الهجرة النبوية ذكرى إقامة الدولة الإسلامية الأولى وحافزا لإقامتها من جديد
تمر علينا يوم الإثنين 8 جويلية 2024 (1 محرم 1446 ه) ذكرى الهجرة النبوية، حدث عظيم له ما قبله وله ما بعده، عاشت أمة الإسلام من بعده حياة السؤدد والعز والتمكين في ظل حكم الإسلام،ولنا في هذا المقال وقفة مع الحدث:
1- الهجرة بين الإحياء والإحتفاء:
الحمد لله الذي شرع لنا أحكام الرشاد، وحذّرنا سُبل الفساد، والصلاة والسلام على خير هاد، المبعوث رحمة للعباد، الذي جاهد في الله حق الجهاد، وعلى آله وأصحابه الأطهار الأمجاد، الذين بنوا دولة الإسلام، فاجعلنا اللهم معهم واحشرنا في زمرتهم يوم يقوم الأشهاد يوم التناد، يوم يقوم الناس لرب العباد.
قال تعالى: (وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بَِٔايَٰاتِنَآ أَنۡ أَخۡرِجۡ قَوۡمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرۡهُم بِأَيَّامِ ٱللَّهِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰاتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ(إبراهيم 5)).
إن هذه الآية الكريمة تشير إلى أن التذكير بأيام الله هو من الشرع للاعتبار، وهو مُتعلق بتثبيت الدين في النفوس. ومن لطائف هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى يُخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أن أيام الرسل في دعواتهم، من إخراج الناس من الظلمات إلى النور، واحدة، وعندما يعلم الرسول من الوحي ما مرَّ به مَن قبله من الرسل، فإنه صلى الله عليه وسلم سيعلم ما سيمُر به هو نفسه، تلك الدعوات التي لا يستطيع تحمّل أعبائها ويقوم بتكاليفها إلا كل صبَّار شَكور… وعلى المسلمين أن يتذكروا أيام رسولهم الكريم في دعوته لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، والتي منها الهجرة، وما تحمل لهم من معانٍ وتكاليف حتى يكونوا على طريقته صلى الله عليه وسلم في حمل الدعوة والصبر عليها وشكر الله على عونه لهم في تمكينهم من عبادته، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا وأسوتنا في ذلك، وخطاب الله لرسوله هو خطاب لأمته ما لم يرد دليل التخصيص، وهنا يُعتبر ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم هو من صميم الدعوة المتعلقة بإقامة الدين.
لكن ممّا ابتلي به المسلمون اليوم، أنهم يقفون أمام مثل هذه الأيام على أنها ذكرى غير مُلزمة لهم بتكليف، فتراهم يذكرون أحداثها كقصة مُمتعة، وينبرون في تعريف المسلمين بدقائقها، ويُحوّلونها إلى مناسبة تاريخية واحتفال فيه الغناء والأكل والشرب، وينظرون إليها كماضٍ جميل ولّى وأدبر وليس كمشعل حاضر ومستقبل زاهر… فلا يشغلون أنفسهم بما هو مطلوب منهم تُجاهها، ولا ما تحمله لهم من تكاليف شرعية فيما يخص كيفية بناء الدولة ولا ما تضمّنته من مراحل سير وفق طريقة شرعية أتى بها الوحي، وتراهم إذا انفضَّ الاحتفاء بها كمناسبة يعتبرون أنفسهم قد أدَّوا حق الله عليهم فيها، وإلى موسم آخر.
إن كلمات المحتفلين بهذه الذكرى، لا تعدو عن كونها مواعظ، ألفها الناس وحفظوها عن ظهر قلب؛ فبعضهم يقول إن الهجرة هي هجر للمعاصي، وآخرون يقولون إن من معانيها أن يهاجر المسلم من المكان الفاسد إلى مكان أقل فسادًا، ويدعو بعضهم أن يتعلم المسلمون الصبر من الظروف والمعاناة التي مرَّ بها رسول الله في مكة، ويذكر بعضهم أن الهجرة وحّدت الأمة وعلينا الحفاظ على هذه الوحدة وتعزيزها وتقويتها، ويُذكّر بضرورة ارتقاء المسلمين فوق خلافاتهم حتى لا تتداعى عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، ويذكر بعضهم أن الهجرة كانت معلمًا تاريخيًا عظيمًا لذلك أرّخ به أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، ويطلب من المسلمين أن يُحافظوا على التأريخ الهجري في حياتهم، وأن لا يقتصروا على التأريخ الميلادي، فيما يقول آخرون إن ذكرى رأس السنة الهجرية شكّلت أساسًا تاريخيًا لهذه الأمة …
ومثل هذا الكلام كثير، ولكنه كله لا يدعو إلى تغيير عملي شامل لأوضاع المسلمين، بل جميعه يدعو إلى تغيير جزئية من جزئيات الإسلام دون بيان الكيفية، وإلى إصلاح نظري غير منضبط بطريقة معينة مخصوصة. نعم، إنه ليس بمثل هذه المواعظ يتم التأسي. إن كل ما ذكره العلماء هو من الإسلام، ويتعلق بالهجرة، ولكنه لا يحقق المطلوب لأنه عبارة عن مواعظ لا تحمل وراءها عمل، ولأنها لم تركز على المعنى الأساسي الذي تحمله وهو وجوب إقامة دولة الخلافة. ويمكن تشبيه وتمثيل ما يذكرونه على أن كل فكرة منها هي من الإسلام وهي كحبات المسبحة ولكنها تحتاج إلى خيط ينتظمها، وهذا الخيط هي الدولة الإسلامية ،ذلك الكيان الذي يجمع كل الأحكام وينفذها على الوجه المطلوب.
إن هذه الذكرى مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بإقامة الدين، فقد كانت هي المفصل الذي تحوّلت فيه دعوة الإسلام إلى مرحلة الدولة؛ والهجرة التي حدثت مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة عرفَّها علماء المسلمين بأنها الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام…
ولمّا كان المسلم مفروضًا عليه أن يعيش في دار الإسلام، كانت الأعمال التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم وأدّت إلى الهجرة، مطلوبًا القيام بها شرعًا على سبيل الوجوب(قال تعالى: ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا – وقال أيضا:ولكم في رسول الله أسوة حسنة). من هنا كان الوقوف على هذه المناسبة يجب أن يُستخلص منها الأحكام التكليفية التي تُخرج الناس من الظلمات إلى النور فالسنة التي تضمّنت أفعاله صلى الله عليه وسلم وأقواله وتقريراته كلها وحي واجبة الإتباع والأخذ بها، وقد بنى عليه الصلاة والسلام دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة وفق طريقة مخصوصة أساسها الوحي فهي إذا تكاليف وأحكام شرعية واجبة الإتباع والإلتزام (قال صلى الله عليه وسلم: مَن أطاعني فقد أطاع اللهَ ومَن عصاني فقد عصى اللهَ)، ومن طاعته تنسّم خُطاه وعدم الحيد عن ثراه حتى يأذن الله بالنصر والجاه.
إن اقتصار المسلمين وعلمائهم في هذه الذكرى على الاحتفال بها دون العمل على إحيائها يعني تغافلهم عن القيام بأمر الله تعالى في إقامة هذا الدين، وتخلِّيهم عن القيام بهذه المهمة الجليلة، وفيه صرف عن الهدف الذي جاء الإسلام من أجله، (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كلّه وكفى بالله شهيداً- الفتح 28)، ولا يكون هذا إلا بإقامة الدين، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، وهيَّأ لإقامتها في المدينة، وكانت الهجرة هي الجسر الواصل بينهما… فباقتصار المسلمين، كل عام، على الاحتفال دون العمل لإقامة الدين، فإنهم يقيمون حُجّة الله عليهم في كل عام؛ ومن هنا يجب أن تكون ذكرى الهجرة النبوية هي من أعظم ذكريات المسلمين التي توقظهم من سباتهم وغفلتهم عن هذا الفرض العظيم…
إن هذه الذكرى زمن الرسول كان ما بعدها غير ما قبلها… وهي يجب أن تكون كذلك للمسلمين اليوم… فهي وحي وبيان في كيفية إقامة حكم الإسلام، الخلافة على منهاج النبوة، في خطوات عملية فصّلتها السيرة النبوية لتكون لنا نبراسا ونورا نسير على هديه حتى لا نضل ولا نشقى، وكل سبيل غيرها فوق كونها إثم ومخالفة صريحة للشرع مُستوجبة للعقاب فهي كذلك لن تؤتي ثمرة إقامة الدولة لأن الله تعالى لم يترك أمر إقامتها للعقل والهوى وضغوط الواقع وإكراهاته وإنما بيّنها لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فسار عليها دون تحريف أو تبديل.
*إن هذه الذكرى إذا نظر المسلم لما بعدها من إقامة الدين ونشره، فهمَ ما الذي كان يعمل له الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، وما الذي كان يُحضّر له في المدينة، وما الذي كان يريد أن يُحققه من عالمية الدعوة ووصول الإسلام إلى كل بقاع الأرض. وفهمَ ما الذي يجب عليه هو أن يقوم به، وما الذي يجب أن يهيئ له… إنها ذكرى تذكِّر كل مسلم بمسؤولية إقامة الدين، وتحمّله مسؤولية التقصير في ذلك…
*إن هذه الذكرى يجب أن تدفع المسلمين إلى التفكر والتأمل بأن الكثرة الكاثرة من أحكام الإسلام مُعطلة بغياب أهم ثمراتها ألا وهي الدولة الإسلامية، فالجهاد في سبيل الله لنشر الإسلام مُعطل، والحكم بما أنزل الله مُعطل، وفرض نصب خليفة واحد أيضا مُعطل، وتوحيد بلاد المسلمين مُعطل، وإقامة كل أحكام الإسلام أيضا مُعطل، وإنه ليُصيبنا العجب ونتساءل كيف يستسيغ المسلمون فهم الدين بعيدًا عن وجود الدولة في حياتهم، وكيف يهنأون بالعيش وأحكام الإسلام غائبة، فَالإِسْلامُ أُسُّ وَالسُّلْطَانِ حَارِسٌ، وَمَا لا أُسَّ لَهُ مُنْهَدِمٌ، وَمَا لا حَارِسَ لَهُ ضَائِعٌ.
ونزداد عجبا حين تقبل أمة الإسلام أن يكون الدين هو فقط مجموعة الأحكام الشرعية الفردية المتعلقة بالعبادات والأخلاق والزواج والطلاق والميراث رغم ما شابها اليوم من تحريف وتشويه وتبديل وتعطيل من قبل الغرب الكافر وعملائه من حكام النظام العلماني المطبق بالحديد والنار في بلاد الإسلام والمسلمين، وحين لا تُقيم وزنا للأحكام التي تشكل أنظمة حياة لها، وحين لا تنظم علاقاتها مع غيرها مما تقوم به الدولة،…
إن سكوت أمة الإسلام عن هذا ورضوخها لما فرضه الغرب وعملاؤه عليها من إقصاء الإسلام عن حياتها وتخديرها وصرفها عمّا يجب في حقّها وإشباعها المغلوط لغريزة التدين على غير هدى، هو اعتراف وقبول بفصل دينها عن حياتها وركون للظالمين، والله حذرنا مغبّة الوقوع فيه حين قال (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تُنصرون(هود 113))
نعم إن أمة الإسلام اليوم، عندما تحتفل بهذه المناسبة على هذا الشكل في كل عام إنما تقيم الحجة على نفسها أمام ربّها مرات ومرات، مما يوقعها في إثم عظيم لا يرفعه إلا العمل الجاد للتغيير وفق طريقة الرسول الكريم.
2- الهجرة هي ذكرى إقامة الدولة الإسلامية الأولى وحافزا لإقامتها من جديد:
إن الهجرة كانت بعد أن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم فترة ثلاث عشرة سنة في مكة أسَّسَ فيها كتلة الصحابة على الإسلام؛ حيث كان يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وهؤلاء عرفوا فيما بعد بالمهاجرين، وكانت بعد أن أوجد رأيًا عامًا على إسلام الحكم في المدينة؛ حيث فشا ذكر الإسلام، وكانت بعد أن أوجد الأنصار الذين نصروا دعوة الرسول صلىوسلمع ورضوا أن يقيموا فيهم أمر الله تعالى بالحكم بما أنزل الله، وبايعوه بيعة العقبة الثانية، تلك البيعة التي سماها علماء المسلمين بيعة حرب، حيث بايعه المؤمنون في المدينة على إقامة حكم الله فيهم والعمل على إظهار الإسلام عل الدين كله، تلك البيعة التي حصلت الهجرة بعدها، وكانت من ثمارها، بمعنى أنه لو لم تكن هناك هذه البيعة لما حصلت الهجرة. واسمعوا إلى جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه وهو كان ممن حضر هذه البيعة يحدثنا عن هذه البيعة فيقول: «مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين، يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومَجَنَّة، وفي المواسم بمنى، يقول: من يؤويني، من ينصرني، حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش، لا يفتنك، ويمشي بين رحالهم، وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فآويناه، وصدقناه، فيخرج الرجل منا، فيؤمن به، ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإِسلام، ثم ائتمروا جميعًا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلًا، حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله, علام نبايعك؟، قال: على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة، قال: فقمنا إليه، فبايعناه، وأخذ بيده ابن زرارة ـ وهو من أصغرهم ـ فقال: رويدًا يا أهل يثرب! فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضّكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم جُيَيْنة، فبيِّنوا ذلك، فهو عذر لكم عند الله، قالوا: أمط عنا يا سعد, فوالله لا ندع هذه البيعة أبدًا، ولا نسلبها أبدًا، قال: فقمنا إليه، فبايعناه، فأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة» رواه أحمد.
ويحدثنا كذلك كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه الذي حضر هذه البيعة المباركة، وهذا اللقاء التاريخي الذي حول مجرى الصراع بين الإسلام والكفر، فيقول: خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق، فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشِعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلًا، وامرأتان من نسائنا، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا، ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، وكان أول متكلم، فقال: يا معشر الخزرج إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عِز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبَى إلا الانحياز إليكم واللحاق بكم، فإن كنتم ترَون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِمُوه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمِن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده.
قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن، ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، قال فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبيًا لنمنعك مما نمنع منه أزُرَنا (نساءنا وأهلنا)، فبايعْنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، ورثناها كابرًا عن كابر… قال: فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله، أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالًا، وإنا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع لقومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم (أي ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم) أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبًا، ليكونوا على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، وقد طلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم الانصراف إلى رحالهم، فقال رجلٌ منهم: والذي بَعَثَك بالحق لئن شئتَ لنميلنَّ عن أهل منى غدًا بأسيافنا؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم، فرجعوا إلى رحالهم». رواه أحمد.
هذا ما يجب أن يُذكِّرَ به العلماءُ المسلمين، وأمة الإسلام وأن يحيوا في أنفسهم هذه الذكرى على هذا المستوى من المسؤولية، وتوجيههم لأن يتحملوا جميعًا، علماء ومسؤولين، تكاليفها. فالله سائل الجميع عنها… فليحذروا، فإنهم بما يقومون به يضيعون هذا الفرض العظيم، وبما ننصحهم به فيه الخلاص لهم وللأمة جمعاء. فيجب أن تقوم الدعوة بيننا اليوم تمامًا كما كانت تقوم عليه زمن الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، حيث قام صلى الله عليه وسلم، هو وصحابته بعبء الدعوة حتى وصل إلى البيعة ثم الهجرة ثم إقامة الدولة في المدينة، قال تعالى: (وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ).
نعم، إن الهجرة أول ما تعنيه هي إقامة دار الإسلام، وخلافة الله في أرضه.
أيها المسلمون، إننا في حزب التحرير، نعلن لكم أننا نحمل الدعوة ذاتها التي جاء بها رسولنا الكريم، وسرنا وما زلنا على الطريقة ذاتها التي سار عليها صلى الله عليه وسلم، مؤمنين بأنها الطريقة الوحيدة التي سنتمكن بها من بناء دولة الإسلام كما بناها عليه الصلاة والسلام أول الأمر، متسلِّحين بسلاح الفكر والحجة وطلب النصرة ذاته لنحصد النتيجة ذاتها فنقيم دولة الإسلام بالمسلمين وفيهم؛ لتعود العزة لله ولرسوله وللمؤمنين في الأرض.
إن الدعوة إلى إقامة الخلافة الراشدة هي بمثابة إعلان عن حياة جديدة يرعاها نظام عالمي جديد بكل تفاصيله،هو نظام الإسلام، فلنكن من شهودها وجنودها وعُمَّارها وأئمتها، ولنجعل من الهجرة مناسبة لهجر أنظمة الكفر وأئمته وأوليائه، وإقامة أمر الله وإظهاره على الدين كله.
فاللهَ نرجو أن يعجِّل لنا بالنصر والتمكين؛ فيُفرج عن هذا الحدث الكوني عما قريب؛ لنعيش والمسلمين أجواء هذه اللحظات؛ فتشرق الأرض بنور ربها، ويتحقق فينا معنى الهجرة إلى الله وشريعته؛ فتهاجر أمتنا إلى رضوان الله وتخلع وتهجر كل أنظمة الكفر؛ ثم تكون خلافة على منهاج النبوة.
أ, علي السعيدي