن ترسم طريقها على ذلك، فقد استدار الزمان، بطغيان الرأسمالية الكافرة، كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية، فقدرها أن تحمل هم الإنسانية، فقد ابتعثها اللهُ لتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وقد سن لها رسول الله أن لا تمكن آذاننا من الأعداء.
يقول الحق تبارك وتعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (110) ـ آل عمران ـ
CATEGORIES كلمة العدد