النظام الديمقراطي.. وصناعة الموت

النظام الديمقراطي.. وصناعة الموت

مازالت حادثة غرق القارب المقل ل 180 راكبا وهلاك معظمهم تسيل الكثير من الحبر, وأنهار من الدموع يذرفها أهالي المفقودين حزنا وكمدا.. وأضعافها سكبها نفاقا وتملقا أصحاب المناصب والمتشبثين بأسمال السلطة, وكل الذين  تسللوا إليها خلسة من ثقوب صناديق ذات صباح أحد.. وأكيد أن العديد ممن لقوا حتفهم في عرض البحر أغرقوا أصابعهم في ذلك الحبر الأزرق, ليجدوا أنفسهم غرقى.. وجثث تتقاذفها أمواج البحر, وتنتظرها على شاطئه عشرات القلوب الملتاعة… تقاذفهم الموج بعد أن تقاذفتهم سياسة قوم باعوا البلاد وأهلها, والثمن كان جوعا وفقرا وجهلا.. ثم الموت غرقا…

لم تكن تلك الحادثة هي الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة لأن هذا النظام.. النظام الديمقراطي الوضعي في كل ركن منه مصنع للموت.. وفي كل تفصيل من قوانينه آلة بطش تتربص بالملايين لسحقهم وطحنهم. فهذا النظام لا يقتات إلا على الأشلاء.. ولا يتنفس إلا ملأت صرخات الشعوب أرجاء المعمورة. ولا ينمو ويزدهر إلا بامتصاص دماء دماءهم.. وهذا تمارسه القوى الاستعمارية ممثلة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا.. فهذه البلدان تبني صروح رفاهة شعوبها على حساب عذابات غيرهم من الشعوب التي يحكمها عملاء رضوا أن يكونوا عبيدا لحكام تلك القوى, ونعاني الويلات نتيجة خيانتهم, وتطبيقهم علينا نظامهم الديمقراطي الوضعي.. فالدول الاستعمارية هي راعية ذاك النظام وتعمل جاهدة على أن يظل جاثما على صدورنا..كاتما لأنفاسنا إلى حد الموت.. والموت الذي يصنع في مخابر ومصانع النظام الرأسمالي الديمقراطي متعدد الوجوه والأصناف.. منه الموت الفكري, والموت الاقتصادي, والموت الاجتماعي, وكل هذا تكفل حكام المسلمين بنشره في بلادنا من جاكرطا إلى تطوان. بعد أن تخلت البلدان الاستعمارية على جيوشها الجرارة لاحتلال بلداننا, واستبدلتها بدساتير وضعية تسهر شرذمة من الحكام العملاء على تطبيق محتوياتها. وتصب كل ما فيها من نفايات على رؤوسنا دون خجل ولا وجل. ليكون الموت هو مصيرنا المحتوم. فالمناهج التعليمية وضعت لتقتل في الأجيال جيلا بعد جيل, كل بذرة من بذور الحياة.. نظام صحي أكل عليه الدهر وشرب, ولا يشبه لا من قريب ولا من بعيد ما هو متوفر لشعوب الدول المتقدمة التي تحول دوننا ودون كسب المعرفة, وتبذل كل طاقتها لنبقى نستهلك كل شيء ولا ننتج أي شيء.. تحت حراسة مشددة ممن أجلسوهم على كراسي الحكم ليخدموهم دون سواهم.. فرضوا علينا نمط عيش يتناقض مع ما هو منبثق عن عقيدتنا فقتلوا في مجتمعاتنا كل فضيلة, وأماتوا كل القيم الأخلاقية. لتتفشى الرذيلة, وتنتشر الجريمة بجميع أنواعها. بل إن بعض الجرائم توفر القوانين الوضعية لمرتكبيها الحماية والحصانة, خاصة المرتكبة من قبل الحكام, لأن النظام الديمقراطي محرم فيه محاسبة الحكام. وأقصى ما يمكن حدوثه هو مسألة الرئيس إن أخطاء. ولا تكون تلك المسألة بعد موافقته كما هو الشأن في الولايات المتحدة على سبيل المثال لا الحصر.

أما بين ظهرانينا فتلك المسألة لا وجد لها.. فسيادة الرئيس ومن يواليه يتصرفون وكأن البلاد مزرعتهم الخاصة. وأهلها قطيع من المواشي يفعلون بهم ما بدا لهم. ويجدون كل الدعم والتأييد من الدول الكبرى. والأمثلة أكثر من أن تحصى وتعد… إذن فالحادث الأليم الذي شهدته جزيرة قرقنة عينة بسيطة من جرائم النظام الديمقراطي. وأبشع ما في تلك الجريمة هو تنصل مرتكبيها مما اقترفت أيديهم. وتحميل كل الوزر لمن قبضوا ثمن عبور الضحايا إلى الضفة المقابلة للبحر الأبيض المتوسط. وكأن الذين حشروا في ذلك القارب ينعمون بأرغد العيش.. فلا بطالة, ولا تهميش, ولا فقر,… هم في نعيم مقيم. لكن أصحاب النفوس المريضة وسوسوا لهم وأخرجوهم من جنة صنعها لهم ” بورقيبة” وعمل ” بن علي” على توسيعها وتكثير ثمرها. وجاءت الحكومات المتعاقبة بعد الثورة وخاصة حكومة النداء التي تزخر بخبراء قادرين على إدارة شؤون أربع دول, لتجعل من تونس أم الجنان يتمنى العالم أن يلقي عليها ولو نظرة واحدة. ومع هذا تمكنوا من إخراجهم منها وركوب المخاطر والارتماء في أحضان الموت.

هم أبرياء ولا ذنب لهم. واللعنة كلها على من جحدوا تلك النعم. ومن ثمة يستحقون الموت غرقا.. ومعهم من وفر لهم القوارب وحرضوهم على ترك الفردوس المنشود.

وبما أن الموظف السابق بالسفارة الأمريكية بتونس ” يوسف الشاهد” شبه نفسه زورا وكذبا بعمر بن الخطاب, فلا بأس أن نسرد عليه إحدى روائع الفاروق التي هو أصغر من أن يأتي مثلها..” كان صبي يبكي فسمعه عمر رضي الله عنه فذهب إلى أمه وطلب منه أن تتقي الله في الصبي وتهتم به, وذهب. لكنه سمع بكاء الصبي مرة أخرى, وذهب إلى أمه وأعاد نفس الكلام ثم ذهب. إلا أن الصبي استمر في البكاء حتى آخر الليل… فذهب إليها عمر وسألها عن سبب بكاء الصبي, فأخبرته أنها تحاول الهاء الصبي عن الرضاعة لأن أمير المؤمنين عمر- لا تعرف عمر- يفرض نفقة للمفطوم فقط. سألها عمر عن عمر الصبي فأخبرته أنه بضع شهور, فأخبرها ألا تتعجل في الفطام. وفي صباح صل الفجر وهو يبكي وخطب في الناس قائلا: بؤسا لعمر كم قتل من أولاد المسلمين, وطلب من الناس ألا يعجلوا الفطام, وفرض نفقة غير مشروطة لكل مولود في الإسلام, وأرسل إلى كل الولاة والعمال يأمرهم بذلك…”كان عمر بوسعه أن يتهم المرأة ويبرئ نفسه.. لأنها هي من فطمت ابنها قبل موعد الفطام.., لكنه يحتكم لنظام يحتم عليه أن يتحمل أن يرعى شؤون الناس ويتحمل وزر كل تقصير ولو كان لم يصدر منه. فما بالك لو قصر هو مباشرة..

عمر رضي الله عنه لم يقتل أحدا من أولاد المسلمين لكنه رأى في فرض النفقة للمفطومين فقط قتلا لهم. ومشعوذوا النظام الديمقراطي يسوقون الناس للموت سوقا, ولا يرتجف لهم جفن. ويكتفون بإعطاء الأوامر بتوفير الإحاطة النفسية لأهالي الضحايا, فقط من أجل استيعاب جرائم هذا النظام, وتقبل ما يصنعه. ألا وهو الموت.

حسن نوير

CATEGORIES
TAGS
Share This