المنظومة التربويّة في تونس : نشاط اقتصادي واعد وبؤرة فساد فتّاكة وهيكل استعماري لضرب الهويّة الإسلاميّة

المنظومة التربويّة في تونس : نشاط اقتصادي واعد وبؤرة فساد فتّاكة وهيكل استعماري لضرب الهويّة الإسلاميّة

حدّث أبو ذرّ التونسي: ككلّ عام وفي مثل هذا التّوقيت، تعيش تونس ـ حكومةً وشعبًا ـ على وقع العودة المدرسيّة, خاصّةً وأنّها هذه السّنة شهدت بعض المستجدّات المتعلّقة بمسألة التسجيل عن بعد في مكاتب البريد ببطاقة الدفع الإلكترونيّة: فهذه الاجراءات الجديدة سلّطت ضغوطات نفسيّة على الأولياء وأرهقت ميزانيّاتهم التي لم تخرج بعد من غرفة الإنعاش ولم تتعاف كليًّا من مِحنة (علّوش العيد)…غير أنّ لهذه (الغصرة) جانبًا إيجابيًّا، فهي تسلّط الأضواء على مسألة التّربية والتعليم وتجعل منها شغل الجميع الشاغل ـ أولياء وتلاميذ وإطارات ـ وهذا في الأصل مؤشّر إيجابي لوْلا أنّه انشغال عقيم لا طحين لجعجعته،  لأنّه يتناول عَرَض المسألة وشكلها وقشرتها الخارجيّة ويتغافل عن جوهرها ولبّها ومضمونها وينحطّ بالعمليّة التربويّة برمّتها إلى درك التكوين المهني : فالهمّ المشترك والهاجس المؤرّق الذي يقضّ مضاجع الجميع هو الشُّعب الدراسيّة في علاقتها بحظوظ التشغيل بصرف النّظر عن الأفكار والمهارات والمكتسبات والقيم والمفاهيم في علاقتها بشخصيّة المتلقّي وعقيدته ودون استحضار للروابط المتينة بين التّعليم والهويّة الثقافيّة والحضاريّة…وممّا عمّق الاشكاليّة وحوّلها إلى معضلة سياسيّة أنّ هذه العقليّة المصلحيّة النفعيّة قد تجاوزت العامّة والدّهماء وأنصاف المثقّفين لتطال الدّولة نفسها ممثّلةً في سياستها التّعليميّة: فقد أضحت المنظومة التربويّة في تونس نشاطًا اقتصاديًّا ربحيًّا خاضعًا لسياسة السّوق، ومجال استثمار واعدًا يرتع فيه الخواصّ ويبيضون ويفرّخون، وقفّازًا محليًّا لمسخ النّاشئة وتجفيف منابع الإسلام وتذويب الهويّة الثقافيّة والحضاريّة بأحماض استعماريّة فتّاكة…

الأمّة والثقافة

إنّ جوهر الفعل التّربوي التعليمي ورحاه التي يدور عليها هو الثقافة، وممّا لا شكّ فيه أنّ ثقافة الأمم هي العمود الفقري لوجودها واستمرارها: فعلى كاهل الثقافة تُبنى حضارة الأمّة وتتحدّد أهدافها وغاياتها ويتميّز نمط عيشها، وبالثقافة تُصاغ شخصيّات أفرادها وينصهرون في بوتقة واحدة متفرّدة عن سائر الأمم…فالثّقافة بمثابة الحبل السُرّي الذي يربط الأمّة بالحياة، وكلّ خلل أو ضعف أو انحراف يعتريها ينعكس مباشرة على كيان الأمّة فتتبدّل أهدافها ويتغيّر نمط عيشها ويتحوّل ولاؤها وتذوب في الثّقافات الأخرى وتندثر كأمّة متميّزة… هذا الحكم البديهي لا ينطبق فحسب على الأمّة الإسلاميّة, بل يتأكّد في حقّها ويحمّلها مسؤولية جسيمة تجاه ثقافتها بوصفها أمّة مبدئيّة قائمة على أساس العقيدة الإسلاميّة وما انبثق عنها من أحكام ومعالجات وأنظمة, وما بُني عليها من معارف وعلوم, وما أُثير حولها عبر التاريخ من وقائع وملاحم… ومن أوكد الضّمانات للحفاظ على ثقافة الأمّة أن تنحفِر وتُنقش في صدور أبنائها وفي سطور كتُبها، أمّا سبيل ذلك فعبر الدّراسة والتّعهّد والاسترجاع والتنمية والرعاية والغربلة والتنقية والنّشر والتّلقين، أي عبر التعليم المنهجي المنضبط بأنظمة وقوانين تتبنّاها الدّولة وتشرف عليها…من هذا المنطلق فإنّ التعليم مسألة حيويّة مصيريّة بالنّسبة إلى المسلمين لما للفعل التّربوي من دور أساسي وجوهري في بناء كيان الفرد والمجتمع والدّولة والأمّة الإسلاميّة …وهو بهذه المواصفات من أوْكد أولويّات رعاية الشؤون ومن الحاجات الأساسيّة للجماعة إلى ـ جانب التّطبيب والأمن ـ ويجب أن تتكفّل به الدّولة من ألِفه إلى يائه بالمجّان وأن تُعمِّمه إجباريًّا على رعاياها لأنّه من مقوّمات وجودها واستمرارها كدولة مبدئيّة تنوب الأمّة في تنفيذ جملة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي ارتضتها لنفسها…

منظومة التعليم الإسلامي

إنّ دور المؤسّسة التربويّة الإسلاميّة يتمثّل أساسًا في ضمان تواصل التّلاميذ مع موروثهم الثّقافي والحضاري ونحت هويّتهم العقائديّة وتزويدهم بسائر العلوم والمعارف…وحتّى تضطلع المنظومة التّربوية التعليميّة بهذه الرّسالة النّبيلة على أحسن وجه يجب أن تقوم على أساس العقيدة الإسلامية سياسةً وغايةً ومنهجًا وظروفًا: ففيما يتعلّق بسياسة التعليم يجب أن تكون العقيدة الإسلاميّة أساس كلّ معرفة يتلقّاها التلميذ المسلم في جميع نواحي الحياة، ولا تُقرَّرُ المعارف المناقضة لها إلاّ من أجل ضربها ونقض أفكارها وبيان زيفها وتهافتها…وفيما يتعلّق بالغاية من التعليم فيجب أن تنصبّ على إيجاد الشخصيّة الإسلاميّة عقليّةً ونفسيّةً وذلك بالتّركيز على الثّقافة الإسلاميّة والمعارف الشرعيّة لجعل المتلقّي يفهم ويُدرك ويعقل ويحكم وفق وجهة نظر الإسلام في الحياة، وبالتّركيز أيضًا على العبادات والقربات والطّاعات وشحذ الميولات الإسلاميّة لجعل المتلقّي يُشبع جوعاته وحاجاته بالكيفيّة التي يقرّها الشّرع…وحتّى تكون الشخصيّة الإسلاميّة متوازنة لا بدّ من تطعيمها بسائر المعارف العلميّة والمهارات الحياتيّة اللاّزمة لعمارة الأرض وتفجير خيراتها بشكل يحقّق قوّة الدّولة ومنعتها وتقدّمها واستقلالها…وفيما يتعلّق بطريقة التّدريس فيجب أن تقوم على التلقّي الفكري والتعمّق في البحث والاعتقاد فيما يُدرس وتطبيقه عمليًّا في معترك الحياة، بما يجعل من الأفكار المدروسة مؤثّرة وواقعيّة وصادقة ويساهم في خلق جوّ إيماني في نفسيّة الدّارس يصِلُه بالله ويحوّله إلى طاقة جبّارة…أمّا فيما يتعلّق بظروف إنجاز العمليّة التربويّة فيجب على المؤسّسة التربويّة أن توفّر وضعيّة ملائمة للتلقّي العلمي ولحركيّة ثقافيّة تربويّة ثريّة، وهذا لا يتحقّق إلاّ في إطار الضوابط الشرعيّة (عدم الاختلاط بين الجنسين على مستوى الطّلبة والأساتذة ـ الفصل بين الذكور والإناث وتخصيص مؤسّسات لكلّ جنس ـ الالتزام باللّباس الشرعي ـ الانضباط في السّلوكيات والأخلاق ـ شيوع أجواء الاحترام والتوقير للعلم والعلماء…) مع الحرص على عدم التّساهل في تطبيق القوانين على الجميع ـ طلبةً وأساتذةً وإطارًا ـ حتّى تتوفّر الظّروف المساعدة على التلقّي الفكري والتحصيل العلمي…

بين الأصل والنّسخة

هذه هي المواصفات الأصليّة للفعل التّربوي في الدّولة الإسلاميّة وسائر الدّول المبدئيّة: مشغل سيادي أساسي حيوي من صميم رعاية الشؤون يتجاوز في غاياته مجرّد التكوين المهني والتشغيل ليساهم بشكل فعّال في نحت شخصيّة الامّة وتركيز هويّتها وضمان تواصل الأجيال مع موروثها الثّقافي والحضاري…أمّا النّسخ السّائدة في الكيانات التّابعة العميلة وأشباه المستعمرات فتقوم بعكس وظيفتها النّبيلة المفترضة، ودونك المنظومة التربويّة التونسيّة: فالسّلطة قد استقالت نهائيًّا عن واجب رعاية شؤون منظوريها بوصفها عرّابًا لمصالح الكافر المستعمر، وانتصبت لجباية أموال الشعب بالباطل (ثلاثة أرباع ميزانيّة الدولة متأتّية من الضّرائب)…كما تخلّت عن تلبية الحاجيات الأساسيّة للجماعة فخصخصت التّطبيب وحوّلت المنظومة العموميّة إلى مختبر طلاّبي وموت مؤجّل بطيء، ومكّنت بريطانيا من العقيدة الأمنيّة والعسكريّة تصوغها حسب هواها ومصالحها بما حوّل البلاد إلى مرتع للعصابات والمافيات التي ترتدي الزيّ الرّسمي…كما تعاملت مع مسألة التعليم بنفس المنطق المستقيل المفرّط واللاّمبالي: فالمنظومة التربويّة التعليميّة التونسيّة قائمة على ثلاث كذبات كبرى…أولاها أنّ التعليم مجّاني، وهذه فرية يفنّدها الواقع بالحجج والبراهين، ودونك الإجراءات الأخيرة: فمعاليم التّسجيل سواء في المؤسّسات التربويّة أو في المناظرات الوطنيّة لمئات الآلاف من التّلاميذ تمثّل مدخولاً قارًّا لا بأس به لوزارة التربية يغطّي مصاريفها ويحوّل الفعل التّربويّ إلى مشغّل إقتصادي ربحي بامتياز: فمناظرة الباكالوريا لوحدها تدرّ على الوزارة أكثر من ستّة مليارات (250 ألف مترشّح x  25 د) هذا فضلاً عن سائر المناظرات الأخرى (السيزيام ـ النوفيام ـ الكاباس..)، كما عملت الدولة جاهدةً على خصخصة التعليم من رياض الأطفال إلى الجامعات وسارت في ذلك الاتّجاه بخطى حثيثة بما حوّل الشّهائد العلميّة وآفاق التشغيل إلى سوق لمن يدفع أكثر، كما حوّل التعليم العمومي إلى بؤرة للفساد والرّسوب والانقطاع المبكّر وضعف التّكوين ثمّ الانضمام إلى صفوف البطّالة…

منبر استعماري

ثاني الفريات التي توهم بها منظومتنا التربويّة (الأصيلة) أنّ التعليم في تونس (يرسّخ النّاشئة في هويّتهم العربيّة الإسلاميّة) وهذه نكتة سمجة مخالفة لواقع المؤسّسات التربويّة شكلاً ومضمونًا ـ بالمشاهد الملموس ـ وأضحت تقوم بعكس وظيفتها المفترضة :فمظنّة التربية استحالت أوكارًا للفساد وبؤرًا للتفسّخ الأخلاقي والمُيُوعة والرّذيلة والانحراف والمخدّرات…ومظنّة التّعليم استحالت منابر سافرة للمسخ والتّغريب والتسميم الفكري ومحاربة الهويّة الإسلاميّة وأبواق دعاية لتكريس التبعيّة الثقافيّة والسياسيّة للغرب، ودُونك العيّنات والنّماذج الحاليّة للشباب التّلمذي والجامعي مظهرًا ومخبرًا…وتنسل من هذه الفريةأخرى ثالثة أفظع منها مفادها أنّ التعليم إجباري ،وهي فرية تحتاج إلى بعض التعديل والتدقيق: فإجباريّة التعليم ليست في كليّته بل إلى حدود التّاسعة أساسي فحسب …فهو إجباري بالقدر الذي يضمن للدّولة إفساد النّاشئة فكريًّا وسلوكيًّا وإفراغها من (السميغ) العقائدي الإسلامي المتوارث من العائلة وتزييف معلوماتها التاريخيّة عن أمّتها وحضارتها وتحويلها إلى شخصيّات هلاميّة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة تجري في عروقها مياه صالحة للشراب…بعد تحقّق هذا الهدف وابتداءً من الأولى ثانوي ينقلب التعليم إقصائيًّا نخبويًّا انتقائيًّا ولا خوف على الشّارع من نزلائه الجدد بعد تقليم أظافرهم الفكريّة والسّلوكية وانضمامهم إلى هامش الحضارة الغربيّة…إنّ طينة التّلاميذ التي تصادفنا هذه الأيّام ليست حدثًا شاذًّا معزولاً يُحفظ ولا يُقاس عليه، ولا تمثّل قصورًا وإخفاقًا في الفعل التربوي بقدر ما هي ثمرة مسمومة من ثمار ذلك الفعل وتلك المؤسّسة وعنوان نجاحهما، فهكذا منظومة تربويّة مظنّة للفساد والإفساد…وهي بهذا الشّكل ليست محلّ تعديل وترقيع وإصلاح بل محلّ هدم وإعادة بناء، ولا يتحقّق ذلك إلاّ في إطار دولة إسلاميّة خلافة راشدة على منهاج النبوّة…فهل نحن فاعلون…؟؟

بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This