لا يخفى عن ذي بصيرة عاقل ما للمساجد من دور مركزي في ترسيخ جملة المفاهيم والقناعات والمقاييس التي تتشكل من خلالها الشخصية الإسلامية ويكتسب المجتمع منها صبغته التي تجعله مختلفا عن المجتمعات الأخرى التي تتشكل بدورها من عقلية فصل الدين عن الحياة لدى الغرب عموما ومن هنا أي من خلال محورية دور المساجد وعلى اثر احتدام الصراع الحضاري بين الدولة الإسلامية والدول الغربية قرر هذا الأخير أن تتضمن جميع مشاريعه الاستعمارية مخططات مدروسة بدقة لانتهاك الحصون الإسلامية من خلال ثغرة تحدثها في حصوننا المساجد.
بداية كلنا يذكر أن الحملة الصليبية الفرنساوية بقيادة نابليون بونابرت قد دهست خيولها الجامع الأزهر الشريف في إشارة واضحة إلى أن معركة العسكر تنتهي من حيث تبدأ المعركة السياسية على أعتاب المساجد بتغيير خطابها وتجميد تأثيراتها في العقل والوجدان وكذلك فعل النظام الفرنسي إبان احتلاله تونس من خلال تقزيم دور جامع الزيتونة بل محاربة شيوخه وسجنهم وقتلهم غدرا وبهتانا إن اقتضى الأمر وهو نفس الشيء الذي كان يحصل في الجزائر وغيرها من البلاد الإسلامية المعنفة. ولا زالت الدولة الفرنساوية إلى يوم الناس هذا تغلق المساجد كلما شارفت انتخاباتهم على الانطلاق من سبب ومن غير سبب. وليست فرنسا استثناء فالمسجد الأقصى كان مركز الثقل في جميع أجيال الحروب الصليبية التي مرت من ساحاته منذ وعد بلفور البريطاني المشئوم إلى حين جعل القدس عاصمة مشتركة بين كيان يهود والفلسطينيين في صفقة القرن المشروع المقترح أمريكيا وذلك لرمزية المسجد الأقصى من جهة وتنكيلا بتاريخ المسلمين من جهة أخرى وسحقا لمشاعرهم الإسلامية التي تشرئب دوما للمسجد الأقصى المبارك. إذا الهجمة الغربية الشرسة على مساجدنا انطلقت على يد ساسة قشتالة في الأندلس ولم تنتهي إلى الآن زمن السياسة الديمقراطية الكالحة لان المساجد ببساطة تعبر عن إحدى تجليات العقيدة الإسلامية حيث يقتضي الأمر أن لا يدعى إلا الله وأن لا تشريع إلا لله ولا حكم إلا لله وأن لا تنظيم لحياة الرجل والمرأة إلا لله وأن لا توزيع للثروة إلا وفق أحكام الله. إذا نظرة الساسة الغربيين للمساجد نظرة مبدئية ولذلك هي لا تقبل إلا مساجد تتوافق ومبدأها الرأسمالي ولهذا ترحب بالإسلام الفرنسي ومساجده والإسلام الأمريكي ومساجده والإسلام البريطاني ومساجده فقط وغير ذلك مسجد خارج السيطرة إما أن ينصهر منذ البداية بالعقيدة العلمانية مبنى ومعنى وإما أن يتعرض لجميع أنواع الهرسلة والقرصنة والرسكلة حتى يبوء إلى دار الطاعة الغربية. نعم إن الحضارة الإسلامية تبني مساجدنا بالفكرة والعمارة وتحمي كنائسهم وفي المقابل حضارة الغرب تهمل كنائسها فتكون خاوية من الناس فارغة من الفكر السياسي لأنه لا ينبثق عنها نظام يعالج مشاكل الحياة ويهدم النظام السياسي الغربي مساجدنا ويحظر مآذننا.
وبالأمس القريب تنادى القوم من الدول الأوروبية والأمريكية لاستنكار تحويل آيا صوفيا إلى مسجد وقالوا إنها إحدى الكبر التي لن يغفروها مطلقا ولن يشفع لاردوغان انه غارق في العلمانية إلى حقويه حيث إن خطيئته تلك استثارت رمزية ذاك المسجد ومنه تتوحد مشاعر المسلمين وهذه بادرة يخشى الساسة الغربيون أن تؤدي إلى وحدة سياسية مرتقبة.
كما تجدر الإشارة إلى أن ساسة الغرب يسلطون أذنابهم من الحكام المارقين على المساجد كما سلطوا مصطفى كمال ووفروا له الغطاء السياسي والمالي حتى وصل به الأمر إلى محاربة لغة الآذان رأسا وغلق المساجد عنوة وليست أفعاله الشنيعة تلك إلا إحدى مظاهر التحول الفعلي من النظام السياسي الإسلامي إلى النظام الجمهوري الديمقراطي وهو أصل الصراع الحضاري بين الغرب والمسلمين. وتلاه بورقبية في تونس من بعد حيث كان يجاهر بمعصية غلقه لجامع الزيتونة المعمور أمام أسياده المستعمرين إثباتا لولائه. وقد كان بن علي أكثر منه إجراما وواصل مشروع انتهاك المساجد حذو القذة بالقذة والساسة الغربيون شاهدون بل يعطونه الأوسمة ويلبسونه النياشين. وهاهو عدو الله السيسي كاهن النظام المصري يجدد سيرة أسلافه ويتابعه في ذلك السفاح بشار بيدق النظام الدولي في شام العز.
هي إذا حرب حضارية رأس حربتها النظام السياسي الغربي والحكام في بلادنا تابعون منهكون من كثرة ما يأتيهم من أجندات غربية لاستباحة المساجد وتهوين أثرها على الفرد والمجتمع ولذلك هم يغيرون من عناوين حروبهم تارة باسم تطوير الخطاب المسجدي وتارة باسم مقاومة الإرهاب وتارة باسم التعايش السلمي, وآخر عملياتهم الحربية “الكورونا” التي اختطفت الجمعة والجماعة بينما خمارات الفسق الفرنسي وماخورات الفساد الأمريكي وبؤر نهب البترول الانجليزي تعمل بلا كلل ولا ملل. هذه هي القضية الأساسية المؤلمة أن تكون في أرضك ولا تؤدي فرضك إلا بما يسمح به المستعمر الكافر. وسوف لن يتوقف مكره حتى تلعن الأمة الإسلامية المساجد وتنفض عنها بإرادتها وهذا لن يكون حتما. وهو ما يجعل المستعمر الكافر ينتقل إلى محاكم تفتيش جديدة بالتوازي مع غلق المساجد وتحويلها إما إلى كنيسة أو خمارة وقد حدث هذا في التاريخ حقا. وهذا الوعي من الأمة الإسلامية على هذا الصراع الحضاري يقتضي من الجميع الالتفاف على المساجد فمساجدنا قلاعنا ومآذننا حصوننا ويجب أن تكون الحلقة الأقوى في سياسة الدولة لا الحلقة الأضعف كما المشاهد اليوم في الدول العلمانية وذلك كائن في الخلافة النظام السياسي الوحيد القادر على جعل مكانة المساجد ضمن نسيج مجتمعي يتكامل فيه الاقتصادي والسياسي والثقافي والخارجي والداخلي.