النقابات الأمنيّة تتوعّد والدّولة يفضحُها الصَّمت

النقابات الأمنيّة تتوعّد والدّولة يفضحُها الصَّمت

دولة قانون ومؤسسات.. دولة القانون فيها خط أحمر لا يجوز بأي حال من الأحوال تجاوزه, دولة لا أحد فيها فوق القانون.. هذا ما يردّده القائمون على شؤون الناس في تونس صباحا مساء.. وتجتره قطعان المطبلين لدولة الحداثة. الذين يملئون الدنيا نعيقا كلما نطق صادق بما لا تهوى أنفسهم, وكشف بطلان قوانينهم وأظهر زيفها وعدم جدواها لأنها ببساطة قوانين وضعية لا ترعى شؤونا ولا ترُدُّ حقوقا, ولا تردع معتديا. تقوم الدنيا ويصعب أن تقعد كلما توجه أمين بالنصح لرعاة هذا النظام بنبذه وما يحويه من قوانين وراء ظهورهم, تُنَصَّبُ المحاكم ، وجميع أنواع منصات القذف والقصف كلما كشف رشيد كيّس عجز هذه الدولة وانعدام قدرتها على مجرد تأمين قوتنا, فما بالك بحماية أرضنا وثرواتنا وأعراضنا.. وكل ذلك الاستنفار يتم تحت عنوان واحد, وهو وجوب حماية الدولة والذود عن سيادتها وهيبتها والدفاع عن علوية قوانينها وقداسة دستورها, وغير ذلك من شتى أنواع الكلام الإنشائي الأجواف. فالدولة لا تسجل حضورها إلا في السعي لصدّ كل من يعمل وبجد على إقامة دولة رعاية وكفاية قوانينها مصدرها وحي رب العالمين كتابا وسنة.. لا تعليمات وأوامر “المسؤول الكبير”, والشيء اللافت هنا أن حملة التصدي تلك يقوم بها من هم في الحكم ومن يعارضهم وينازعهم فيه. ولا غرابة في ذلك فجميعهم شرب حتى الثمالة من مستنقع النفعية العلمانية الآسنة, ذلك المستنقع الذي بنوا حوله سورا سموه في الماضي القريب بالأمن الجمهوري, وقد أحدثوا صلبه نقابات، قالوا أن الهدف من إنشائها هو الذود عن ذلك المكسب وتجسيد مبادئ دولة الحداثة ووو.. هذا ما أعلنوه فور إحداث النقابات وسط عاصفة من الإشادة والمديح والثناء, كيف لا وقد أصبح لتونس أمن جمهوري لا يرى غير الدولة, ولا يتحرك إلا من أجل الدولة.. ولا يضحي بالغالي والنفيس إلا في سبيل الدولة وقانون الدولة.. وهنا وجب التنويه بأن هناك -ومنذ بداية تكاثر النقابات الأمنية- من توجس خيفة منها على أساس أنها لا تختلف عن غيرها من النقابات “العريقة”, فجميعها لا تحركها إلا المصالح الضيقة وتعاني من عاهات إيديولوجية عميقة وخطيرة.. ولم يمض وقة طويل حتى أصبح رؤساء النقابات الأمنية نجوم البلاطوهات الحوارية مستغلين ظهورهم الإعلامي المكثف لتمرير أجندات خاصة تتعارض مع ما التزموا به في البداية ويناقض تماما ما جاء في اسطوانة لا الدولة والقانون فوق كل اعتبار شخصي كان أو حزبي أو فأوي… والأمثلة أكثر من أن تحصى، آخرها البيان المشترك الذي أصدرته النقابات الأمنية على خلفية العملية الإرهابية التي شهدتها ساحة باردو وراح ضحيتها رجل أمن..بيان أسقط نهائيا أكذوبة علوية القانون في دولة الحداثة, وبين أن احترام مؤسسات الدولة ما هو إلّا جزء من أوهام النظام الديمقراطي وبعض من ألاعيبه. لقد استغلت النقابات المذكورة تلك الجريمة النكراء لترسل لأعضاء مجلس نواب الشعب تهديدا صريحا برفع الحماية الأمنية عن النواب إن لم يتم عرض مشروع قانون زجر الاعتداءات على القوات الحاملة للسلاح في جلسة عامة في زمن لا يتعدى 15يوما, نعم ستأمر النقابات الأمنية منخرطيها بالامتناع عن توفير الحماية المطلوبة للنواب وذلك كعقاب لهم على عدم تلبية طلبات ورغبات النقابات الأمنية, ولا يهم هنا موقف الدولة الممثلة في وزارة الداخلية إحدى الوزارات السيادية “حسب تصنيفهم”.. كما لا اعتبار للقانون الذي يجب على الجميع الانصياع له دون تلكأ أو تردد, إلا إذا كانت النقابات في حد ذاتها دولة موازية للدولة ولم يخبروا الناس بذلك.. أو أن دستورهم المقدس فيه فصول خفية لا يجب الاطلاع عليها تنص على انه في مثل هذه الحالات يمكن خرقه وتجاوزه وتهديد الأمن العام، مع إلغاء هيبة الدولة أمام مصالح النقابات التي من حقها أن تتخلى عن دورها الذي بعثت لأجله وهو الدفاع عن حقوق منخرطيها.. وأن تتحول إلى أحزاب سياسية تناكف الدولة وتزاحمها. لكن لماذا هذا التخمين المشوب بالاستغراب؟ فالدولة نفسها من أهم خصائصها مناقضة قوانينها وعدم احترام مؤسساتها. نعم لقد سبق لها أن تجاهلت يوما ما حكما أصدرته المحكمة الإدارية لفائدة حزب التحرير يقضي بأحقية الحزب في عقد مؤتمره متعللة بحالة الطوارئ.. والوضعية الأمنية للبلاد, ومنعت انعقاده بتحويل قصر المؤتمرات إلى ثكنة مدجّجة, وفي المقابل لما نظمت النقابات الأمنية عديد الوقفات الاحتجاجية و نظمت عدة مسيرات آخرها يوم السبت الماضي وكانت مشفوعة بوقفات شهدتها كامل البلاد, ولم نسمع لهذا القانون ذكرا رغم أنه ما يزال ساريا.. كل هذا ولم تحرك الدولة ساكنا وراقبت الوضع وسط صمت مطبق, صمت يشير إلى موافقة صريحة على ما يحدث، ويعتبر ذلك أمرا عاديا في نواميس أصحاب الهيبة” ما دام مستمدا من طبيعتها فهي دولة لا تقوم على غير القوانين الهلامية, تظهر تارة وتختفي أخرى حسب المصالح والولاءات وطبقا لما يمليه المسئول الكبير خدمة لمصالحه أولا ولمصالح الجهة التي تخدمه ثانية.. فتلك القوانين لا يتم رفع عصاها إلا في وجه من يعمل على تغييرها ويطرح بدائل عنها, والحديث هنا عن دولة تحتكم إلى شرع الرحمان وحده دين سواه..ولحزب التحرير في هذا صولات وجولات..لكنهم قالوا لا دخل للدين في السياسية, بل قوانينهم التي كتبوها بأيديهم هي من أملت لهم ذلك, ونفس القوانين تقول لا دخل للنقابات في السياسة ودورها يقتصر على الدفاع عن حقوق العمال والموظفين..ولكن لا ضير في أن تحيد على مسارها وتلج في عالم السياسة ما دام ذلك لا يكدّر صفو المسئول الكبير ولا يهدد دولة الضرار هذه, ولا يحرم القائمين عليها من الكراسي ورفاهيتها. وإضافة لكل ما ذكرنا هنالك معطى من الأهمية بمكان وهو فحوى مشروع القانون الذي يعد تمهيدا لعودة دولة البوليس من أوسع الأبواب. وهذا ما يطمح إليه حكام تونس الحاليين. فهم يعانون فقرا مدقعا من حيث البرامج والاستراتجيات, ويشكون من داء عضال ومزمن اسمه الفشل, وبما أنهم لا يملكون حلولا كان لا بد من الرجوع للحل الذي أورثهم إياه المخلوع “بن علي” والذي ورثه بدوره عن المقبور”بورقيبة” ألا وهو سياسة العصا الغليظة وبما أن أكبر مكسب للثورة هو كسر تلك العصا, وجد التحرك الأخير للنقابات الأمنية هوة لدى ساكني القصور الثلاث –قرطاج والقصبة و باردو- فذلك حسب أفهامهم السقيمة قد يُمَكنهم من البقاء في سدة الحكم لمدة أطول ويحمي نظامهم الديمقراطي من الانهيار التام, لكن فاتهم أن التاريخ قد دار دورته في الاتجاه الذي لا يرضونه هم ومن خلفهم القوى الاستعمارية, كما فاتهم أنهم بانتهاجهم لسياسة الكيل بمكيالين وباحتكامهم للهوى أنهم يدقون المسمار تلوى الآخر في نعش الدولة العلمانية والتي يسمونها استحياء دولة مدنية إلى أن يصلوا إلى المسمار الأخير, وإنّ غدا لناظره قرِيب.

CATEGORIES
TAGS
Share This