المبعوث الأممي إلى ليبيا يستقيل ويفضح دور القوى الخارجية

المبعوث الأممي إلى ليبيا يستقيل ويفضح دور القوى الخارجية

أعلن مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا عبد الله باتيلي يوم 16\4\2024 أنه قدم استقالته إلى الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش. وكان قد عين في هذا المنصب في سبتمبر 2022.

وعقد مؤتمرا صحفيا عقب استقالته قال فيه: “إن جهود الوساطة التي قام بها واجهت مقاومة عنيدة وقوبلت بتوقعات غير منطقية ولا مبالاة بمصالح الشعب الليبي”. فهو يعترف أن القوى المتصارعة في ليبيا لا يهمها مصالح الشعب الليبي، وإنما يهمها مصالحها فقط، من بسط النفوذ وسرقة ثروات ليبيا. وأكد ذلك قائلا “نتيجة للتكالب المتجدد فيما بين اللاعبين سواء داخل البلاد أو خارجها على ليبيا وموقعها ومواردها الوافرة زاد من صعوبة الوصول إلى حل”.

فكل دولة تسعى لتحقيق مصالحها الاستعمارية فعندما تحقق هذه المصالح تقول لقد توصلنا إلى الحل، لقد تمكنا من حل الأزمة الليبية!.. وإلا فإنها تقول إنه لم يتم تحقيق أية خطوة أو إننا نسعى إلى ذلك.. أو إن ذلك يحتاج إلى جهود وغير ذلك من الألفاظ. فهذه هي لغة الديبلوماسية لدى هذه الدول، ويظن البسطاء من الناس والسذج أن هذه الدول تسعى للحل لصالح بلادهم.

وهذه القوى المتكالبة هي الدول الاستعمارية الفاعلة والمتصارعة في ليبيا وهي بالدرجة الأولى أمريكا وبريطانيا ثم تليهما فرنسا، وهناك دول أوروبية كإيطاليا وألمانيا تحاول أن يكون لها مكانة دولية، وأن تلعب دورا، ولكنها ضعيفة التأثير فتسعى لتحقيق مصالحها بالتعاون مع دولة كبرى مؤثرة، بجانب وجود روسي محدود قد أوجدته أمريكا عن طريق عميلها حفتر ليتقوى به ضد النفوذ الأوروبي.

ولكن هذه القوى لا تسطيع أن تعمل إلا بأدوات إقليمية ومحلية تنفذ سياساتها ومؤامراتها. والمبعوث الأممي المستقيل يؤكد ذلك. وقال:” إن الشهور الماضية شهدت تدهور الوضع في ليبيا بسبب عاملين رئيسيين الأول هو :” الافتقار إلى الإرادة السياسية وحسن النية من قبل الجهات الفاعلة” وأما العامل الثاني فهو ” الديناميكيات الدولية والإقليمية الناشئة”. فلا توجد لدى الدول الكبرى ولا الدول الإقليمية ما يسمى حسن نية، فكل دولة دولية استعمارية تعمل لمصالحها فقط والدول الإقليمية تابعة لها. ويقصد بالنية الحسنة التجاوب مع ما يريد وما رسم له من قبل الدولة التي يتبعها.

فعبد الله باتيلي كان منحازا لطرف فرنسا، حيث أيّد مشروعها، وهو تشكيل حكومة موحدة تجمع حكومة الدبيبة مع حكومة طبرق الموازية برئاسة أسامة حماد. فرفضته كافة الأطراف لكونها إما موالية لأمريكا أو لبريطانيا واتهمته بالانحياز. حيث إن عبد الله باتيلي وهو ديبلوماسي من السنغال التي تقع تحت النفوذ الفرنسي يتبنى وجهة النظر الفرنسية ويعمل لحسابها.

علما أن كل مبعوث دولي يعمل لحساب دولة كبرى، فلا يوجد للأمم المتحدة سلطة منفصلة، فالدول الكبرى تتحكم فيها. وتؤثر في قراراتها وفي تعينات المبعوثين، بل هي التي تتخذ القرارات وتبدأ بتنفيذها باسم الأمم المتحدة وتعين مبعوثين لتنفيذ قراراتها. وتعمل هذه الدول المتصارعة على عرقلة ما ليس في صالحها.

فالأمم المتحدة هي أس الداء ولا يجب أن تكون. وإذا كانت هناك ضرورة لتأسيس هيئة دولية فتؤسس من قبل دول تتعارف بينها على أعراف  تحترمها وتلتزم بها ذاتيا وأدبيا، من دون أن يكون هناك مجلس أمن مكون من دول كبرى استعمارية لها حق الفيتو فلا يستطيع أحد أن يفرض عليها أي قرار، وهي تفرض على الآخرين وتعمل على تطبيقه بالقوة على الضعفاء وخاصة البلاد الإسلامية والأفريقية، ولا تفرضه على حلفائها وأصدقائها ككيان يهود. فهي مؤسسة ظلم وتعسف وتسلط على الضعفاء. 

واعتبر باتيلي أن” ليبيا اليوم أصبحت ساحة معركة” وقال “وبالنظر إلى وجود تدافع متجدد ومستمر نحو ليبيا على أراضيها المستخدمة كمواجهات عسكرية من قبل جهات فاعلة مختلفة. وأيضا قوات ليبية وجماعية وقوات أمنية في الصراعات السياسية داخل البلاد”. وقال :”إن ليبيا تسير أكثر وأكثر على الطريق نحو فقدان سيادتها”.

فتدخل الدول الاستعمارية باسم الأمم المتحدة في شأنها أفقدها سيادتها. فعندما ثار الشعب الليبي قبل 13 عاما يوم 17\2\2011 ضد الطاغية القذافي عميل الغرب وخاصة بريطانيا قامت الدول الكبرى باستصدار قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ينص على وجوب التدخل العسكري بصورة مباشرة  في ليبيا، وخاصة من قبل أمريكا وفرنسا وبريطانيا، بذريعة حماية الشعب الليبي، وما كان ذلك إلا لمنع تحرره والبلاد من قبضة المستعمرين.  

والكل أدرك أن هذا التدخل هو الذي أوجد المشاكل في ليبيا كما في غيرها من بلادنا، وأزّمها، وساعدها في ذلك العملاء من أهل البلاد أصحاب الذمم الرخيصة الذين ارتبطوا بهذه الدول الاستعمارية من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية، وقد أطلق عليهم قادة، وهم ليسوا كذلك، ولا يبلغون كعب قائد حقيقي، وإنما هم رويبضات يأتمرون بأمر أسيادهم.

وهذه الدول ترسل مبعوثيها ويتدخل سفراؤها في الشأن الليبي بجانب تسخيرها للأمم المتحدة وتطرح المبادرات وتقيم الحكومات والمؤسسات لتحقيق مصالحها الاستعمارية وليس لمساعدة أهل ليبيا والكل يدرك ذلك. ويتبين ذلك من خلال تصريحات وتحركات هؤلاء المبعوثين واتصالاتهم مع الأطراف المحلية التي تعمل كل دولة على تسخيرها لتحقيق مصالحها وتأمين بسط نفوذها في البلد.

 وقد أكد باتيلي ذلك قائلا” كنا بحاجة إلى دعم جميع الأطراف الدولية والإقليمية لتحقيق نتائج ذات معنى. ولسوء الحظ فقد شهدنا على خلفية هذه الأزمة المتطورة مسارات موازية اتخذتها جهات أجنبية مختلفة مما يقوض جهود الأمم المتحدة. وبالتالي فإن استمرار هذا الوضع يعني أنه لن يكون هناك مجال للحل في المستقبل”. فهو يطلب الحل من هذه الأطراف التي هي سبب المشكلة ويعترف أنها متكالبة ومتصارعة! علما أنه لا يريد حلا جذريا صحيحا وإنما يريد حلا توفيقا بين أطراف عميلة للخارج ولحساب دولة خارجية أخرى.  ويؤكد ذلك بقوله”إن الوضع الاقتصادي يزداد سوءا، لأن ليبيا أصبحت مصدرا للتدخلات الاقتصادية الخارجية على خلفية سوء الإدارة من قبل القادة الحاليين الذين ليس لديهم أي اعتبار لمصلحة الشعب الليبي. وبالتالي فإن البلاد تنزلق أكثر وأكثر إلى الفوضى”.

وقال “إن المنظمة الأممية لا يمكن أن تتحرك بنجاح دعما سياسية في مواجهة قادة يضعون مصالحهم الشخصية فوق حاجة البلاد”. فالذين يطلق عليهم قادة ليبيين هم عملاء للدول الكبرى ويهاجمهم لأن أكثرهم عملاء إما لأمريكا أو لبريطانيا. ولو كان بينهم عميل لفرنسا لمدحه وأثنى عليه، ولقال إن هذا يعمل لمصلحة بلده! فعبد الله باتيلي لا يتكلم من زاوية النصيحة وإحقاق الحق وإنما من الزاوية الخاصة له وهي التبعية لفرنسا، وقد فشل في مهمته بتحقيق مشاريعها.

وبذلك عمل على فضحهم على طريقة فرنسا المكشوفة في العمل السياسي فقال:” لو كان الليبيون أحرارا لتمكنوا من خلال حرية التجمع السلمي من إيجاد الحل” وقال ” تحت ذريعة ما يسمى بالمؤسسات الشرعية فإن القادة هم فقط من يمتلكون طريقة للمضي قدما” وقال ” الجزء الأكبر من الشعب الليبي يريد الخروج من هذه الفوضى، لقد جاؤوا إليّ وطلبوا صيغة تتجاوز أولئك القادة الذين لا يريدون وضع حد للأزمة. لكن هؤلاء القادة مدعومون في تكتيكاتهم من الأجانب بطرق عديدة. وبالتالي في ظل هذه الظروف لا توجد طريقة للأمم المتحدة للعمل بنجاح” وأضاف ” كنا بحاجة إلى دعم جميع الأطراف الدولية والإقليمية لتحقيق نتائج ذات معنى. ولسوء الحظ، فقد شهدنا على خلفية هذه الأزمة المتطورة مسارات موازية اتخذتها جهات أجنبية مختلفة مما يقوض جهود الأمم المتحدة”. ويقصد في هذه الجهات أمريكا وبريطانيا ويهاجم عملاء هاتين الدولتين فيقول إنهم مدعومون من الأجانب.  

لقد تمكنت أمريكا عن طريق ديبلوماسيتها ستيفاتي وليامز التي كانت تشغل كمبعوث للأمم المتحدة بالنيابة من تعيين عميلها محمد المنفي ومساعدين اثنين له في المجلس الرئاسي، كما تمكنت من تعيين عميلها عبد الحميد الدبيبة رئيسا للحكومة المؤقتة لمدة سنة. وقد تسلم رئاسة الحكومة رسميا يوم 16\3\2021 إلى حين إجراء انتخابات برلمانية في نهاية السنة أي يوم 24\12\2021.

ولكنه جرى عرقلة عقد الانتخابات، ليبقى الدبيبة متمسكا بالحكومة معلنا أنه لن يسلم الحكومة إلا بعد إجراء انتخابات عامة جديدة. والدبيبة يصر على أن رؤية حكومته للحوار تتمثل في إنهاء كل المراحل الانتقالية بالذهاب المباشر نحو انتخابات تجرى وفق قوانين عادلة وقابلة للتنفيذ كما يدّعي. وأصبح ذلك من غير الممكن أن يحصل قريبا، فكل طرف محلي فاعل له شروطه وهو مرتبط بقوى دولية وإقليمية، ليتعرقل إجراؤها حتى اليوم. وإذا حصلت انتخابات فلن تفرز إلا عملاء لهذه الدولة الاستعمارية أو لمنافستها.

وتتعامل أمريكا مع الدبيبة على أساس أنه رئيس وزراء شرعي، رغم أن البرلمان الذي وافق على حكومته سحب الثقة منه وعين حكومة ثانية. ولهذا فإن أمريكا لا تطرح مبادرات حاليا، وإنما تعمل على تركيز عملائها. وكانت تدّعي أنها تدعم جهود المبعوث الأممي عبد الله باتيلي كما صرح بذلك مبعوثها ريتشارد نورلاند بينما باتيلي يقول ضمنيا إن أمريكا تعمل على عرقلة جهوده..

ويظهر أن أمريكا ليست بعجلة من أمرها في ليبيا، لأن قضية حرب غزة وفرض حلولها فيها وفي منطقة الشرق الأوسط أكثر أهمية من الوضع الليبي حيث لا توجد إمكانية لحسمه نهائيا لحسابها حاليا. فقال باتيلي “منذ نهاية عام 2022 واجهت الجهود التي تقودها الأمم المتحدة للمساعدة في حل الأزمة السياسية في ليبيا، من خلال الانتخابات نكسات وطنية وإقليمية مما كشف عن تحد متعمد للانخراط بشكل جدي، وإصرار على تأخير الانتخابات بشكل دائم”. وليس من المنظور أن تجري الانتخابات العامة قريبا. فأشار عبد الله باتيلي إلى ذلك قائلا:” كل الصراعات في المنطقة اليوم تؤثر على ليبيا سواء الأزمة في أوكرانيا أو الوضع في غزة أو تفكك السودان والوضع الأمني المستمر في منطقة الساحل”.

فتعمل أمريكا على إدارة هذه الأزمات وطرح المبادرات والتدخل المباشر ككونها دولة أولى في العالم يحق لها ما لا يحق لغيرها, وتعمل على فرض هيمنتها وحلولها وتحقيق مصالحها وبسط نفوذها، وهناك دول كبرى تتصارع معها في هذه المناطق كبريطانيا في السودان، وكفرنسا في منطقة الساحل، وروسيا في أوكرانيا، وهناك أزمة غزة وإنعكاساتها في المنطقة وغضب الأمة على أمريكا وعلى الحكام المتخاذلين.

وكان مدير المخابرات الأمريكية وليامز بيرنز قد زار ليبيا العام الماضي يوم 13\2\2023 والتقى بعملائها الدبيبة وحفتر، ومن ثم جاءت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى بربرا ليف واجتمعت مع هذين العميلين الدبيبة وحفتر يوم 21\3\2023. وهذه اللقاءات الأمريكية مع العميلين الدبيبة وحفتر هو لجعلهما يسيران في خطين متوازيين لحسابها وللتنسيق بينهما، ويجري التلاعب في موضوع الانتخابات، فلا تريدها أمريكا أن تجري قبل أن تتأكد من أن عملاءها سيفوزون فيها، وإلا ليبقى الوضع يراوح مكانه.

فحكومة الدبيبة، وحفتر الذي يعتبر نفسه قائدا للجيش الليبي، وبجانبهما المجلس الرئاسي هي قوى محلية تابعة لأمريكا، ولكن بريطانيا لها تأثير في مجلس النواب وفي الأحزاب السياسية وهي صاحبة النفوذ القديم في البلد. وفرنسا تحاول أن توجد لها نفوذا وتأثيرا وتقوم بنشاط وبطرح مبادارات من أجل ذلك. وهي تبدي اهتماما زائدا بالجنوب الليبي المتاخم لتشاد حيث تبسط نفوذها هناك. فقد انطلق في نيسان\أبريل عام 2021 من جنوب ليبيا  تمرد مكون من فصائل تشادية معارضة للرئيس التشادي إدريس ديبي ومدعومة من قبل أمريكا حيث يسيطر حفتر على جنوب ليبيا كما يسيطر على شرقها، وقد قتل عميلها الرئيس التشادي إدريس ديبي في هذه المنطقة، وهو يقود قواته في مواجهة التمرد، وتولى ابنه محمد ديبي الحكم الذي ورث العمالة لفرنسا من والده. ولهذا يعتبر جنوب ليبيا المتاخم لتشاد مصدر قلق لفرنسا وتعمل على أن يكون لها نفوذ في ليبيا للمحافظة على نفوذها في تشاد أيضا.

وذكرت بعض المصادر أن هناك معلومات استخباراتية لدى حكومة الدبيبة على أن فرنسا وقفت خلف الحكومة الموازية التي أعلن عنها البرلمان في شرق ليبيا يوم 10\2\2022 بقيادة فتحي باشاغا للسيطرة على العاصمة طرابلس يوم 26\8\2022 وكانت حصيلة الاشتباكات مقتل أكثر من 40 شخصا. فدعمت فرنسا حكومة باشاغا لإسقاط حكومة الدبيبة ولكنها فشلت. وقد كشف باشاغا أن قوى كبرى منعته من دخول طرابلس ولم يذكرها بالاسم، ويقصد أمريكا. وبعدما فشل باشاغا في دخول طرابلس والسيطرة عليها لإسقط حكومة الدبيبة قام برلمان طبرق وأسقط باشاغا وعين مكانه أسامة حماد كرئيس حكومة مضادة لحكومة الدبيبة الموالي لأمريكا. ومن هنا يتبين أن هناك عدم ثقة لدى الدبيبة تجاه فرنسا التي تعمل على إخفاء وقوفها بجانب الطرف الآخر الذي يسيطر على شرق ليبيا كما يسيطر على جنوب ليبيا المحاذي لتشاد من أجل أن توجد لها تأثيرا عليه لتحمي نفوذها هناك. وقد رفض الدبيبة استقبال المبعوث الفرنسي بول سولير معربا عن رفضه للمبادرة الفرنسية التي تدعو لتشكيل حكومة موحدة من الحكومتين.

والأمة الإسلامية تتلمس الطريق للتحرير الكامل، والتحرر من ربقة الاستعمار وتطهير البلاد من براثنه،  فقد أدركت أن أمريكا عدوها الأول لكونها هي المهيمنة على المنطقة كلها وصاحبة النفوذ والمؤامرات في أكثر بلدانها. وتدرك أن بريطانيا وفرنسا عدوتين لدودتين لها، وأن الدول الأوروبية ومعها روسيا كلها دول طامعة. فلا يعقل أنها تريد الخير لأمتنا، وقد أبلغنا الله عنها، بل تعمل على ذبحها من الوريد إلى الوريد. وطريق التحرير هو الفكر المستنير، والوعي السياسي التام من زاوية الإسلام، والالتفاف حول القيادة السياسية العقائدية المخلصة وإقامة دولتها، خلافة على منهاج النبوة.

أ, أسعد منصور

CATEGORIES
Share This