الهجرة وصناعة التاريخ … هل نصنع اليوم تاريخنا؟

الهجرة وصناعة التاريخ … هل نصنع اليوم تاريخنا؟

يُطلق وصف “تاريخيّ” على الأحداث العظيمة التي تؤثّر في حياة الشّعوب والأمم وتغيّرها تغييرا، وفي هذه السّنوات تردّد هذا الوصف كثيرا على ألسنة السياسيين والإعلاميين يصفون به حدث الثورة (2011) ثمّ دستور 2014 ثمّ دستور 2022، ويستحضرون بفخر (غريب) دستور 1861 كأوّل دستور في العالم العربي، ثمّ دستور 1959 باعتباره أنشأ دولة الاستقلال والحداثة بزعمهم. دساتير وصفت بأنّها تاريخيّة، ولحظاتها باللحظات التّاريخيّة، ومعلوم أنّ اللّحظات التّاريخيّة هي الأزمنة الفاصلة بين عهدين أو زمنين، يكون الزّمن التّالي لتلك اللحظة هو الأعظم، بمعنى أنّه حقّق انتصارات وأهداف الشّعوب والأمم.
ولئن كان حدث انطلاق الثّورة 2011 حدثا هامّا باعتباره مقدّمة لتغيير جذريّ في البلاد، غير أنّ هذا الحدث لم يكتمل بعدُ، ذلك أنّ الثّورة كانت على نظام صنعه الغرب المستعمر، لكنّ النّظام لم يتغيّر وإن هرب الطّاغية القائم على تغييره، ونؤجّل الحكم على الثّورة لأنّها مازالت متواصلة معتملة متأجّجة في صدور أهل تونس وفي كامل البلاد الإسلاميّة… ومازالت حالة التّمرّد على الأنظمة التي فرضها المستعمر على بلاد المسلمين متواصلة.
أمّا دستور 2014 فكان صناعة غربيّة صرفة وضع تحت حراب المستعمر وضغوطه، وكان القصد منه وأد الثّورة وتجديد النّظام الغربي المتسلّط. ولا يختلف الأمر في دستور 2022، الذي وُضع تحت حراب المستعمر وتهديده، فكما كان دستور 1861 يوضع وفرقاطات الفرنسيس والأنجليز معسكرة تُحاصر تونس من ميناء حلق الواد، وضع دستور 2022 وبعثات صندوق النّقد الدّولي تجوس خلال الوزارات تطّلع على أدقّ أسرار البلاد وتضع برنامجا لتسير عليه الحكومات في تونس، وضع دستور 2022، ليُعطينا الصّندوق القرض، ويستولي على البلاد بالكامل،
هل هذه هي اللحظة التّاريخيّة؟ نعم هي لحظة تاريخيّة ولكن لمن؟ ومن صنعها ولفائدة من؟
هل تخلّصنا من الاستعمار؟ هل نحن من يقرّر مصيرنا وأعمالنا؟
الدّول الاستعماريّة كلّها متدخّلة في العمليّة السياسيّة في البلاد (وإن كان بتفاوت)، فهذا السّفير البريطاني اللورد طارق أحمد يتدخّل في تونس
السّفير الأمريكي الجديد (جوي هود)، يعلنها بوقاحة وصلف، قبل أن يتسلّم مهامّه في تونس أنّه سيستعمل قوّة أمريكا في فرض الدّيمقراطيّة في تونس، وأنّه سيُنسّق مع الجيش ليبقى الجيش على الحياد….وأنّه سيعمل على التّمهيد لتطبيع تونس (بل كلّ المنطقة) مع كيان يهود الصّهيوني.
فماذا كان جواب الرّئيس؟ وماذا كان ردّ الوسط السياسيّ؟
الرئيس استدعى وزير خارجيّته (عثمان الجرندي)، ليلقي أمامه خطبة عصماء عن السّيادة والاستقلال، وماذا بعد؟ لا شيء، هل أمر الرئيس برفض اعتماد السّفير الجديد مثلا؟؟؟ أم إنّه لا يجرؤ؟؟؟ ثمّ ماذا عن باقي المتدخّلين بل المتحكّمين في مفاصل البلاد؟ ماذا عن صندوق النّقد والبنك العالميين؟ هل أمر بطرد بعثاتهم من البلاد، (كما طرد بعثة لجنة البندقيّة)؟ بل سخّر حكومته ليكونوا موظّفين تنفيذيين يُنفّذون ما يُطلب منهم.
أمّا عن الوسط السّياسي فتتالت بياناتهم تستنكر كلام السّفير الجديد، ولكن في أيّ اتّجاه، أيستنكرون فرض الدّيمقراطيّة وهم دعاتها؟ أم يستنكرون علاقته بالجيش وهم من صمت صمت القبور عن الاتّفاقيّات العسكريّة مع أمريكا وآخرها تلك الاتّفاقيّة المشؤومة (خارطة طريق بعشر سنوات مع الجيش التونسي) أم عن كلامه عن التّطبيع وكلّهم لا يُمانع أن تتمّ عمليّة السّلام مع الكيان الصّهيوني؟ ففيم استنكارُهم وعلام احتجاجاتهم؟ لا نراه إلا احتجاجا يغطّي فضائحهم وتهافتهم على السّفارات ومنها سفارة أمريكا. فهل سنراهم يُطالبون بقطع العلاقات مع أمريكا، خاصّة وأنّ ما قاله السّفير ليس جديدا بل هو ديدن سفراء أمريكا جميعهم وآخرهم دونالد بلوم عرّاب التّطبيع والسّاعي إلى تركيز سفارة أمريكا لدى كيان يهود في القدس تمهيدا لتهويدها، ومع ذلك فكلّهم قابله وسعى في خطب ودّه وجلب رضاه، فماذا تغيّر؟ لا شيء. فلم يبق إلا الاحتجاج على الفضيحة، فالسّفير الجديد من الحزب الجمهوري حزب بوش وترامب، الذي لا يهمّه الفضيحة التي يحاول العملاء عبثا إخفاءها.
ما هكذا يُصنع التّاريخ، فكيف يُصنع؟
نستحضر هذا الذي ذكرناه ونحن نستقبل عاما هجريّا جديدا، تحضرنا فيه ذكرى عزيزة غالية ذكرى هجرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم،
نحن في تونس جزء من أمّة إسلاميّة عظيمة صنعت التّاريخ وملأت أركانه لأكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزّمان.
لكن من يصنع تاريخنا اليوم، من يُحدّد مصيرنا ودورنا في الحياة؟
هل دورنا في الحياة مجرّة البحث عن لقمة العيش؟ فإذا ما توفّرت حمدنا الله وادّعينا أنّنا حقّقنا الهدف؟ (فرحة الحياة)
هل دورنا أن نكون جزء من منظومة غربيّة رأسماليّة تستعبد البشر، وأن نكون فيها الخدم لأسياد ما وراء البحار؟؟؟؟
في هذه الأيّام الحزينة نستحضر الهجرةَ كانت مرحلةً جديدةً لكلّ البشريّة، منعطفا تاريخيّا بحقّ صنع بها المسلمون بقيادة الرسول صلّى الله عليه وسلّم التّاريخ الجديد يومها أقيمت لأوّل مرّة دولة الإسلام التي تحكم بالعدل والتي فرض الله عليها إنقاذ البشريّة كلّ البشريّة من تسلّط الكفّار والطّغاة والظّالمين في كلّ العالم.
يوم الهجرة كان الانتقال من الضعفِ والصبرِ على الأذى إلى التمكين والاستخلاف في الأرض، فكانت الهجرة نقطةُ بدءِ الحكمِ بما أنزلَ اللهُ على رسوله، أي إقامةُ حكمِ اللهِ في الأرضَ في دولةِ الإسلامِ الأولى في المدينةِ المنورةِ وكان انطلاق الزّمن الجديد والتّاريخ الجديد تصنعه الأمّة الإسلاميّة بنور ربّها،
لقد استمرّ التأريخ الإسلامي، قروناً عديدة وأزمنة مديدة، حتى بلغ الإسلام والمسلمونَ الآفاق في كلّ جهة من جهات العالم، دعوة للخير وجهادا للطّغاة والظّالمين من كلّ ملّة، وعلما واجتهادا، وحضارة وعمرانا ملأت الدّنيا عدلا وسلاما. ولم ينطفئ ذلك النّور حتّى تخلّى المسلمون عن الحكم بدينهم ويومها فقدوا فاعليّتهم في العالم أوّلا ثمّ في أوطانهم، وصارت قيادة التّاريخ للرأسماليّة والدّيمقراطيّة، وتوقّف التّاريخ الإسلامي يوم سقطت دولةُ الإسلام بعد أن استمرت أكثر من ألف وثلاثمائة سنة، فلم يعد للإسلام والمسلمين أيُّ أثرٍ في الحياة، لا في حياتهم ولا في حياة غيرهم.
تاريخنا اليوم يصنعه المستعمرون أوروبا وأميركا هم الذين يصنعون تاريخنا بل تاريخ البشر بحروبهم واستعمارهم، حروبا عالميّة قتلت عشرات الملايين وقنابل ذرية أميركية أهلكت الحرث والنّسل، وهيئة أمم ومجلس أمن ملآ العالم ظلما وظلاما، وبنكا وصندوق نقد دوليّين لامتصاص دماء الشّعوب. ويذكر الجميع حرب فيتنام والحرب الكورية واستعمار الجزائر وليبيا ووعد بلفور ونكبة فلسطين وحرب 67، يذكرون مذابح كفر قاسم ودير ياسين، وصبرا وشاتيلا وقانا وسبرينتسا وغروزني وسراييفو، يذكرون سقوط بغداد وكابول وقندهار، يذكرون تحطيم سوريا تحطيما لأنّ أهلها رفضوا جزّار الشّام وأعلنوا إرادتهم في إقامة الخلافة……
هكذا هو التاريخ دائماً وهكذا صار التاريخ اليوم لِصُنّاعه الغرب، كما قال بوش عندما سأله الصحفيون بعد احتلال جيشه العراق، بأنه يصنع التاريخ وهم يكتبونه، لكنه يصنع تاريخاً أسود، له ولحضارته ولقومه مثل ما كان من المغول.
لقد مضى على توقف التاريخ الإسلامي قرن من الزّمان أو يزيد، توقّفنا عن صناعة التّاريخ وصرنا ضياعا في ذيل الأمم الكافر المستعمر يصول ويجول في بلادنا طولًا وعرضًا، ونشاهد أشباه حكّام يوالونهم ويعادوننا، فإلى متى نستجير بالذئاب من الكلاب، ونحتمي بالثعالب من المخالب؟ الوطنيّة الضّيقة أردَتنا، والعلمانيّة أذلّتنا، والدّيمقراطيّة ضيّعتنا.
والإسلام بيننا كما أنزله الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم أوّل مرّة لم يمسّه تبديل أو تحريف فيه عزّتنا وبه كنّا سادة الدّنيا وصنّاع التّاريخ.
وتعاودنا في كلّ عام ذكرى هجرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لتكون حجّة علينا، ولنا حجّة ودليلا مازال يُثبت لنا أنّه قد آن الأوان أن نعود ونصنع تاريخنا ونستأنفَ مسيرة رسولنا الأكرم صلّى الله عليه وسلّم من جديد، بما بدئ به أوله، نصرة أهل القوّة فبيعة تعود بها الدّولة الإسلاميّة خلافة راشدة على منهاج النّبوّة، ولا طريق ثانٍ فضلاً عن ثالث لهذه الغاية الشريفة السامية، فهي وعد الله سبحانه وبشرى نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، بالخلافة الثانية الراشدة على منهاج النبوة، التي تعودُ من جديد تصنع تاريخ البشرية بفتح روما وتحرير بيت المقدس وبلوغ الإسلام وسلطانه ما بلغ الليل والنهار.
قال تعالى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُون).

CATEGORIES
Share This