المديونيّة في تونس: قرضٌ ودَيْن أم دَيْدَنٌ ودِين..؟؟ 2/1

المديونيّة في تونس: قرضٌ ودَيْن أم دَيْدَنٌ ودِين..؟؟ 2/1

حدّث أبو ذرّ التونسي قال: منذ 14 جانفي 2011 عرفت تونس سبع حكومات وتداوَل على الحكم فيها ثلاثة رؤساء و250 وزيرًا و310 كُتّاب دولة وسبعة رؤساء حكومات، ولا يزال الحديث إلى اليوم جاريًا عن أزمة في الحكم وتحويرات وزاريّة مرتقبة ولا يزال الشارع يتململ وينوء تحت وطأة أزمة خانقة مركّبة اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسية…

هذا الكمّ الهائل من التحويرات العقيمة مؤشّر على عدم وضوح الرّؤية وتذبذب المسار السّياسي وهشاشته وعدم ثبات المنوال المتّبع وفشله في إدارة المرحلة فشَلاً ذريعًا: على مستوى الحكم (أزمات سياسية ـ عزوف عن الانتخابات ـ تردّي العمل السياسي ـ تعفُّن الأوساط السياسية ـ انعدام السيادة والسُّلطان…) وعلى مستوى الاقتصاد ( فقر ـ تداين ـ بطالة ـ ضرائب ـ ارتفاع الأسعار ـ هبوط في العملة ـ تدهور المقدرة الشرائيّة…) وعلى المستوى الثّقافي: غزو الساحة التونسيّة بسموم وقاذورات الحضارة الغربيّة (الجندر ـ حريّة الضّمير ـ المثليّة ـ الحريّات العامّة ـ المساواة ـ حقوق الإنسان والمرأة والطّفل…). أّمّا أهمّ مؤشّرات العُقم والفشل وأخطرها وأشدّها فداحةً على سيادة البلاد ومقدّراتها وسلطان أهلها وأمنهم واستقرارهم فهو بلا منازع ارتفاع نسبة المديونيّة العامّة: فما فتئت تونس منذ مسرحيّة الاستقلال تغوص في وحل المديونية سنةَ بعد أخرى وقرْضًا إثر قرض إلى أن استحالت ميزانيّتها مجرّد حساب جارٍ في صندوق النّقد والبنك الدّوليين وسائر مؤسّسات الإقراض العالميّة… وللمفارقة فإنّ هذه المعضلة تفاقمت على أيدي (الحكومات الثّورية) التي ما فتئت تستبله الشّعب وتُشيع بينه أجواء الفشل والهزيمة والإحباط وتشكّك في القدرات الذّاتية المحليّة ـ بشريًّا واقتصاديًّا ـ على الانفكاك من حلقة الاستدانة المفرغة التي تطحن الاقتصاد التونسي وترهن البلاد والعباد والمقدّرات ـ حاضرًا ومستقبَلاً ـ للكافر المستعمر، ودونك الخطاب الأخير لوزير التّنمية والاستثمار والتعاون الدولي زياد العذاري…

فهل صحيح أنّ تونس مضطرّة إلى الاقتراض وأنّه قدَرُها المقدور..؟؟ ألا توجد محرّكات اقتصاديّة أخرى ومصادر بديلة لإنعاش ميزانيّة الدّولة..؟؟ ثمّ مَن وراء تركيز سياسة الاستدانة القاتلة هذه وما هي مضاعفاتها السلبيّة على اقتصاد البلاد وثرواتها وقرارها السياسي..؟؟

أرقام مفزعة

لعلّ أبرز مثال يعبّر عن حال المديونيّة في تونس هو الأرقام المسجّلة، فهي ناطقة بنفسها وفي غِنًى عن التحليل والاستنطاق بحيث تكشف دون عناء عن مدى إجرام الطبقة السياسية الحاكمة في حقّ بلادها ومنظوريها، وفقدانها للرؤية والحلّ والمنوال وخضوعها اللاّمشروط للكافر المستعمر وأذرعه الاقتصاديّة واستعدادها (الفطري) للارتهان والتبعيّة والانتحار السياسي دون تحفُّظ: فمنذ 2011 ازدادت ديون تونس الخارجيّة قرابة 250%  ، حيث اقترضت حكومات الثّورة حوالي 40 مليار دينار (13.5 مليار دولار) وبلغت قيمة إجمالي ديون تونس على يديها 77 مليار دينار (70.7 %  منها ديون خارجيّة)، كما تعدّت في عهدها نسبة المديونيّة العامّة سقف 72%  من الناتج المحلّي ونسبة التضخّم المالي السّنوي 7.5 %…وهي أرقام خياليّة لم تُسَجّل حتّى في أحلك فترات ديكتاتوريّة بن علي وفساد التجمُّع والطّرابلسية حيث قُدّر إجمالي الدّيْن العام التونسي سنة 2010 بحوالي 26 مليار دينار تمثّل 40.7 %  من النّاتج المحلّي الإجمالي…ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، فبما أنّ السّنة المالية الجديدة قد ورثت عن 2018 عجْزًا في الميزانيّة بلغ 05%  وعجزًا في الميزان التّجاري لا يقلّ عن 20 مليار دينار (6.7 مليار دولار) فقد قدّرت ميزانية 2019 أنّ حاجة تونس للاقتراض ستكون في حدود 10.142 مليار دينار (3.4 مليار دولار) وذلك في ظلّ تنامي خدمة الدّيون المتراكمة على الاقتصاد التونسي: فقد بلغت نفقات خدمة الدّين 22 %  من ميزانيّة الدّولة ما يمثّل أكبر باب من أبواب النّفقات العامّة في تونس: فقيمة خدمة الدّين سنة 2018 بلغت 7.972 مليار دينار منها 5.185 لسداد أصل الدّين و 2.787 لسداد الفوائد…ولتقريب الصّورة من الأذهان، فإنّ كلّ مولود جديد في تونس في ذمّته ستة آلاف دينار (كريدي) لمؤسّسات الإقراض العالميّة بحيث أنّ الجيل الحالي برمّته قد يعجز عن سداد فوائد الدّيون فحسب، أمّا أصل الدّين فالذين كُتِب عليهم سدادُه ما زالوا في أصلاب الرّجال وترائب النّساء…فجريمة الارتهان تتجاوز الجيل الحالي إلى الأجيال التي تليه…

أدواء وعلل

هذه الأرقام المفزعة تعكس أيضًا جملة من الأدواء والعلل القاتلة التي تنخر جسد الاقتصاد التّونسي وتُلقي بظلالها وضلالها على ميزانيّة الدّولة وميزانها التّجاري وعُملَتِها ومؤسّساتها العموميّة وطبقتها الشّغيلة وصناديقها الاجتماعيّة وقفّة سواد شعبها ومقدرته الشّرائيّة، ثمّ ـ وهذا الأخطر والأهمّ ـ على سيادتها وسلطانها وقرارها السّياسي… وهي أمراض مُزمنة متداخلة متشابكة آخذ بعضها برقاب بعض بحيث تنسِلُ من أرحام بعضها فهي في نفس الوقت سبب ونتيجة في حلقة مُفرَغة تطحن الاقتصاد والدّولة والإنسان يُذكيها المستعمر وأَذرُعُه البنكيّة الرّبوية بأدوات وقفّازات محليّة كرّست التّبعيّة والارتهان وأغرقت البلاد في مستنقع المديونيّة..

فمؤشّرات تفاقُم الأزمة الاقتصاديّة والماليّة التي تمرّ بها البلاد يمكن تلخيصُها في عجز الميزانيّة العموميّة للدّولة وعجز الميزان التّجاري وتدهور العُملة المحليّة وارتفاع حجم كتلة الأجور وسوء التصرُّف المالي: فتمويل الميزانيّة يكاد يكون حكْرًا على الضّرائب والقروض وبدرجة أقلّ مداخيل السياحة وبعض الصّادرات وتحويلات التونسيّين بالخارج، أمّا ثروات البلاد الطّاقية والمنجميّة خاصّةً فهي نهب للكافر المستعمر وشركاته إمّا مباشرةً أو عبر آليّة الشّراكة والاستثمار…والميزان التّجاري يشكو انخرامًّا حادًّا مُشطّا مزمنًا ناتجًا عن تراجع الصّادرات مقابل ارتفاع الواردات في ظلّ شُحّ الموارد الماليّة الدّاخليّة وعدم قدرة السّلع التّونسية على المنافسة في الأسواق العالميّة…كما أنّ الدّينار التونسي يشهد انزلاقًا متواصلاً مع ارتفاع أسعار صرف أهمّ العملات الأجنبيّة وهبوط في العملة الصّعبة ونسبة تضخُّم ماليّ بلغت 7.5% …أمّا نفقات الأجور فقد استهلكت 14%  من النّاتج المحلّي في ظلّ ارتفاع نسبة الموظّفين بالإدارات العموميّة وتراجع الإنتاج: فشركة فسفاط قفصة التي كانت تشغّل 08 آلاف عامل وتنتج سنويًّا 08 ملايين طنّ من الفسفاط أصبحت تشغّل 30 ألف عامل ولا تنتج إلاّ 3 ملايين طنّ، هذا دون أن ننسى الانفجار الوزاري والنّيابي والإطاري الذي فاقم عبئه كتلة الأجور…وعن سوء التصرّف المالي ـ لاسيّما في البلديّات والمجالس الجهويّة والمؤسّسات العموميّة ـ فحدّث ولا حرج…هذه العلل المتراكبة وهذا الشحّ في محرّكات الاقتصاد النّاتج في بعض تفاصيله عن المديونيّة دفع بحكومات العجز والعمالة والتبعيّة إلى البحث عن مصادر بديلة لتمويل الميزانيّة واللّجوء إلى أقربها وأسهلها ـ وهي المديونيّة نفسها ـ بمنطق (وداوني بالّتي كانت هي الدّاء)…

المديونيّة شرعًا

إنّ مديونيّة الدّول تحيل مباشرةً على مؤسّسات الإقراض العالميّة الكبرى وعلى القروض الرّبوية وفوائدها، وهذا بالنّسبة إلى الدّولة الإسلاميّة المبدئيّة يثير في الأذهان تساؤلاً جوهريًّا: هل يجوز شرعًا الاستقراض من الدّول الأجنبيّة ومن المؤسّسات الماليّة الدّولية..؟؟ أمّا الإجابة فهي عدم الجواز قوْلاً واحدًا، لأنّ الاستقراض من تلك المؤسّسات لا يتمّ إلاّ بفوائد ربويّة وبشروط استعماريّة: أمّا الفوائد فمُحرّمة شرعًا مهما قلّت، فكثير الرّبا وقليله حرام لا فرق في ذلك بين القرض الاستهلاكي والقرض الإنتاجي لأنّ نصوص الكتاب والسنّة وردت عامّة وقاطعة في تحريم جنس الرّبا… ففائدة القرض هي عين الرّبا المحرّم شرعًا تحريمًا مغلّظًا بصريح الكتاب والسنّة: قال تعالى (يمحق الله الرّبا ويُربي الصّدقات) وقال (وأحلّ الله البيع وحرّم الرّبا) وقال (يا أيّها الذين آمنوا لا تأكُلوا الرّبا أضعافًا مُضاعفة واتّقوا الله لعلّكم تفلحون)… كما قال الرّسول صلّى الله عليه وسلّم (كلّ قرض جرّ نفْعًا فهو ربا) وقال (لعن الله آكل الرّبا ومُكله وشاهديه وكاتِبه) وقال (الرّبا بضعٌ وسبعون شعبة أدناها كناكح أمّه في ظهر الكعبة)، وهي كلّها نصوص قطعيّة في دلالتها على التّحريم محكمة غير منسوخة.. وقد حاول بعض تجّار الفتاوى وفقهاء الاستعمار المعاصرين إجازة القروض الرّبوية بحجّة القاعدة الشّرعيّة (الضّرورات تبيح المحظورات) وهو محض افتراء على الله ورسوله وتحايُل على شرعه الحنيف: فالقاعدة المذكورة متعلّقة بالمطعومات والمشروبات فقط لا تتعدّاها، وهذا واضح من السّياق القرآني (إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أُهِلّ به لغير الله، فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إنّ الله غفورٌ رحيم)…وحتّى بهذا المعنى فإنّ الضّرورة ليست الحاجة، بل هي كما يُعرّفها الفقهاء (بلوغ الشّخص حدًّا إن لم يتناول الحرام هلك أو أوشك على الهلاك) ويُشترط فيها أن تكون واقعة لا منتظرة وألاّ يجد المضطرّ طريقًا غيرها وأن يثبت أو يغلُب على الظّن وجود خطر حقيقي على إحدى الكليّات الخمس… فهل الامتناع عن الاقتراض من صندوق النّقد لتمويل الميزانيّة يؤدّي إلى هلاك الحرث والنّسل…؟؟ وهل سُدّت جميع أبواب الحلال حتّى نلجأ إلى الحرام..؟؟

المديونيّة والاستعمار

هذا عن الرّبا، أمّا عن الشروط الاستعماريّة فإنّ واقع مؤسّسات الإقراض ـ على غرار البنك الدّولي وصندوق النّقد الدّولي ـ وواقع القوى العُظمى التي وراءها يبيّن ذلك بجلاء: فهي أذرع اقتصاديّة استعماريّة ومؤسّسات بنكيّة ربويّة توظّفها الدّول الكبرى للتحكّم في مصائر سائر الدّول النّامية وابتزازها ورسم سياساتها بما يحقّق مصالحها الاستعماريّة وذلك عبر إغراقها في دوّامة الدّيون والتدخّل في شؤونها الدّاخليّة والخارجيّة وفرض التبعيّة الاقتصاديّة والسّياسية والثّقافية عليها… فحيثما حلّت هذه المؤسّسات يزداد الفقر وتتفاقم المديونيّة، لأنّ تدخّلها يكرّس المشاكل ولا يحلّها، فوصفاتها وتوصياتها ليست حلاًّ بل هي جزء من المشكلة نفسها: إذ تُغري الدّول التي تمرّ بصعوبات اقتصاديّة بالاقتراض الرّبوي لأجل مشاريع استهلاكيّة غير منتجة لا تُنعش الدّورة الاقتصاديّة ولا تعود بأيّ نفع على البلاد والعباد بل تجعل الدّيون تتراكم إلى أن تعجز الدّول عن سدادها فتصبح سيفًا مسلّطًا على رقابها وتظلّ تحت سيطرة الاستعمار…فالاقتراض من هذه المؤسّسات الرّأسماليّة الرّبوية من شأنه أن يزجّ بالبلاد في حضيض الفقر والتبعيّة والارتهان وفقدان السّيادة والسّلطان كما يُجَيِّرُ اقتصادها وشعبها لخدمة الدّين وسداد الفوائد قبل الأصول، وهو شكل فظيع من أشكال استعباد الشّعوب، ودونك مثالاً ما حدث للسّودان: فحجم مديونيّته يبلغ 45 مليار دولار مع أنّ أصل الدّين لا يتعدّى ملياري دولار، أمّا البقيّة (43 مليار دولار) فهي فوائد لخدمة الدّين…وهذه المؤسّسات تقدّم لضحاياها أينما حلّت وصفة مسمومة قاتلة تسوقها في دسم الإصلاح والإنعاش والتّنمية وجدولة الدّيون، وتضمن بها تحقيق هدفين: أوّلاً استرجاع ديونها ولو على حساب البلاد والعباد، وثانيًا تكريس الاستعمار في البلاد وفرض خياراته الاقتصاديّة والسياسيّة والثّقافية…وقد قُدّمت تلك الوصفة لكلّ الدّول العربيّة والإسلاميّة التي تعاملت مع تلك الصّناديق (مصر ـ السّودان ـ الأردن ـ تونس ـ الجزائر…) والتزمت حُكوماتها بتنفيذها بحذافيرها، فلم يزدها ذلك إلاّ فقرًا وتبعيّةً وضنكًا، بما يرهن إرادة المسلمين بإرادة الاستعمار ويجعل للكفر والكافرين على المؤمنين سبيلاً وهذا لا يجوز شرْعًا…

بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This