المؤسسات  العامة:  التدمير الممنهج، والترويض للخضوع ل “روشتًة” البنوك الاستعمارية

المؤسسات العامة: التدمير الممنهج، والترويض للخضوع ل “روشتًة” البنوك الاستعمارية

فُرض على أهل تونس منذ ما يزيد عن قرن ونصف وإلى اليوم، من قبل القوى الاستعمارية وبتواطئ من الحكام المحليين معهم، الخضوع للنظام الرأسمالي بالحديد والنار. ولا يزالون يكتوون بجحيم معالجاته الفاسدة لقضايا الإنسان، وذلك لطبيعة مناقضته للفطرة البشرية واقتصار تلك المعالجات على تحقيق مصالح الطغمة المستأثرة بالسلطة. إلا أنه وإن كانت الدول التي نشأ فيها المبدأ الرأسمالي وتبنته عقيدة ونظاما تحرص، للحفاظ على ريادتها، وهيمنتها، ومكانتها بين الدول على صون أسباب قوتها ومنعتها، والنأي بنفسها من أن تقع تحت طائلة التبعة لأي جهة خارجية، في أي مجال من المجالات حتى لا تفقد قرارها السيادي ولا ترهن إرادتها لأحد غيرها. فتحيط مؤسساتها الإستراتيجية بسياج من الدعم وأسوار الحماية من المنافسة الأجنبية، بل وتحميها من أعين المتطفلين من الخبراء والفنيين الذين تستجلبهم من بلدان العالم المختلفة للانتفاع بخبراتهم، وتقصر تلك المواطن على أبنائها الخلص. فإن المتسلطين على رقاب الناس في بلادنا وعلاوة على إخلاصهم لأسيادهم المستعمرين في تثبيت سلطانهم علينا وتطبيق مبدئهم الفاسد في ديارنا، وإصرارهم على الحرب على الإسلام من أن يعود للحياة باستئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة، فإنهم يعمدون بكل لؤم إلى تدمير ما تبقى من مقومات القوة والمنعة في البلاد، والتفريط في أي سبب من الأسباب التي يظن فيها أن تكون محفزا لمعالجة اقتصادية للبلايا التي جروها على الناس، بزعم المعالجة للآثار السلبية لسياساتهم. فكان من تدبيرهم الأخرق محاولة إيهام الناس أن من أبواب الخلاص اعتماد سياسة الخصخصة والتفريط في المؤسسات العامة  للرأس المال الخاص بذريعة كاذبة كونها أصبحت تمثل عبئا على الموازنة العامة، وحملا ثقيلا على المجموعة “الوطنية”، مما فتح الباب على مصراعيه للتفريط في مؤسسات ربحية للمستثمر الأجنبي، بعد أن تمكنت الدول الاستعمارية وشركاتها العملاقة من السيطرة على موارد الطاقة واغلب مناجم الخامات، تحت مخادعة وبهتان، أن المتقدم للمناقصة يجب أن يكون من أهل الاختصاص، وللعلم المسبق أن هذا الشرط لا يتوفر إلا لدى المستثمر الأجنبي. وعلى هذا وقع تمكين الأعداء من مزيد التحكم في رقابنا وإضاعة أهم الموارد على الاقتصاد الأهلي، فما الذي جنيناه من وراء بيعها… وريعها ينسل من بين أيدينا إلى جيوب الناهبين حتى كاد الرأي العام ينسى أن في باطن أرضه ثروة عظمى وأن على ظهرها مؤسسة مقيم صلبه وتدفع عنه غائلة الذل.

التدمير الممنهج لمقومات السيادة والمنعة

في شهر أفريل 2004 وقع التفريط في أول مؤسسة عامة في سلسلة الخيانات التي دشنها المخلوع حين فرط في  الشركة التونسية للإنشاءات الميكانيكية والإصلاح والبحرية “SOCOMENA” ومركزها ميناء بنزرت ـ منزل بورقيبة والذي عُدً يومها بيع هذا المعلم الذي يحوز المرتبة الثانية في إفريقيا في اختصاصه بعد مؤسسة جنوب إفريقيا، نجاحا للدولة التونسية إذ بالكاد لم تجد إلا الشركة الفرنسية المشرفة على الإفلاس: ” شركة مرسيليا للتصليح ”  la Compagnie Marseille Réparation CMR

  تختص هذه المؤسسة المغدورة بصناعة زوارق البوليستر، ووحدات الترفيه من الألياف الزجاجية، والطوافات من الألومنيوم والعبّارات الفولاذية. كما تقدم خدمات إصلاح السفن والأعمال الصناعية: المعالجة السطحية، وتنظيف الباليت، والأنابيب، واستبدال الصفائح المعدنية، وصيانة الغلايات، وإصلاح محرك الديزل، والإصلاحات الميكانيكية والكهربائية، والأعمال الخشبية، وتغليف معدات السلامة، وتصنيع جميع أنواع أجزاء السفن، بل وتصنيع السلاح.  وتشغل أحواض بناء السفن في هذه المؤسسة 22 هكتارا، بما في ذلك 42000 متر مربع مغطى. لماذا بيعت هذه المؤسسة الدرة وما وجه الخسارة فيها ومن أي باب تأتيها رياح الخسارات والحال أنها كانت من أهم المرافئ المقصودة للسفن العابرة للبحر المتوسط واسألوا سفن الإتحاد السوفييتي إن كانت له بقية من حياة. وأي أفق لطلبة الهندسة والميكانيكا ضاع عن البلد وأبنائه بعد التفريط فيها؟  

هل أن قطاع الإسمنت مجلبة للخسائر وسلعته كاسدة، وعبؤه مكلف على البلاد حتى يقع، سنة 1985 وعبر إحداث صندوق إعادة هيكلة رأس مال المؤسسات العمومية، التفريط في قطاع الاسمنت لتتم خصخصة “جبل الوسط” و”النفيضة” و”قابس” و”جبل الجلود” بل ليتجاوز العدد 217 مؤسسة عمومية وشبه عمومية في موفى سنة 2010 بين خصخصة كلية وجزئية.

     ولعل التذكير بمصير شركة “الرفاهة ” لصنع الثلاجات بعد خصخصتها، وهي  التي كانت تشغل 3000 عامل وكفايتها حاجيات السوق التونسية من الثلاجات بجودة عالية وأسعار تنافسية، بل وكان يمكن أن تنافس البضاعة الكورية، بتطور الخبرات التونسية. فكانت النتيجة المرسومة لخصخصتها أن تغلق المؤسسة نهائيا وهي التي كانت مؤهلة لأن تصبح من أكبر الصناعات المصدرة في تونس.

الترويض للخضوع ل “روشتًة” البنوك الاستعمارية

في شهر سبتمبر 2018 عرضت الحكومة قائمة المؤسسات العمومية التي ستُفرّط فيها  بالبيع على اتحاد الشغل، وقد أكد سامي الطاهري الأمين العام المساعد بالاتحاد، أن توفيق الراجحي الناطق الرسمي باسم الحكومة والوزير المستشار المكلف بمتابعة الإصلاحات الكبرى هو من قام بتسليمها للاتحاد. إلا أن الإتحاد حدد عدد 32 مؤسسة، يرفض التفويت فيها لدورها الاستراتيجي، باعتبارها مكسبا للمجموعة الوطنية بالنظر لطبيعة نشاطها في الدورة الاقتصادية ولأهمية موقعها الاقتصادي والجغرافي ووزنها الاجتماعي. وذلك من ضمن ما يقارب من 184 مؤسسة لازالت تعد عمومية. وعلى هذا يفهم تصريح الطبوبي يوم 31 مارس 2021: “أقولها أمام المشيشي ليست لنا مؤسسات عمومية للبيع وانطلقنا في إصلاح 7 منها ” أن الوقت لم يحن للحديث عن بيع هذه ال32 مؤسسة، وذلك للوضع الاجتماعي المتأزم وأن الحديث حول هذا الموضوع لم يحن بعد.

      لا نجد وكالة التبغ والوقيد على قائمة المؤسسات التي سيدافع الاتحاد عن عدم خصخصتها وهي التي وفرت خلال سنة 2020 عائدات جبائية لفائدة ميزانية الدولة، قدّرت بأكثر من 3 آلاف مليون دينار، فهل أن مادة الدخان في تونس قطاع مفلس أو يخشى من عبئه على الموازنة العامة فأردنا تحميله للخواص وللرأسمال الذي بتتبع المجالات “الخاسرة” لينشغل بها!!!؟

هل يقدر الوسط السياسي واتحاد الشغل أن يتصدى لعملية التدخل التي تقوم بها المؤسسات المالية الدولية؟ سؤال لو أجيب عنه بصدق لاتضحت الرؤيا أمام الرأي العام .

 إن التعلل بإفلاس المؤسسات والتحجج  بالعبء الواقع على المجموعة “الوطنية” وإرهاق الموازنة العامة، للتفريط في أسباب المنعة  حجة داحضة لا يصدقها عاقل, وأما الفساد الأسود الذي لم تنج من مؤسسة والمرتب له ترتيبا إجراميا، حتي تستساغ الحلول المقدمة من المؤسسات الربوية العالمية، فيعالج بإزالة أسبابه وأهمها توفر الإرادة الصادقة لمعالجته ومحاسبة الفاسدين، ويكفي كل ذلك تعيين إدارة من خمسة إطارات كفأة ونزيهة في كل مؤسسة ليعالج الداء من أصله وتسقط كل الذرائع حينها.  

 إلا أن الداء لا يكمن في الفساد على فضاعته وسوءه، ولا في المنافسة العالمية على شدتها، فالسعي نحو الجودة يعوضها. إنما أصل الداء هو في الخضوع للصناديق النقد الاستعمارية واتخاذها مرجعا يعين المشكلة ويمكن من خصائصنا بدون تجسس منه وبدون أي جهد بل نقدم له طواعية ملفاتنا وكل أسرارنا ونقاط القوة والضعف فينا ثم نرجو أن يمحضنا النصح ومن ثمً يقدم لنا الحلول التي تنهض بنا فنستغني عنه ونصبح ندا ومزاحما لشعوبهم ودولهم…

     في ظل فصول هذه التراجيديا العبثية التي يعيشها الأهل في تونس، وفي كامل عالمنا الإسلامي مع هذه الطينة من “الساسة” الذين استمرؤوا ذل التبعية، حتى صاروا يقدمون الخيانه لله ورسوله وللمؤمنين، وما يقترفونه من إجرام، ضمن العلاقات الدولية، بل لم يعد لمفاهيم الخيانة عندهم من معنى، ولا يثير فيهم استعباد سفراء الدول الاستعمارية لهم، وفرض سطوتهم عليهم أي إحساس بالخجل، أو بالحط من الكرامة.

  كل هذا الضنك الذي يطحننا، وكمً الثروات التي حبانا بها الله سبحانه وتلك الأموال التي لا نكاد نحصرها تهدر ويستأثر بها العدو دوننا ولا ينالنا منها إلا الفتات، ومع ذلك فهؤلاء الحكام لا يزالون يعدونكم بالفرج فتطمعون فيه من قبلهم، وأنتم ترونهم يحاربون مع الكافر المستعمر دينكم ونظمه القويمة التي تعالج كل مشكل لديكم، يسالمون أعداءكم وهم عليكم حرب. فالله يأمركم بالأمر بالمعروف وإنكار المنكر والرسول الكريم ﷺ يقول “إِذَا رَأَيْتَ أُمَّتِي تَهَابُ فَلَا تَقُولُ لِلظَّالِمِ يَا ظَالِمُ فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُم”؟!

عبد الرؤوف العامري

CATEGORIES
TAGS
Share This