النّخب الانتهازية وتجارة المواقف والدماء

النّخب الانتهازية وتجارة المواقف والدماء

       مرة أخرى تأبى نخب العار في تونس إلا أن تفضح نفسها وأن تكشف لعموم الجماهير عن طبيعتها  الانتهازية  وأن ما تبديه من مواقف وفرقعات إعلامية  ليست سوى محاولة لركوب الموجات الجماهيرية الصادقة لتسجيل الحضور لغايات دعائية.

ضد “أبو منشار” ولكن يدعم “بشّار”

           فبعد التحركات الشعبية التي عبرت فيها أطياف كثيرة من الشعب التونسي عن رفضها لزيارة ولي العهد السعودي الذي قتل آلاف الأطفال في اليمن وسجن عشرات الدعاة والعلماء والصحفيين في بلاد الحرمين , وبعد ساعات من تقديم شكوى أمام القضاء التونسي ضد ” محمد بن سلمان ” فوجئ الناس بزيارة نقيب الصحفيين التونسيين “ناجي البغوري” إلى دمشق ولقائه ب”بشار الأسد” طاغية دمشق الذي ارتكب من الفظاعات ما يُشين كل من يجلس معه , فأي معنى للاحتجاج على من قتل الصحفي “خاشقجي” وآلاف اليمنيين ثم الجلوس مع من قتل 600 من الصحفيين ومئات الآلاف من السوريين عدا الملايين من مهجرين داخل البلاد وخارجها, أليس “ابن سلمان” تلميذا في مدرسة “نظام الأسد” البعثي الدموي.

         هذه التصرفات المفضوحة هي جزء من المشهد السياسي في تونس الذي غلب عليه النفاق المتبادل بين أحزابه السياسية, والسياحة الحزبية لنوابهم البرلمان والمحاصصة الحزبية في المناصب الوزارية والوظائف السامية, في أجواء تغلب عليها القيم النفعية والانتهازية الضيقة.

 فوسائل الاعلام لا تزال مهتمة منذ أسابيع بتحريك ملف الاغتيالات السياسية والتلويح بقميص “بلعيد” و”البراهمي” بحجة ظهور معطيات جديدة بينما يعلم الجميع ان إعادة فتح هذا الملف ليس سوى محاولة مكشوفة للمتاجرة الرخيصة بدماء المغدورين واصطفاف السياسي مدروس في سياق الاستقطاب الحاصل بين حركة النهضة وحزب نداء تونس على مشارف السنة الانتخابية الجديدة.

سياسة النفاق المتبادل

         كذلك سياسة التوافق التي شكلت السلوك السياسي لعمل الحكومة والبرلمان بجعله مرتبطا بتفاهم الشيخين , فان حصولها كان مفاجئة غير طبيعية ومصطنعة , وقد دلّت على وجود قدر كبير من المداهنة و النفاق المتبادل, خصوصا وان كل طرف منهما  يسعى لتمثيل تيار فكري اجتماعي وسياسي مناقض للطرف الآخر. وهكذا اكتشف الآلاف الناس ان الحركة التي لجئوا إليها خوفا من جحيم العلمانيين ومن ازلام النظام السابق وأملا في حياة بنظام الإسلام أصبحت تشارك أعدائها بالأمس في الحكم وتصادق على قوانينهم في البرلمان رغم كل التناقضات الفكرية والسياسية السابقة.  وهذا وجه آخر من الميكيافلية السياسية التي صبغت أجواء العمل السياسي  والتي تمّ ترويجها زورا تحت مسمى المصلحة الوطنية.

يأكل مع الذئب ويصيح مع الراعي

        وحتى الاتحاد العام التونسي للشغل المنظمة النقابية والسياسية الأكثر توسعا وتنظيما في تونس فقد دخل هو الاخر على خط المواقف السياسية الساخنة والباردة , وكان صوته يعلو تارة ويخفت تارة أخرى حسب أجندته السياسية وحسب ما يجني  من مكاسب مادية خلال مفاوضاته مع السلطة , هكذا أصبح الاتحاد يعارض الإصلاحات الكبرى المفروضة من صندوق النقد الدولي ويندد بالتدخل الخارجي في الشأن السياسي العام في تونس. وإننا وان كنا نستحسن ارتفاع منسوب الوعي العام على التدخل الخارجي في الشأن الداخلي في تونس والذي اصبح يتم جهارا وبشكل استفزازي , فإننا نستغرب ما يقوم به الاتحاد من استقباله لوفود من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي في مقره كما حصل في افريل 2017 وماي 2018 مع صندوق النقد, وفي افريل 2017  مع الاتحاد الاوروبي . فهل معرفة  تأثير سياسة هذه المؤسسات الاستعمارية على الوضع الاجتماعي تحتاج الى استقبالهم والتفاوض معهم أم انه يريد إعادة تجربة الاتحاد زمن “بن على” والحصول على بعض الامتيازات والزيادات في الرواتب مقابل هدنة اجتماعية يتم استغلالها لتمرير بعض الاتفاقيات الكارثية كما حصل من تمرير اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995 في صمت تام للاتحاد .

مصيبة الامة في  النخبة

   لقد اصبت الأجواء السياسية في تونس تعج بطائفة من السياسيين المتلونين وتجار المواقف الذين يغيرون مواقفهم كما يغيرون ملابسهم , مرة بدعوى المصلحة والوحدة الوطنية , ومرة أخرى  بدعوى المراجعات الفكرية بينما يعلم المتابعون وجماهير الناس ان  دوافعهم الحقيقية مادية نفعية وانتهازية بحتة , وان عقليتهم المكيافيلية هي التي دفعتهم الى تغيير مواقفهم طمعا في الوصول الى السلطة او البقاء فيها.

ان الامة تحتاج الى سياسيين حقيقيين أصحاب مواقف ثابتة تنطلق من هويتها وعقيدتها الإسلامية, فلا تخضع للمجاملات الدبلوماسية ولا تتغير بعد المناسبات الانتخابية ولا بالضغوط او التبريرات الواقعية او البراغماتية. فتجار المواقف والمتلونون المتحولون من النخب الفكرية والسياسة والإعلامية هم أكبر نكبة ابتليت بها الأمة  منذ عقود في رحلة بحثها عمن يعبّر عن تطلعاتها في التحرر من كافة أنواع التبعية للاستعمار والعيش بنظام الإسلام  وقيمة الفكرية والسياسية والحضارية.

محمد مقيديش

CATEGORIES
TAGS
Share This