اللائكية والإلحاد

“العلمانية اليوم نوعان: ملحدة تبلورت في القرن التاسع عشر بعد ظهور الفلسفة المادية من مدرسة هيغل (1770-1831)، ويعتبر فيورباخ أبرز مؤسسيها. وهي تستهدف إلغاء الدين وليس مجرّد الفصل بينه وبين الدولة. ومحايدة وهي تدعو إلى فك الارتباط والتداخل بين الدين والدولة ومن ثم منع رجال الدين من التدخل في شؤون الدولة والمجتمع، على أن تكون الدولة محايدة تجاه جميع الأديان والمذاهب وأن تضمن لكل مواطن حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية من دون تمييز بسبب الأصل أو الجنس أو الدين أو العقيدة…” (عنالاتجاهات العلمانية في العالم العربي،لعبد الله نعمان).
فهناك إذن ما يسمى بالعلمانية الملحدة، وهي العلمانية أو اللائكية المعادية للدين بشكل سافر والتي تستهدف محو الدين من المجتمع.
والمفهوم الشائع للإلحاد يعني انكار وجود إله، ويتمركز حول فكرة إنكار وجود خالق أعظم أو قوة عظمى. جاء في القاموس الفلسفي لجاكلين روس (Jacqueline Russ): “الإلحاد (Athéisme):… مذهب ينفي وجود الإله”.وجاء في معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية للدكتور أحمد زكي بدوي: “الإلحاد، إنكار الألوهة: إنكار وجود أي إله أو إنكار وجود إله مشخص والمعنى الأول أكثر شيوعا. وكذلك يرفض الإلحاد جميع الحجج التي يستند إليها المفكرون في التدليل على وجود الله”.
وعليه، فالإلحاد في المفهوم الغربي، وهو المفهوم الشائع، يعني إنكار وجود إله. ولا شكّ أنّ الكثير من أتباع العلمانية في بلادنا ملاحدة ينكرون وجود إله؛ ولذلك يسخرون من الدين ويحتقرونه ويعتبرونه مظهر تخلف وانحطاط، ثم إن الكراهية الشديدة لكل مظاهر الدين (حجاب، لحية، أذان…) تدل على عقلية ملحدة؛ لأنه لا يمكن لأحد يؤمن بالله ربا أن يتجرأ على الدين كما يتجرأ عليه هؤلاء.
ومع ذلك فالإلحاد في ثقافتنا الإسلامية ثقافة المجتمع التونسي، لا يعني بالضرورة إنكار وجود إله بل هو أعم من ذلك.
قال الله تعالى في سورة الأعراف: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)}. قال الشيخ الطاهر ابن عاشور: “والإلحاد الميل عن وسط الشيء إلى جانبه، وإلى هذا المعنى ترجع مشتقاته كلّها، ولما كان وسط الشيء يشبّه به الحق والصواب، استتبع ذلك تشبيه العدول عن الحق إلى الباطل بالإلحاد، فأطلق الإلحاد على الكفر والإفساد… ومعنى الإلحاد في أسماء الله جعلها مظهرا من مظاهر الكفر، وذلك بإنكار تسميته تعالى بالأسماء الدالة على صفات ثابتة له وهو الأحق بكمال مدلولها فإنهم أنكروا الرحمان كما تقدم، وجعلوا تسميته به في القرآن وسيلة للتشنيع ولمز النبيء عليه الصلاة والسلام بأنه عدد الآلهة، ولا أعظم من هذا البهتان والجور في الجدال فحقّ بأن يسمى إلحادا لأنه عدول عن الحق بقصد المكابرة والحسد” .
وقال القرطبي: “قوله تعالى: {يُلْحِدُونَ} الإلحاد: الميل وترك القصد؛ يقال: ألحد الرجل في الدين. وألحد إذا مال. ومنه اللحد في القبر؛ لأنه في ناحيته. وقرئ {يَلْحَدُونَ} لغتان، والإلحاد يكون بثلاثة أوجه. أحدها: بالتغيير فيها كما فعله المشركون، وذلك أنهم عدلوا بها عما هي عليه فسموا بها أوثانهم؛ فاشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: بالزيادة فيها. الثالث: بالنقصان منها؛ كما يفعله الجهال الذين يخترعون أدعية يسمون فيها الله تعالى بغير أسمائه، ويذكرون بغير ما يذكر من أفعاله؛ إلى غير ذلك مما لا يليق به” .
وجاء في القاموس المحيط: “وألحد: مال وعدل ومارى وجادل، وفي الحرم: ترك القصد فيما أمر به، وأشرك بالله، أو ظلم، أو احتكر الطعام، وبزيد: أزرى به، وقال عليه باطلا…” .
وقال الراغب الأصفهاني: “وألحد فلان مال عن الحق، والإلحاد ضربان: إلحاد إلى الشرك بالله، وإلحاد إلى الشرك بالأسباب، فالأول ينافي الإيمان ويبطله، والثاني يوهن عراه ولا يبطله…” .
فالإلحاد إذن لا يعني نفي وجود الله فقط بل يعني مطلق الميل عن الحقّ وعن دين الله؛ ولذلك وصف الله سبحانه وتعالى المشركين بالإلحاد مع أنّهم يؤمنون بإله. واللائكية بهذا المعنى ملحدة، ومن تبنى اللائكية فقد ألحد أي مال عن الحقّ؛ لأنّه ينفي أن يكون الله تعالى هو الحاكم، وينفي أن يكون الله تعالى هو المشرّع والآمر الناهي ويرفض تطبيق شرعه، وينكر دور الدين في الحياة والمجتمع والدولة. يقول الله عزّ وجل في سورة يوسف: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)}.

ياسين بن علي

CATEGORIES
TAGS
Share This