المسكوت عنه في الأزمة التّونسيّة

المسكوت عنه في الأزمة التّونسيّة

صارت الأزمة في تونس هي الأصل أمّا الاستقرار فاستثناء قد يتحوّل إلى حلم، فلا حديث في تونس إلّا حديث الأزمة (غلاء يقتل النّاس يوميّا، ومنظومات صحّيّة وفلاحيّة وتعليميّة تنهار كلّ يوم تُنذر بالأسوإ،…)

فمن هو صانع الأزمة؟ هل هم السّياسيّون حكّاما ومعارضة أم هو النظام الدّيمقراطي؟ أم هو التدخل الخارجي الغربي الرأسمالي الاستعماري المستتر الذي يتحكَّم بمفاصل الحياة السياسية الداخلية والخارجية فيه؟ أم هم هؤلاء الثلاثة مجتمعين؟

الأزمة في تونس هي أزمة كيان مصطنع

تونس، كغيرها من (الكنتونات) التي يعيش فيها المسلمون (ليبيا، والجزائر وسوريا والعراق والأردن وفلسطين…) نشأت كيانا بعد أن سُلِخت من جسم دولة الخلافة العثمانية، في بداية القرن الـ19م، على يد الفرنسيين والإنكليز، الذين عملوا على تحطيم كيان المسلمين.

وبعد أن كانت تونس قائدة الجناح الغربي للدّولة الأولى في العالم الدّولة الإسلاميّة، وبعد أن كانت تنطلق من مرافئها الأساطيل لفتح صقلّيّة وبعد أن كانت محطّ أنظار العلماء في العالم, قامت في تونس، كغيرها من الدّويلات المستحدثة، دويلةٌ منزوعة السيادة منهوبة المقدِّرات، ولم يخرج المستعمر بعساكره من تونس إلّا بعد أن ضمن تبعيّتها.

وأوّل مظاهر التبعيّة حكّام علمانيّون يعشقون الفكر الغربي بل يعبدونه، ويُعادون الإسلام دين التّونسيين، وعمل حكّام تونس ولا يزالون على تنفيذ سياسات الغرب المستعمر ليكونوا نواطير يحفظون مصالحه، وأدوات صراع داخلي وخارجي بين دول الاستعمار (أوروبا). مثلهم مثل حكام دول المنطقة المستحدثة لا يختلف اثنان على عمالتهم وسوئهم، وإنما يختلفون على الجهة التي هم عملاء لها: هل هم تابعون لأمريكا، أم لفرنسا، أم لبريطانيا…

وهذا الواقع يضعنا أمام حقيقتين ثابتتين:

  • أولاها أن بلاد المسلمين، ومنها تونس، مستعمَرة تحت نفوذ الدول الغربية الرأسمالية المتصارعة فيما بينها دائمًا على المصالح.

  •  وثانيها أن سفارات الدول الاستعمارية، هي التي تدير البلاد من وراء ستار، وتضبط تصرفات حكامها وقراراتهم بسياسة دولها المرسومة لها؛ فهي المتحكِّمة، وهي التي تأمر وتنهى فيه، وهي التي تتابع تنفيذ سياسة دولتها في هذا البلد، وهي التي تدير سياساته كما تدير أزماته بعد أن تصنعها…

وإذا عدنا إلى الأزمة الكيانية التي تعصف بتونس، وجدنا فئة حاكمة (رئيسا ومعارضة) بلغ السوء منهم مبلغه. أضاعوا ما بقي من ثروات البلاد، وأهدروا سيادتها إهدارا، وازدادت البلاد في وقتهم ارتهانا، وهم مع ذلك يخططون للبقاء في الحكم والفوز في الانتخابات، أو العودة إلى المناصب بالرغم من تبرُّم الناس الشديد منهم…

 ولكن لا يظنّنّ أحد أنّ أشباه الحكام هؤلاء يُبرمون أمرا أو يحكمون فعلا، ولا يظنّنّ أحد أنّ وصول الواصلين إلى الكراسي كان بالانتخابات، أو بالكفاءة، ولا يظنّنّ أحدٌ أنّ المعارضة “الرّسميّة” من الأحزاب العلمانيّة تُعارض بقرار منها أو أنّها تعلي أو تُسقط رئيسا أو حكومة أو وزيرا، بل الكلّ يتحرّك وفق أوامر تأتي من غرف عمليّات تُدار من خلف أسوار السّفارات.

 ذلك أنّ الحاكم الفعليّ لتونس الذي يأمر وينهى هو الغرب المستعمر، فانظر إلى النّاحية الاقتصاديّة تجد كلّ ما أعلنته وزيرة الماليّة من زيادة في الضّرائب بزعم الإصلاح الضّريبي إن هو إلّا أوامر صندوق النّقد الدّولي، وانظر إلى وزير الاقتصاد وحديثه الذي لا يكاد ينتهي عن “الإصلاح الاقتصادي” لن تجد إلّا ما خطّته أيادي خبراء السّوء؛ صندوق النّقد وأعوانه، أمّا حديث الرئيس عن عدم رفع الدّعم فحديث خرافة يُكذّبُه الواقع اليوميّ للأسعار التي صارت تشوي النّاس شيّا.

وانظر إلى السّياسة الخارجيّة فهل ترى من سيادة؟ هل ترى من موقف؟ بل هل ترى من سياسة أصلا إلّا الاستجداء والتوسّل والحجاج حول انضباط تونس بالحريّات والدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان في محاولة لإرضاء السيّد الغربيّ بأنّ تونس لم تتغيّر بعد الثّورة وأنّها لن تُقلع عن تبعيّتها..

وانظر إلى التّعليم ومن يخطّط لإصلاحه، تأتيك أخبار اللجان الأوروبيّة السّاكنة في مكاتب وزارة التربية.

فأين هي الدّولة إذن؟ أليست الدّولة هي السّلطان الذي يرعى شؤون النّاس ويقوم على مصالحهم؟ أليست الدّولة هي السّلطان الذي ينظر في مشاكل النّاس ليحلّها؟ الفلاحة على أبواب الانهيار إن لم تكن انهارت فعلا، فماذا فعلت السّلطة في تونس؟ لا شيء سوى خطب الرئيس التي تزعم أنّ الفلاحة تنهار بفعل مؤامرة الفاسدين (هكذا) الذين يريدون إسقاط الدّولة. ثمّ يمضي ويستمرّ الانهيار.

أين هي الدّولة والمنظومة الصّحيّة تتلاشى؟ فلا مستشفيات بقيت ولا الأدوية متوفّرة،

أين هي الدّولة؟ سؤال يتردّد على ألسنة الجميع صغارا وكبارا.

المسكوت عنه في أزمة تونس 

تونس مجرّد كيان مصطنع معزول اصطنعه المستعمر وجعله معزولا باسم الاستقلال لتسهل السّيطرة عليه ويسهل توظيفه وهكذا فُعل بباقي بلاد المسلمين. فالحقيقة التي يُنكرها الوسط السياسيّ أنّ تونس تحت الاستعمار المباشر تتحكّم في قرارها السّفارات الأجنبيّة وكل ما يجري في تونس وليبيا والجزائر تحت سيطرتها وبإشرافها، وتسير بحسب خطة لها وضعتها للمنطقة ككل، وتونس جزء منها.

فما يجري اليوم في تونس هو جزء من مخطط غربي متعلق بالمنطقة وكلّ بلاد المسلمين، يعمل على تقسيم المنطقة من جديد وفق معايير تمنع وحدتها وتبعد الإسلام بقوة عن الحكم عن طريق فرض دساتير علمانية، وتسليم الحكم إلى عملاء جدد لها من منظمات المجتمع المدني ومن غيرهم، وإبعاد المسلمين عن المطالبة باستئناف الحياة الإسلامية، ومحاربة الحركات والأحزاب السياسية الإسلامية التي تعمل لإقامة دولة الخلافة من جديد. بالإضافة إلى وضع يدها على ثرواته ومقدراته؛ فما يجري في تونس يجري مثله في سوريا، والعراق، وليبيا، واليمن وفلسطين وإفغانستان…

ولن تستوي الطبخة الاستعماريّة لمستقبل تونس حتى تضمن تنفيذ خطتها في كلّ المنطقة.

هذا هو المسكوت عنه في الأزمة التونسيّة، يسكت عنه السياسيّون والإعلاميّون وكثير من المثقّفين، هم يسكتون عن المستعمر أو يتحاشون الحديث فيه أو يُحرّفونه خوفًا أو طمعا… خوفا من الإزاحة وطمعا في المنصب، نعم الجميع يعلم بأمر المستعمر والجميع يتوجّه تلقاءه ليقدّم نفسه للخدمة، يرجون من أمريكا أو فرنسا أو بريطانيا التدخل لحل الأزمة أو المساعدة في حلّها، فقسم منهم يطلبون التدخّل الأجنبي لإعادة المسار الدّيمقراطي والقسم الآخر يطلبون دعم مسار 25/07، ويظنّون أو يريدون أن يظنّوا أنّ الغرب لا يد له في صناعة أزمة تونس ويطلبون من المستعمر الخلاص وهو الذي ورّطهم وهو الذي استعملهم،

 يظن كثير من النّاس أنّ “حكّام” البلد الحاليين والسابقين هم وراء أزمته، ووراء تعقيدها. والحقيقة أنه لا الرئيس قيس، ولا حركة النّهضة ورئيسها، ولا الأحزاب العلمانيّة، ولا جهة سياسية أخرى محليّة أو إقليميّة كالجزائر أو تركيا أو قطر أو الإمارات تستطيع أن تُقرر شيئًا مما يجري في تونس بعيدًا عن التوجهات الغربيّة، فما هؤلاء إلا مجرّد بيادق في لعبة شطرنج السياسة الدوليّة في المنطقة. السياسة التي تتّبعها أوروبا من أجل إهدار ثورة الأمّة الإسلاميّة التي انطلقت من تونس من أجل منع سقوط الأنظمة العميلة ومن أجل استمرار الهيمنة الغربيّة على العالم وعلى بلاد المسلمين. من أجل منع المسلمين في تونس وفي كلّ البلاد الإسلاميّة من الوحدة الحقيقيّة في إطار كيان سياسيّ يجمعهم كما كان يجمعهم من قبل دولة الخلافة التي نادى بها الثّائرون في تونس وليبيا ومصر واليمن والشّام…

نعم إنّ الغرب بقيادة أمريكا يسعى إلى إدامة سيطرته على المسلمين، والثّورة في هذا السياق تخيفها ويُخيفها أكثر شعوب المسلمين الذين كشفوا أمر الاستعمار وعرفوا مكره وتضليله، ويرفضون العودة إلى زمن الخنوع والسّكوت. فرغم مرور مائة عام من الاستعمار من تفريق الأمّة وتضليل شعوبها وإفساد أذواقهم وإفقارهم وتجهيلهم و… لم يستطع المستعمر أن ينال من عزائمهم، وهاهم اليوم يتحرّكون يرفضون الغرب وسياساته وعملائه، ومن جرّاء ذلك صارت أمريكا وبريطانيا وفرنسا أعجز من أن تسيطر على شعب من شعوب المسلمين ولم يبق لهم سوى بضعة عملاء، منكشفين ضعفاء ومكروهين، ولولا بقيّة من حماية لما وجدنا منهم أثرا.

وفي مقابل حيويّة المسلمين، ترى الغرب كلّ الغرب اليوم، في أزمات متتالية، سياساته خبط عشواء، أزماته الاقتصاديّة لا تكاد تنقطع، أمّا حضارته فما عاد لها من بريق فقد انكشف زيفها ولم يبق لهم من فكر إلّا الدّفاع عن كلّ أنواع الشّذوذ، أمّا الشعوب الغربية فمجتمعات هرمة، وما عادت قادرة عن الدفاع عن حضارتها، فضلًا عن الموت في سبيل بقائها، فضلًا عن نشرها…

CATEGORIES
Share This