من تداعيات الانسداد السياسي الذي تشهده الجزائرُ في هذه الآونة، هذا الغليان الشعبي وهذه الموجة من الاضطرابات والإضرابات المختلفة التي تجتاح البلاد منذ شهور بشكل غير مسبوقٍ في قطاعات عدة، منها قطاع الأطباء المقيمين – الذين ضُربوا بالهراوات في العاصمة كما ظهر في عديد الوسائل الاعلامية – ومستخدمي الشبه-طبي (في العاصمة وفي غيرها) وأساتذة التعليم الثانوي وطلاب بعض المدارس العليا لتخريج الأساتذة ومتقاعدي الجيش الذين مُنعوا بالقوة من دخول العاصمة والتظاهر فيها، وبعض عمال الصيانة في شركة الخطوط الجوية، وحتى أساتذة الرياضة الذين طالبوا بفتح مناصب لهم في مؤسسات المرحلة الابتدائية من التعليم وغيرهم. ولكل هذه الفئات مطالب مهنية مختلفة ومتباينة متعلقة خاصةً بشروط العمل والتوظيف والأجور والخدمة العسكرية والمدنية… وغير ذلك. ولا تزال أكثر هذه القطاعات إلى حد الساعة مشلولةً.علماً أن التظاهرات السلمية والمسيرات كانت قد مُنعت في العاصمة قانوناً بحجة المحافظة على الأمن والاستقرار، وما زالت ممنوعة.
المكر الفرنسي : ترصّد الأوضاع ودقّ إسفين الفرقة
من جهة أخرى وبناءً على ما جرى وما يجري الآن من نقاش طويل عريض في البلد منذ بداية شهر كانون الثاني/يناير 2018م حول قرار اعتماد “يَـنَّار” أي يوم 12/1 من كل سنة ميلادية عيداً رسمياً ووطنياً مدفوعَ الأجر لجميع الموظفين باعتباره رأس السنة الأمازيغية، استجابةً لأحد مطالب الأمازيغ (البربر) – القبائل خاصة – منذ أمد.. بناءً على ذلك كان لا بد من رصد التحولات وكشف المؤامرات بعد فهم ما يحدث وما يجري هذه الأيام في الجزائر. علماً أن احتجاجات كانت قبل ذلك قد اندلعت في مدن عدة من البلاد خصوصاً في منطقة القبائل وفي شرق البلاد (الأوراس) تطالب بتفعيل اعتبار الأمازيغية (المكتوبة بالحروف اللاتينية، بتدبير من الأكاديمية البربرية في باريس…) لغةً وطنية ورسمية. وهو ما يعني تعميمَ تعلمها ووجوب تعليمها وتدريسها بشكل إجباري للجميع وكذا استخدامها في الإدارة أي في جميع الوثائق الرسمية وفي المحاكم والإعلام وقانون المرور وغيره… وهو ما يعني أيضاً تهيئة إمكانياتٍ مادية كبيرة وتسخيرَ أموال معتبرة لكل ذلك، وكذا إعداد مناصب شغل وكتب وأكاديميين وأساتذة ومؤطرين.. وغير ذلك. فهل تتحمل الخزينة العمومية كل ذلك في هذا الظرف؟ علماً أن هذا “العيد الجديد” كان قد تقرر (بل أُقحم كعنصر من عناصر الهوية!) في سنة 1980م من طرف الأكاديمية البربرية المذكورة، أي في باريس، ولا علاقة له أصلاً بالأمازيغ حتى من الناحية التاريخية، بل هو مناسبة رومانية كان يحتفل به الرومان جلباً للخصوبة في غابر الأزمان.
استهداف الهوية الإسلامية
واضح من المسألة أن المستهدف هو الإسلام, لذا وجب فضح العمل الدؤوب الذي يقوم به المستعمِر الأوروبي (الفرنسي تحديداً) خدمةً لمآربه ومصالحه، والذي يهدف إلى ربط الجزائر (وغيرها) بالضفة الأخرى من المتوسط وإلى إيجاد هوية بديلة للمسلمين الأمازيغ (البربر) في شمال أفريقيا: وذلك عبر فصل الدين عن الدولة وتجميع كل العناصر اللازمة بغرض “خلق” هوية جديدة لأهل شمال أفريقيا ولأهل الجزائر خصوصاً – ولو بزرع الأحقاد العرقية، ولو بتزوير التاريخ – بحيث تكون بديلاً عن الإسلام!﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون: 52].فترى الذين في قلوبهم زيغ منهم جراء وسوسة المستعمِر البغيض أصبحوا الآن ينظرون إلى الفتح الإسلامي العظيم على أنه غزو استعماري أو احتلال عربي, ولا يخفى ما للكافر الرأسمالي المستعمِر من خلال عملائه الفكريين والسياسيين في البلاد من فوائد ومآرب في شق عصا المسلمين بهذه الطريقة اللئيمة ودق إسفين الفرقة والخلاف، وزرع الكراهية بينهم والاختلاف، وتشتيتهم بالقومية والوطنية وفصل الدين عن الحياة وعن السياسة وغيرها. لذلك تحـتم إبراز وجود يد المستعمِر الآثمة الخبيثة في المسألة، وكيف يجري توظيف أبناء الأمة فكرياً وسياسياً لصالح هذا العدو الغربي اللئيم. إذ لم تعد المسألة مسألةَ لهجة أو لغة فقط, بل هي فعلاً الحرب الحضارية المستمرة بين الأمة الإسلامية والغرب الكافر.
دور الجناح الفرنسي في المؤسسة الحاكمة: تحريك الشارع ولو على حساب دماء الشعب
من جانب آخر فإن الدلائل قوية على أن الجناح الفرنسي في المؤسسة الحاكمة في البلاد، والذي كثيرٌ من أقطابه هم تحديداً من منطقة القبائل من حاملي العلمانية السافلة، هو الذي وراء أحداث بلاد القبائل (أمازيغ شمال البلاد، شرق العاصمة تحديداً). وهو ما تجلى في النزول للشارع والمطالبة بتعميم اللغة الأمازيغية، في لحظة من لحظات الصراع مع الخصوم، بحجة أنها أصبحت وطنية ورسمية دستورياً كما أسلفنا. فلا شك أن الحراك هذه المرة هو أيضاً صراع على المواقع بين العُصب محلياً وتجاذبات تتجلى في تحريك الشارع، يستخدمها هذا الطرف المفرنس – أي هذا الجناح الموالي لفرنسا – ضد الجناح المتحكم في السلطة المرتبط عبر زمرة بوتفليقة بالإنجليز، وذلك من أجل التموقع من خلال تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وثقافية، حتى ولو تحقق ذلك على حساب دماء أبناء الشعب المسلم، أي حتى ولو حصل جراءه اقتتالٌ بين المسلمين.. والله تعالى يقول: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ [النساء: 93]، ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 105].
تجدر الإشارة أيضاً إلى أن احتجاجات أخرى قوية كانت اندلعت قبل أزيد من شهر في مدن عدة من البلاد على خلفية رفض البرلمان، الذي يهيمن عليه الآن حزبا السلطة؛ جبهة التحرير الوطني الذي رئيسه هو رئيس الجمهورية والتجمع الوطني الديمقراطي الذي رئيسه هو رئيس الحكومة الحالي أحمد أويحيى (والذي هو في الوقت ذاته رئيس أو مدير الديوان لدى رئيس الجمهورية).. اندلعت هذه الاحتجاجات على خلفية رفض البرلمان (المجلس الشعبي الوطني) من خلال التصويت بالأغلبية مطلبَ تفعيل المادة الدستورية ذات العلاقة، أي مطلب تعميم استخدام وخصوصاً تدريس الأمازيغية في مختلف مراحل التعليم، وفي كل المؤسسات التعليمية في جميع أنحاء البلاد. لذلك كله كان لا بد من كشف وإبراز أن يد المستعمِر الغربي طويلة في المسألة، وأن للمستعمِر الأوروبي – الفرنسي تحديداً – أهدافاً ومآرب ومصالح ومكاسب، فضلاً عمَّا يضمره للمسلمين عامةً ولأهل الجزائر خاصةً، من ضغينة وأحقاد حضارية وتاريخية. كل ذلك يجري الآن على وقع تهيئة الظروف والأرضية لانتخابات شهر 4/2019م الرئاسية بغرض إطالة عمر النظام التابع لأوروبا (حيث تذهب ثروات الجزائر نهباً) ضمن توافق أوروبي على حكم الجزائر عبر تثبيت مَن في الرئاسة في منصبه (وزمرته) لعهدة خامسة إن لم تفاجئه المنايا.
النقابات وأحزاب الديكور, “أنا وبعدي الطوفان”
وبالنظر إلى أن ممثلي العمال والطلبة (النقابات) وحتى رؤوس منظمات حقوق الإنسان وما يسمى المجتمع المدني في الدول العميلة المرتبطة بالأجنبي هم في الغالب من المنتفعين المرتبطين عضوياً بأجهزة النظم القائمة، كما هي حال الأحزاب الشكلية في أوساطٍ سياسيةٍ مائعة وتابعة ومشتتة وهزيلة أصلاً، فلا شك أن الزمرة الماسكة بمقاليد السلطة في البلاد ستستفيد لاحقاً عبر الاستجابة في قابل الأيام (مع اقتراب موعد رئاسيات 2019م) لمطالب الشعب أو معظمها، ولن تجد وقتها أية صعوبة في وقف الاحتجاجات وتهدئة الأوضاع، التي تبدو إلى الآن تحت السيطرة في المدى المنظور خصوصاً في بلد غني بالموارد والثروات كالجزائر، وذلك بهدف كسب شرائح واسعة عبر شراء الذمم والتصفيق لمرشح النظام القادم الذي سيظهر عندئذ في صورة المنقذ من خلال مسرحية انتخابيةٍ جديدة، وهكذا دواليك.. ولكن بعد وصول الأوضاع جراء التسيب والفساد وسوء الرعاية على جميع الأصعدة إلى ما يشبه حالة التعفن والانسداد، وهو ما تشهده الجزائر الآن.
الحل والمخرج الوحيد من الأزمة
أيها المسلمون: حري بكم أن تلتفتوا إلى شرع ربكم لتضعوه موضع التطبيق، فلا شيء يحقق الرعايةَ الحقيقية ويوقف هذه المصائب ويكشف هذه المصائد والمكائد، ولا شيء يُفسد الأمر على أعداء الله الكفار المستعمرين غير دولة تجمع المسلمين تحت راية الإسلام ورابطة العقيدة، إذ عندما تعلو كلمةُ الله ويُطبق شرعُه تتلاشى رابطةُ القومية والوطنية في بلاد المسلمين ويتوقف سفك دماء المسلمين ونهبُ خيراتهم وثرواتهم!! ولا شيء يخمد نار الفتنة الطائفية والعرقية بل يُرعب أعداء الله كسماع نبأ قرب قيامها (فما بالك إذا قامت) من جديد خلافةً راشدةً على منهاج النبوة، فهي خير الدنيا والآخرة. ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[المائدة: 50].