النموذج التونسي.. على شفا التلاشي

النموذج التونسي.. على شفا التلاشي

منها اندلعت الشرارة الأولى لبداية ثورة سرت سريعا لتشمل ليبيا ومصر واليمن وسوريا.. شرارة كانت توحي كل المؤشرات أنها ستتحول إلى لهيب تطال ألسنة نيرانه كل بلاد المسلمين وتأتي على أخضر النظام الرأسمالي ويابسه.. وبما أن اندلاع الشرارة الأولى وما تلاها كانت تفتقر إلى غطاء فكري يحمي جذوتها وتنمو بين أحضانه لتتحول لاحقا إلى بركان تصهر حممه النظام الوضعي الجاثم على صدورنا في بلاد المسلمين, وتذيبه من جاكرطا إلى سواحل تطوان.. كان هذا في البداية وسيتحول بمرور الوقت مع امتداد النفس الثوري إلى قوة واعية تجتث ما زرعته يد الاستعمار من جذوره.

وحتى لا يحصل ذلك تحركت آلت الغدر بكل قوتها لتجهض ثورة أمة ساد اعتقادهم بأنها لن تثور.. وبعد أن استوعبوا الصدمة الأولى جمعوا شتاتهم وانبروا يكيدون بالثورة بشتى وسائلهم الرخيصة وأساليبهم القذرة.. مستعينين ببائعي ذممهم مقابل متاع قليل لا يغني من الله شيئا. وحتى يضمنوا عدم تكرار ما حدث ذات شتاء في تونس وأجبر أحد عملاء الغرب على الفرار, كان لابد للقوى الاستعمارية أن تسلك مسلكا مغايرا لنهجها السابق.. حيث استلهم من السبق الذي حققته تونس في هز عروش العملاء وتعكير صفوها.. عملت تلك القوى على أن تجعل من تونس منطلقا جديدا لترسيخ النظام الديمقراطي وإعادة رسكلته.. وبالتالي يتم قطع الطريق على أصحاب النظام البديل والذي بدأت الأمة تتجه صوبه ولو بخطا بطيئة وفيها الكثير من التلدد.

لكن, وهذا الأهم, بدأت الأمة تتحسس طريقها نحو التغيير, وشرعت في محاولة جادة في كسر الأغلال ونزعها من حول عنقها. لذا صار من الضرورة الملحة بالنسبة لتلك القوى العمل على إيجاد نموذج ناجح ليتم تعميمه لاحقا على باقي البلدان الإسلامية, و خاصة تلك التي اقتدت بتونس و ثارت على حكامها صنيعة الاستعمار. فكانت البداية بمسايرة الناس بالركوب على الثورة في خطوة أولى ثم اختطافها وتغيير مسارها في خطوة ثانية. مع الادعاء الكاذب أن حقبة المخلوع “بن علي” كانت أبعد ما تكون عن الديمقراطية ومفاهيمها.. لهذا خرجوا لنا بفرية الانتقال الديمقراطي .. واخترعوا له مسارا يبدأ بانتخاب أعضاء مجلس تأسيسي, بعدها انتخابات تشريعية وأخرى رئاسية, والختام بانتخابات بلدية. وبذلك تكون الديمقراطية في تونس مرت بجميع المراحل العمرية وبلغت سن الرشد وتخطت فترة التنشئة الى مرحلة البلوغ, ولم يعد يخشى عليها من شلل الأطفال ونحوه.

وبين هذا وذاك لم يتغير حال البلاد والعباد على ما كانوا عليه زمن “بورقيبة” و “بن علي” وإن تغير فنحو السيئ, ثم الأسوأ.. ومع هذا واصل سقافة الديمقراطية في الذود على نموذجهم آملين في نجاحه ولو بضربة حظ. ولو أنهم أجادوا حياكة خيوط المؤامرة على الأمة. فما حصل ويحصل في ليبيا و سوريا واليمن من صنع أيديهم الآثمة.. فالقتل والدمار في تلك البلدان ممنهجان ويدار في غرف هي نفسها التي أنتجت إسقاط الخلافة العثمانية, ومن ظلماتها تسلل خنجر الغدر, ومزق جسد الأمة إلى ما يربو عن خمسين مزقة.. زرعوا الموت والخراب في سوريا وليبيا واليمن, واتهموا الثورات التي حصلت هناك بكل تلك الفظاعات.. وتحديدا الذين يرنون إلى الإسلام كنظام بديل عن النظام الرأسمالي الوضعي. وحتى تكتمل الصورة, زرعوا ورما خبيثا في جسم الأمة اسمه تنظيم الدولة “داعش” الذي أقام بين ليلة وضحاها ما أسموه زورا و بهتانا خلافة إسلامية.. وأطلقوا كلابهم المسعورة والمأجورة تفتك بأبناء الأمة باسم الإسلام وأحكام الإسلام.. والإسلام مما اقترفت أياديهم براء.

إن من قتل الآلاف وشرد الملايين ودمر المدن وزرع الفتن في سوريا وليبيا واليمن وغيرها, هي اليد ذاتها التي خطت الدستور في تونس. وهي ذاتها التي سطرت المسار الديمقراطي هنا. وهي التي نحتت النموذج التونسي وحددت ملامحه حتى يكون ملاذا للمسلمين الذين ذاقوا الويلات في تلك البلدان… ولنا في ما نطقت به ألسن العملاء خير دليل, فها هو عرّاب التوافق في تونس ” راشد الغنوشي” يروج لما خطط له الغرب ويسوق لتأبيد هيمنة القوى الاستعمارية على البلدان الإسلامية رافعا فزاعة الإرهاب ممثلا في صنيعتهم  “داعش” حيث قال في تصريح ل  “وكالة الصحافة الفرنسية “نجاح التجربة التونسية هو مصلحة دولية، خاصة في مواجهة التطرف ومواجهة “داعش” وأمثالها، لأن النموذج التونسي هو البديل عن نموذج داعش…” وأضاف ” من أراد محاربة التطرف فليحاربه بالاعتدال، بهذا النموذج التونسي الذي يجمع بين الإسلام والعلمانية، بين الإسلام والديمقراطية، بين الإسلام وحرية المرأة…” كبرت كلمة تخرج من أفواه هكذا إمعات جمعوا بين الخسة والجبن, والوضاعة و الوقاحة بأن ساووا بين الإسلام وأنظمة الكفر, ورضوا أن يكونوا معاول هدم بيد المستعمر.. وثقوبا ينفث منها سمومه في جسم الأمة.

لقد تحدث “الغنوشي” صراحة عن النموذج الذي تريد القوى الاستعمارية تعميمه, وهذا عينه ما جاء على لسان الرئيس الفرنسي “ماكرون” خلال زيارته لتونس التي أصبحت فجأة شقيقة لتونس وكأن فرنسا لم ترتكب جرما قط في حق بلادنا, فقد قال “..إن فرنسا تدعم هذا البلد كما ندعم شقيق أو شقيقة… إن مسؤولية هائلة تقع على تونس لأن العالم العربي والمغرب العربي وكل شواطئ البحر الأبيض المتوسط تصبوا إليكم, وهي بحاجة لأن تراكم تحققون النجاح… فرنسا ستقف معكم حتى تنجحوا…”. فرنسا التي دعمت “بن علي إلى أخر لحظة في قمعه للآلاف ممن خرجوا مطالبين برحيله.. اليوم تقف إلى جانب تونس من أجل الغاية ذاتها التي دفعتها إلى الوقوف إلى جانب “بن على ” كسائر البلدان الاستعمارية وهي الحفاظ على النظام الديمقراطي الذي كالأفعى تقتضي ضرورة استمرارها تغيير جلدها مع المحافظة على كامل سمها.. وها هم حراس معبد الديمقراطية يغيرون ثوبهم دون التخلي عن سمهم الزعاف, فبعد أن أرغمونا على تجرعه بالحديد والنار, اليوم يدسونه لنا في الدسم وقد أوكلوا المهمة لزمرة من بني جلدتنا. ولكن حساب البيدر جاء مخالفا تماما لحساب الحقل, وكما أسلفنا الذكر  لم تكن ديمقراطيتهم الفتية سوى تلك العجوز الشمطاء الماكرة التي عانينا من مكائدها طيلة ستة عقود.. فلقد باءت جميع عمليات التجميل التي أجروها لها بالفشل الذريع, ولا أدلّ على ذلك من مقاطعة الانتخابات البلدية الأخيرة.. وهذا ما عبر عنه الموظف السابق بالسفارة الأمريكية بتونس ورئيس الحكومة الحالية ” يوسف الشاهد أثناء مثوله أمام سفراء الدول السبع الكبرى وسفير الاتحاد الأوروبي مؤخرا حيث عبر لهم عن وجود تخوفات من عدم نجاح النموذج التونسي خاصة بعد مقاطعة الانتخابات البلدية، ووجود أطراف أخرى تسعى إلى إفشال الديمقراطية التونسية… وكأن الفشل ليس من جينات الديمقراطية ولا من طبيعتها.

وأكيد أن ” الشاهد” أراد أن يقول هناك من يتربص بمخططاتكم القذرة وهو على أهبة الاستعداد قولا وفعلا لإفشالها, لذا عليكم يا سادتي دعم حكومتي لأن رحيل نظامكم الديمقراطي والنموذج الذي أنفقتم أموالا طائلة في سبيل نجاحه بات على شفا التلاشي ..وإنه متلاش لمحالة.

حسن نوير

CATEGORIES
TAGS
Share This